إن جذور الأزمة الحالية في القطاع المالي العالمي تعود إلى الفترة التي تطور فيها قطاع الخدمات المالية من بنوك وبورصات وشركات تامين واستثمار وغيرها على حساب قطاعات الاقتصاد التقليدية من تجارة وصناعة وزراعة.

ونرى أن آيات التشريع في القرآن تحث على التقوى، وفي كثير من التشريعات يكتفي القرآن بوضع القواعد العامة ليتيح للناس حرية الحركة، ونرى ذلك في موضوع التجارة والتي أسس القرآن الكريم قيامها على التراضي والتعاون على الخير وتحريم الظلم والإثم، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء 29، وينتج عن هذا التراضي توقيع عقد يتراضى عليه الأطراف ويصبح ملزماً لهم وينبغي الوفاء به، وبعد ذلك فالمجال متاح أمام الاقتصاديين ورجال الأعمال لابتكار ما يتمشى مع ظروفهم من أشكال التعامل الاقتصادي في التجارة.

لقد حرم الله تعالى أكل الأموال بالباطل في آيات القران الكريم، وأكل المال بالباطل يكون بكسبه بطريق فاسد ومحرم شرعا كالقمار والربا وأخذ حقوق اليتامى والسحت والرشاوى والكسب الحرام ، أما التجارة القائمة على التراضي والتعاون على الخير وتحريم الظلم والإثم فهى استثناء لان فيها أكل للمال ولكنه بطريق حلال شرعا.

وقد حقق المضاربون على السندات من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة في البورصات المالية أرباحا خيالية على حساب الفئات الصغيرة في رؤوس الأموال، حتى أصبح الاقتصاد الرأسمالي كما يقول بعض الاقتصاديين أكبر بأضعاف مضاعفة من الاقتصاد الحقيقي وذلك عند مقارنة التعاملات اليومية للبورصة بالتعاملات اليومية للتجارة الدولية للاقتصاد المنتج، والنتيجة أن الاقتصاد الرأسمالي الحالي هو استبداد اقتصادي لأنه يخدم أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة والذين يملكون المال العالمي والخاسرون هم أصحاب الاقتصاد المنتج.

كان من أمثلة الاستبداد الاقتصادي قارون والذي أخبرنا عنه الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِين) القصص 76 ، وظاهرة الاستبداد الاقتصادي تختلف عن ظاهرة الغنى والفقر التي هي من نتائج حركة عمل الإنسان في المجتمعات، فقارون كان من قوم النبي موسى – عليه السلام - لكن ذلك لم يمنعه من أن يطغى عليهم وهذه صفة الشركات الاحتكارية العالمية مثل احتكارات النفط والكمبيوتر والتعدين وغيرها مما يضع الدول وأجهزتها في خدمتها.

أما النظام الاقتصادي في الإسلام فيقوم على مبدأ متاع الحياة الدنيا أي ما ينتفع به من الأشياء والتي تلبي المتطلبات الإنسانية، كما في قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُون) القصص 60، كما بين تعالى أن متاع الحياة الدنيا يخضع للتطور والتغير كما في قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) من الآية 185 من سورة آل عمران، ولفظ الغرور من الأصل غر وهو يعني قلة الخبرة وعدم النضوج.
إن متاع الحياة الدنيا بالنسبة للإنسان له مصدران أساسيان هما خيرات الأرض بما تحويه من نباتات ومعادن ومياه وأنعام الى جانب عمل الإنسان كما في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ . وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ . لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُون) يس 33-35.
وحب المال أحد أساسيات غريزة التملك الفطرية لدى الإنسان، كما في قوله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) الفجر20، ونرى أن السعي نحو حياة أفضل مع الحفاظ على المال العام ومكافحة الفساد يجب أن تتعاون فيه الدول والمجتمعات والأفراد.

إن الحفاظ على المال له وجوه كثيرة، مثل البعد عن الإسراف والترف، والبعد عن البخل بكنز المال وعدم إخراج الزكاة والصدقات ومساعدة المحتاجين، والمشاركة في النافع والمفيد من المشاريع الزراعية والصناعية والتجارية، وترك الربا وعدم المتاجرة بالمحرمات والممنوعات، وكذلك المساهمة في إيجاد فرص للعمل باعتباره المصدر الأساسي لكسب المال.

ومن الحلول المقترحة والقائمة على الأسس القرآنية أن يتم تعديل أسلوب التمويل ليكون التداول لأصول عينية وليس للديون، كما يتم منع أساليب المضاربات قصيرة الأجل من البيع على المكشوف والشراء بالهامش، وعدم التعامل في المؤشرات القائمة على التنبؤ بيعا وشراء، والانتهاء عن الفوائد الربوية واستخدام سلة عملات مختلفة لتوزيع المخاطر، وكذلك وضع ضوابط للمعاملات ووجود هيئات متخصصة للإشراف والرقابة على الأسواق والمؤسسات في إطار القواعد العامة التي أسسها القرآن الكريم، وأخيرا استخدام جزء من حصيلة أموال زكاة المال في دعم الغارمين والمثقلين بالديون.

إن الأسس القرآنية للاقتصاد تقوم على الحرية المنضبطة بالحلال والتعاون على الخير بما يحقق النفع للجميع من عدالة وتوازن والبعد عن الحرام الذي يؤدي إلى الظلم وأكل أموال الناس بالباطل.

محمد زهدي
صحفي وباحث في الدراسات الإسلامية