كندا من الدول الرئيسية المؤثرة سياسيًا واقتصاديًا وصناعيًا وعسكريًا في عالمنا اليوم. فهي دولة صناعية كبرى، وعضوة في الكومنويلث البريطاني، ومجلس التعاون الاقتصادي والتنموي Organization of Economic Cooperation and Development (OCED)،وحلف الأطلسي، ومشاركة فعالة في مجال حفظ السلام العالمي تحت مظلة الأمم المتحدة، كما أنها مشاركة فعالة في التحالفات الحديثة لغزو ما يسمى بالدول المارقة عن القانون الدولــــــي. وهي ثاني دولة في العالم مساحـــة (بعد روسيـــــا)، إذ تبلغ مساحتهــــا حوالي عشـرة ملاييـن كيلو متر مربع(1).
وتعود نشأة كندا كدولة اتحادية فيدرالية Federal Stateإلى عام 1867م حينما تشكلت من ثلاث مستعمرات هي كندا (التي كانت تضم كيويبك وأونتاريو)، ونيو برانزويك، ونوفاسكوشيا.
وما لبثت الحكومة البريطانية أن تخلت بعد ثلاث سنوات لهذه الدولة الناشئة عن المناطق الشمالية الشاسعة التي كانت تابعة لشركة خليج هدسون (شركة أسسها مغامرون إنجليز كانت تتنافس مع نظراء لهم فرنسيين في السيطرة على تجارة الفراء مع الهنود الحمر السكان الأصليين لكندا). وقد تتابع انضمام المناطق لهذه الدولة حتى وصل عددها لعشرة بانضمام نيوفاوندلاند إليها عام 1949م(2).
وتتكون هذه الدولة حاليًا من اثني عشر إقليمًا تسمى عشر منها مقاطعات واثنان منها منطقة. ورغم أن كندا دولة فيدرالية مستقلة استقلالاً تامًا إلا أن ملكة بريطانيا تعتبر تقليديًا ملكة لها. والتعليم في كندا - مثله مثل العديد من الفيدراليات العريقة في ا لغرب - شأن يخص كل مقاطعة أو منطقة أو إقليم أو ولاية.
فعندما اتحدت المقاطعات الأربعة المؤسسة لكندا كدولة فيدرالية جعلت التعليم من مسؤوليات حكومات المقاطعات، وتم التأكيد على ذلك في الدستور الصادر عام 1982م(3). وعليه يمكن القول إن في كندا اثني عشر نظامًا للتعليم واثني عشر نظامًا للتدريب والتعليم التقني والمهني.
نشأة الكليات المهنية
يتمثل التدريب التقني والمهني في كندا بشكل رئيسي في البرامج التقنية والمهنية التي تقدم في الكليات المهنية المعروفة فيها بمصطلح كليات المجتمع. ويستخدم هذا المصطلح كمسمى شامل على حوالي مائتين من كليات السنتين التي تحمل أسماء محلية في كل مقاطعة مثل كليات الفنون التطبيقية والتكنولوجيا College of Applied Arts and Technologyفي أونتاريو، وكليات التعليم العام والمهني. Collegedein في كيبيك، والكليات الإقليمية في ألبرتا، وغيرها.
بدأت الكليات المهنية في كندا قبل أكثر من ثلاثة قرون في أحضان الكنيسة التي كانت تشرف على التدريب والتعليم، فقامت بتأسيس عدد من كليــات الجزويت (نسبة إلى طائفة الجزويت الدينية المسيحية) في مدينة كيبيك ومونريال في عام 1700م في تخصصات مهنية لإعداد مرشدي السفن والربابنة والمستكشفين والملاحين. وكانت التطورات في هذا التعليم بطيئة وغير مستقرة، وعزي هذا إلى أن كندا كانت تلبي احتياجاتها من القوى العاملة عبر المهاجرين(4).
ولكن التطور الجذري الذي غير وجه الكليات المهنية في كندا حدث خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت بدايته بمبادرة من الحكومة الفيدرالية نتيجة لقانون مساعدة التدريب المهني والفني الصادر عام 1960م.
