في هذه الصفحات من مجلتنا «التدريب والتقنية» سوف نتطرق إلى عدد من التحديات الحقيقية التي تواجه تطبيق نظم الجودة والاعتماد الدولي المعروف.
ولعلي أكتفي في هذا المقال بثلاثة تحديات فقط على سبيل المثال وليس الحصر، وتلك التحديات تؤثر على نظم الجودة وتهز صورة المنشآت التي تدعي حصولها على شهادات التميز والإتقان أو الجودة الدولية وتعاني منها الكثير من المنشآت الصناعية والخدمية وفي كافة قطاعات الصناعة والخدمات وفي كافة القطاعات العامة والخاصة والأهلية والتعاونية... وبإيجاز شديد، حيث إن الحديث في قضايا الجودة وتطبيقاتها ذو شجون كثيرة....
أولًا: من المسؤول عن نشر ثقافة الجودة وتقديم خدمات التوعية والتعليم لتطبيق الجودة شاملة وغير شاملة، ومنح شهاداتها المعتمدة والمعترف بها في المجالات المتخصصة: مجال الإدارة الداخلية، مجال البيئة، مجال سلامة الغذاء، مجال أمن المعلومات، مجال السلامة والصحة المهنية، مجال التعليم بكل مستوياته، مجال الخدمات العلاجية والطبية.... وإلى آخره؟؟ والسؤال هنا لماذا لا يكون هناك جهة مُحايدة أو جمعية أو مجلس مُحايد أو معهد إدارة متخصص يتولى من خلال خبراء ومتخصصين في كل المجالات توحيد جهود نشر ثقافة الجودة ومساعدة المنشآت في كافة التخصصات كي تؤهل نفسها وأيًا كان حجمها لتستوفي متطلبات نظم إدارة الجودة الدولية وتحصل على شهادات دولية معتمدة ومسجلة... أو يتم ابتكار عدد من المعايير المحلية والداخلية وعلى مستوى الدول العربية وبعدد محدد وواضح في كل مجال صناعي أو خدمي، بحيث إن المنشأة التي تنجح في استيفاء هذه المعايير ومن خلال إثبات ذلك بعمليات تفتيش وتدقيق ومتابعة مخططة أو متابعة مفاجئة... تكون جديرة بالحصول على شهادة عربية تثبت جدارة وجودة أعمال هذه المنشأة. يأتي هذا العرض لهذا التحدي في وقتنا هذا وقد أصبح تأهيل المنشآت للحصول على شهادات الجودة من شهادات آيزو وغير آيزو عملًا مفتوحًا وبدون ضوابط، وسبيلًا لاسترزاق مكاتب استشارية ومراكز تدريب متعددة، واسترزاق عدد ممن ينسبون أنفسهم للجودة وأعمالها واستشاراتها ولا تتوفر لديهم الخبرة المؤكدة واللازمة للخوض في تأهيل المنشآت ومنح شهادات الجودة والتميز.
