يا ليتني من درس غيري تعلمت واصلت في التعليم حتى تخـــرجت
ما جتني الدنيا على ما تمنيت مقسوم أعيش العمر مهموم وحزين
سافرت عن ربعي وعنهم تغربت يا كم من الغـــــربة لقيته وعانيت
ويمضي الشاعر الشعبي في سياق قصيدته المعبرة في وصف تجربته المعتمدة على الخبرة المادية التي مر بها, ويصف خبرته ومعاناته في طلب الرزق والعلم التي تنتهي بهروبه من عمله، وهي تذكرني برائعة الطّغرائي في «لامية العجم».
وإن علاني من دوني فلا عجب لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
أعلل النفس بالآمال أرقبــــها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
إن السنوات التي أمضيناها في التعليم على مقاعد الدراسة جعلت كثيرًا منا يعتقد أن التعلم استجابة للمعلم في الفصل الدراسي. بهذه الفكرة في عالم الإدارة من الأوقات المحددة لإنجاز المشاريع والأداء المادي يبدو التعلّم بعيدًا ولا صلة له بموضوعنا. ومع ذلك المدراء الناجحون بحاجة للمعرفة ولمهارات محددة بالإضافة لقدرات على التكيّف مع المتغيرات الدولية، وهذا يحتّم على المدراء التعلّم.
والتعلّم تغيير في السلوك أو الأداء والذي يظهر كنتيجة للخبرة. والخبرة تتخذ أشكالاً مختلفة مثل ملاحظة تجارب الآخرين، أو القراءة أو الاستماع لمصادر المعلومات ، أو نتائج تجربة ذاتية. هذه الطريقة الهامة في التكيّف مع الأحداث مرتبطة بالاختلافات الشخصية في القناعات والإدراك والشخصية. ولك أن تتخيل فردين يخضعان لتجربة مشابهة في التحول للعمل في بلد أجنبي، من المحتمل أن يختلفا في تبني سلوكهما لهذه التجربة، بمعنى آخر كل شخص يتعلّم بطريقة مختلفة. وعملية التعلّم دائرة مكوّنة من أربع مراحل، أولاً مواجهة الشخص للتجربة المادية، هذه الحادثة يتبعها التفكير والملاحظة المتأملة، والتي تقوده إلى مفاهيم مجردة، في المقابل خبرة تجريبية حديثة. فالنتائج التجريبية تولّد خبرات جديدة وهكذا تتكرر العملية.
يطوّر الأفراد أساليب تعلّم شخصية تختلف في كيفية التأكيد على كل مرحلة في الدائرة التعلميّة. الباحثون حددوا أربعة أساليب أساسية تتضمن عناصر من الأربعة الدوائر التعلميّة. تلخيص الخصائص والقدرات التعلميّة المهيمنة لهذه الأساليب الأربعة والتي يمكن تسميتها: الاستطرادي، الاستيعابي، التجميعي، البديلي. وبتفصيل هذه الأساليب نجد الشخص الاستطرادي قدراته التعلّمية المهيمنة تعتمد على الخبرة المادية والملاحظة التأملية. وخصائص التعلّم لديه هي توليد الأفكار، ورؤية الوضع من زوايا وبمفاهيم متعددة، مع الاهتمام بالمعنى والقيمة، بالإضافة للميل للاستمتاع بالاتصال بالناس والثقافة والفنون. ومثل هؤلاء يفضل إسناد الوظائف الاستشارية وإدارة الموارد البشرية وتطوير المنظمات.
أما الشخص الاستيعابي فيمتلك قدرات تعلّمية مسيطرة عليه تتمثل في المفاهيم التجريدية والملاحظة المتأملة. وهو ماهر في إثارة الجدل والإقناع وخلق نماذج نظرية، وجمع الملاحظات ورصد التعليقات المتباينة وشرحها وتفسيرها بشكل متكامل. ويميل إلى العناية بالأفكار والمفاهيم التجريدية مع تجاهله للناس والعلاقات. أما الشخص التجميعي أو التقريبي والذي يهيمن عليه قدرات تعلّمية كالمفاهيم التجريدية والخبرة الحديثة، فهو ماهر في الأفكار التطبيقية العملية والحاسمة والتفكير الاستدلالي والافتراضات. ويفضل التعامل مع المهام التقنية وليس مسائل العلاقات الشخصية. ولذلك أنسب الأعمال له الهندسة.
البديلي المجامل وهو لّين العريكة لطيف، وقدراته التعلّمية تعتمد على الخبرة المادية والخبرة الحديثة، وهو ماهر في إصلاح القرارات، تنفيذ الخطط، المشاركة في الخبرات الجديدة، ويميل إلى الهدوء واللين مع الآخرين وربما يظهر أحيانًا عديم الصبر ومندفع. وانسب الوظائف لمثل هذا النوع التسويق والمبيعات. وهنا يبرز التعليم المستمر للأفراد والمنظمات في البحث عن الفرص التعليمية من خلال الفصول التعليمية والقراءة والحديث مع الآخرين والاستفادة وأخذ العبر من دروس الحياة وتجاربها. ولهذا أعود لأول بيت من قصيدة الشاعر ياليتني من درس غيري تعلمت. وهذا يؤكد أهمية الخبرة والتجربة في بناء الأفراد والمنظمات والمجتمعات. لذلك نحن بحاجة لنقل التجارب الناجحة للأفراد والمنظمات والمجتمعات والاستفادة القصوى منها لنرتقي بمجتمعاتنا للأفضل. ويعتبر التعليم والإعلام من أهم اللاعبين في تنمية وتطوير المجتمعات أو دمارها. وإهمال هذين المرفقين يقود المجتمع إلى كارثة تحيق به في الأمن والاستقرار والنمو والازدهار والاستمتاع بحياة هانئة تسودها القيم النبيلة والمعاني السامية.

بقلم: د. عبدالرحيم المالكي