وكان من أبرز وجوه هذا التغيير تبني كندا لفكرة كليات السنتين كآلية لتقديم التدريب والتعليم المهني والتقني، وهي كليات أول ما عرفت كبدعة أمريكية في أواخر القرن التاسع عشر(5)، تعارف على تسميتها بكليات المجتمع. فبرعت كندا في إنشاء هذه الكليات ككليات مهنية حتى أصبحت إحدى أهم الدول الرائدة في هذا من حيث تنظيم هذه الكليات وتشغليها ببرامج وخدمات مستجيبة لاحتياجات مجتمعاتها بقدر كبير.
وتقدم هذه الكليات حاليًا عدة مئات البرامج التعليمية المتنوعة المستجيبة لاحتياجات الدارسين في مختلف الأعمال ومناسبتها في نفس الوقت لقطاعات الصناعة والأعمال والمجتمع في كل أنحاء كندا، نتيجة لما تمر فيه هذه البرامج من عمليات تطوير مستمرة، وخاصة في مناهجها، بما يواكب احتياجات وتطورات سوق العمل ونمو الاقتصاد. وتتخذ هذه البرامج التعليمية ثلاثة مسارات هي:
أولاً- مسار البرامج التقنية والمهنية الذي يؤدي بخريجيه أساسا لسوق العمل.
ثانيًا- مسار الانتقال للجامعة الذي يؤدي بخريجيه بعد دراسة السنتين الأوليين بالكلية للانتقال إلى أي كلية أربع سنوات أو جامعة بموجب اتفاقية تعرف باتفاقية التنسيــــق Articulation ليستكملوا في أي منهما الدراسة المؤدية لنيلهم البكالوريوس بعد إنهاء دراسة السنتين الباقيتين، أي الثالثة والرابعة من الدراسة الجامعية.
ثالثًا- مسار التعليم المستمر ويتيح للملتحقين بها أخذ دورات تطويرية قصيرة متنوعة تقنية ومهنية لأغراض تجديد المعلومات أو التأهل لمهنة جديدة أو لمجرد التسلية واستثمار وقت الفراغ.
ولعل هذا النمو الكبير لكليات المجتمع في كندا كان نتيجة لعاملين أحدهما أن هذه الكليات أوجدت في دولة تعج في أرجائها بالمجتمعات المحلية وكان المطلوب من هذه الكليات الاستجابة لحاجات هذه المجتمعات ببرامج تدريبية ذات مناهج تحقق هذه الاستجابة، وثانيهما استخدام هذه الكليات كوسيلة لتحقيق تكافؤ الفرص لتوفير التدريب والتعليم العالي بمجتمعات قد يكون من المكلف استحداث جامعات بها لما يتطلبه استحداثها من موارد ضخمة قد لا تتوفر بالقدر الكافي بينما استحداث كليات مجتمع تكلفته أقل ويلبي في نفس الوقت غرض توفير هذا التدريب والتعليم العالي ولو بقدر جزئي.
تطوير المناهج التدريبية
إن تطوير مناهج التدريب التقني المهني في كليات المجتمع الكندية هو عملية حيوية تتم عبر عمليتين، أولاهما التعاون مع مختلف الجهات والقطاعات ذات العلاقة في سوق العمل فيما يتعلق ببرامجها التأهيلية المهنية من خلال آليات عدة أشهرها اللجان الاستشارية. وثانيهما التنسيق Articulation مع المؤسسات التعليمية مثل مؤسسات التعليم المهني الثانوية بالنسبة للمواد التي يمكن أن تعتبر متطلبات سابقة، ومثل الكليات والجامعات الأخرى فيما يتعلق ببرامجها للانتقال للجامعة.
قد تختلف المقاطعات وكليات المجتمع الموجودة فيها في تخطيط المناهج التدريبية التقنية والمهنية بها من حيث التفاصيل الدقيقة، ولكنها تتفق من حيث الخطوط العريضة على نحو يقترب مما هو عليه الحال في مقاطعة أونتاريو العريقة في تخطيط مناهج برامج التدريب التقني والمهني من خلال كلياتها المعروفة باسم كليات الفنون التطبيقية والتكنولوجيا الآنفة الذكر.
ففي هذه المقاطعة ينبغي على أي مقترح لاستحداث برنامج تدريبي تقني ومهني جديد من أن يحظى بموافقة الوزير المختص من خلال الإجراءات التالية(6):
أولاً- تقديم المقترح مستوفيًا لمجموعة معايير متسقة تشمل الآتي:
1- أهداف البرنامج التدريبي المقترح.
2- علاقة هذا البرنامج بالبرامج القائمة بالكلية مقدمة الاقتراح.