ثانيًا: ومن أقوى التحديات في مجال العمل في نشر ثقافة الجودة وتطبيقاتها وجوائزها ومستلزماتها... هو موضوع الإرشاد والتوجيه... وهذه مسؤولية خبراء الإدارة وجمعيات الجودة المتخصصة بل ومسؤولية الجهات الحكومية الرقابية المنوط بها حماية المستهلكين والمواطنين من جوانب السلامة والصحة والبيئة ضد صور الغش التجاري وعيوب الصناعة وخداع مقدمي الخدمات أو حتى المغالاة في الأسعار بدون دواع مقبولة أو مفهومة، ولمزيد من التفاصيل... إذا كنا نريد الاطمئنان على مستوى جودة الخدمة التعليمية في مدارس التعليم العام ومعاهد ومراكز التعليم التقني والمهني وكلها مراحل تعليم قبل الجامعة، فما هي المرجعية المقبولة لنا جميعًا، هل تنطلق كل مدرسة وكل معهد وبجهودهم الذاتية أو بدعم من الدولة للحصول على شهادة جودة من هنا أو هناك (مثال شهادة الآيزو 9001) أو (شهادة السلامة والصحة المهنية طبقًا للمواصفة البريطانية ذات الرقم 18001) أو غير ذلك من شهادات تعتمد على مواصفات قياسية دولية محترمة كمواصفات لها قيمتها ومتعارف عليها، ولكن هذه الشهادات التي يتم منحها بناءً على هذه المواصفات أصبحت تتطلب مصروفات مالية قد ترهق إدارة المنشأة لدفع تكاليف المكاتب الاستشارية التي تدعي وتزعم تأهيل المنشآت للحصول على هذه الشهادات، ثم تكاليف الجهات المانحة لهذه الشهادات والتي باتت تتساهل في نظم عملها وأصول هذا العمل بحثًا عن أكبر المكاسب المالية أو أكبر المكاسب الإعلانية عندما تجمع في سجلاتها أسماء للعديد من المنشآت المزعوم حصولها على شهادات دولية في الجودة والتميز، وهي في واقع الأمر تطبق جزئيًا وشكليًا وورقيًا فقط الكثير من المتطلبات المفيدة والصادقة والنزيهة لهذه الجودة وهذا التميز. من هنا أسجل مقترحي هذا والذي أدعو فيه إلى تطبيق متطلبات «الاعتماد الأكاديمي» على جميع المدارس والمعاهد والكليات قبل الجامعية والجامعية وفي التعليم العام والتعليم التقني والمهني... حيث يوفر هذا الاعتماد الأكاديمي كل متطلبات تحقيق الجودة الشاملة في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، لأن المعايير الدولية المتعارف عليها لهذا الاعتماد توفر لكل المؤسسات التعليمية مرجعية واضحة ومتخصصة وبتوفير الإمكانيات اللازمة المادية والفنية لهيئة متخصصة في الاعتماد الأكاديمي لكل المؤسسات التعليمية، من المؤكد سوف تتوحد الجهود نحو هدف ثمين ومفيد وهو هدف أن تحصل كل مؤسسة تعليمية على شهادة اعتماد رسمية تفيد توافر وتنفيذ معايير راقية لضمان جودة العمليات التعليمية ومخرجات هذه العمليات لخدمة الطالب ومجتمعه من خلال ما تلقاه من معلومات وتدريب يؤهله للحصول على وظيفة منتجة في أي مجال كان من مجالات العمل التي يحتاجها سوق العمل وبالمهارة اللازمة التي تضمن له دخلاً ماليًا محترمًا ومتزايدًا، وكما هو معلوم أن معايير الاعتماد لمؤسسات التعليم المختلفة تحقق كل متطلبات الجودة الشاملة وهي متجددة وليست جامدة، ومتطورة باستمرار وتحميها وتطورها هيئات محددة ترعاها الحكومات وليست خاضعة لتعارض المصالح أو طمع القطاع الخاص. كما أن هذه المعايير تحقق متطلبات أي مواصفة قياسية للآيزو وغير الآيزو ...
ثالثًا: وأخيرًا، من أخطر التحديات التي تساهم في تعطيل بل وتجميد السعي نحو تحقيق الجودة والتميز في المنشأة.. هما الكسل واللامبالاة وإهمال التغذية الراجعة feedbackمن الزبون والعميل والمستهلك، وسواء كان هذا العميل من داخل المنشأة أو من خارجها, والتغذية الراجعة المقصودة هنا هي شكاوى العملاء واستبانات قياس آراء ومقترحات العملاء سواء الداخليين من منسوبي المنشأة ذاتها وموظفيها أو من الخارجيين من المستهلكين والزبائن والمستفيدين من أفراد المجتمع ومواطنيه. وسأقدم هنا مثالين واقعيين وفي منشأتين مختلفتين، المثال الأول كان أثناء تدقيق الرقابة الدوري Surveillanceaudit على إحدى المنشآت الحاصلة على جائزة جودة دولية وحاصلة على شهادة الآيزو 9001، وكانت هذه المنشأة قد قامت بتوزيع استبانات لقياس آراء ومقترحات منسوبيها، وكان عدد منسوبيها تسعمائة موظف في كل الدرجات الوظيفية. وعند التدقيق على هذا العمل الهام والمطلوب ضمن أعمال قياس فاعلية أداء العمليات الداخلية بالمنشأة وأعمال اكتشاف بنود عدم المطابقة وتحديد نقاط الضعف وتحديد فرص التحسين المتاحة للسعي نحو التحسين والتطوير المستمر والتحقق الكامل من تلبية وتحقيق كل متطلبات وتوقعات المستفيدين من أعمال المنشأة داخليًا وخارجيًا، اكتشفنا أن ممثل الإدارة وهو الشخص الذي يشرف إلى جانب مهام عمله الأساسية بالمنشأة على تطبيق نظام الجودة، قد قام بتوزيع تسعمائة استبانة على كل الموظفين، ولكنه لم يهتم بمتابعة إعادة جمعها من الموظفين، واكتشفنا أنه بعد ستة أشهر من توزيع الاستبانات قد جمع أربعين استبانة فقط من مجموع التسعمائة استبانة، واكتفى هو بهذا القدر، واعتبر أن هذا كاف، وعند فحص الأربعين استبانة وجدنا فيها عشرة شكاوى هامة للموظفين وخمسة مقترحات رائعة ومذهلة لتطوير أداء المنشأة وزيادة ربحيتها وزيادة دورها في خدمة المجتمع، ولكن ممثل الإدارة لم يهتم بشكاوى الموظفين ومقترحاتهم ولم يجمعها في تقرير ليرفعه للإدارة العليا للنظر فيه والإحاطة بأوضاع هامة تتطلب التدخل المباشر من الإدارة العليا بنفسها لإنقاذ المنشأة من التدهور... والسؤال: ماذا لو أن ممثل الإدارة هذا قد اهتم ببقية الاستبانات وحرص على متابعة زملائه بالعمل لتعبئتها؟ بالقطع كان سيتوفر له مقياس واضح للشكاوى والمقترحات للارتقاء بالمنشأة وزيادة ربحيتها وإنتاجيتها أضعافًا مضاعفة... ويكفي أن أحد الموظفين كان قد كتب في استبانته في بند المقترحات كلمات مؤثرة تضم كل متطلبات الجودة الشاملة حيث كتب: «أقترح أن نبدأ في تطبيق وتنفيذ القيم التي تتبناها شركتنا وتتباهى بها في الإعلانات وعلى الجدران وعلى صدر موقعها على الإنترنت، فكيف يبلغ البنيان يومًا كماله، إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ».
المثال الثاني كان أثناء تنفيذ ذات التدقيق على إحدى المنشآت الغذائية الحاصلة على شهادة الآيزو 9001، وكانت دهشتي من أمرين: أولهما أن هذه المنشأة من المفروض أن تكون حاصلة على شهادة الآيزو22000 وليس الآيزو 9001 نظرًا لخطورة عملها الغذائي على صحة المستهلكين. والأمر الثاني كان اكتشافي ضرورة تشديد الرقابة على متابعة شهادات المعايرة الصناعية للموازين وأجهزة قياس درجات الحرارة والأطوال وغيرها من القياسات وضرورة إلزام كل الشركات التي تقوم بتوريد أي منتجات أو مستلزمات إنتاج غذائي للمصانع والمزارع أن تقدم شهادات رسمية منها كجهات توريد تفيد مطابقة منتجاتها للمواصفات القياسية الرسمية، وأن هذه المنتجات صالحة للاستهلاك الآدمي أو أنها خالية تمامًا من أي مصادر خطر كيميائية أو بيولوجية أو فيزيائية..

بقلم: محمد هشام عقيلي