3- المتطلبات المالية والإنشائية والتجهيزية للبرنامج.
4- الموارد البشرية اللازمة للبرنامج.
5- مدى نجاح البرامج القائمة بالكلية.
ثانيـًـا- يتلقى الوزير المقترح فيحيله إلى الإدارة المختصة بوزارته لدراسته وهي إدارة خدمات البرامج.
ثالثــًا- تقوم هذه الإدارة بدراسة المقترح وتقديم التوصية المناسبة للوزير.
رابعــًا- ينظر الوزير في التوصية، فإما أن يجيز المقترح أو لا يجيزه، حيث إن رفع المقترح إليه بعد الدراسة لا يعد ضمانًا للموافقة التلقائية.
خامسًا- بعد أن يجاز البرنامج تبدأ الخطوات لتصميم برامج له. أما البرامج القائمة فيتم تطويرها بعد إجراء الدراسات اللازمة بناء على المعلومات التي تتوفر من مصادر عدة سيرد ذكرها بعد قليل.
وتتحدث كلية ويليس للأعمال والتكنولوجيا(7) عن تعاملها مع تطوير المناهج فتقول: إنها تكافح لتضمين مناهجها ما يساعد طلاب برامجها في الحصول على المعارف والمهارات التي يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى متصلة بالمنهج، وإنها تدقق في جعل وحداتها الدراسية التي تتضمنها مناهجها ذات تسلسل منطقي لتضمن أن أساسًا صلبًا قد وضع ولتسمح بنوع من التدريب المتكامل الحلقات.
وتواصل الكلية حديثها بأنها تعمل على تحقيق شيء من الأهداف العليا التي يتضمنها تصنيف بلوم المشهور للأهداف التعليمية (والذي يستخدم أيضا لوضع الأهداف التدريبية)، وذلك من خلال إشراك الطلاب المتدربين في المناقشــــــــات، وتوجيه أسئلة مثيرة للتفكير عليهم، وتدريبهم بتمارين تطبيقية، وتكليفهم بإنجاز مشاريع حقيقية أثناء تدريبهم تساعدهم على تطبيق النظريات التي تعلموها في الفصول في المواقف التي سيواجهونها في مواقع العمل الحقيقية.
دواعي تطوير المناهج
كندا كما ذكرنا تعد من كبرى الدول الصناعية والاقتصادية المؤثرة في الاقتصاد العالمي.
كما أنها من من الدول المسهمة في تطور المدنية والحضارة المعاصرة بما تملكه من ثروات معرفية وقدرات بحثية وتطبيقيات تكنولوجية. وبالتالي فإن دواعي تطوير المناهج التدريبية التقنية والمهنية بها تتمثل في الآتي:
أولاً- نمو الثروات المعرفية السريعة لها سواء المنتجة محليًا أو وطنيًا من خلال البحوث أو المستحصل عليها عالميًا من خلال شبكات التبادل المعرفي مع الدول الأخرى.
ثانيًا- التطور التكنولوجي السريع. مجتمعات صناعية تتطلع للمنافسة الداخلية والخارجية وراصدة للتطورات العلمية وصانعة لها.
ثالثـًا- تقلبات سوق العمل السريعة وتجدد الوظائف وتكرار البطالة.
رابعًا- المنافسة الشديدة بين الكليات لاستقطاب مزيد من المتدربين والدارسين من داخل كندا أو من خارجها واستخدام البرامج التدريبية المطورة كأداة أساسية لذلك، وبالتالي التأهل للحصول على مزيد من الموارد المالية والمادية المحلية والفيدرالية لتنمية قدراتها التدريبية.
مصادر معلومات التطوير
يتم استقاء معلومات تطوير مناهج التدريب التقني والمهني في كندا من مصادر متعددة، من أهمها ما يلي:
أولاً- الخطط الاستراتيجية:
تقوم كل ولاية على مستوى نظام التدريب التقني والمهني وعلى مستوى كل مؤسسة تدريب تقني ومهني بعمل خطة استراتيجية. وعادة ما تكون هذا الخطة ثلاثية، أي لمدة ثلاث سنوات، وتكون البرامج التدريبية التقنية والمهنية أحد أبرز مكوناتها، وتعد المناهج أحد أهم تلك المكونات. ومثال ذلك الخطة الاستراتيجية لكلية هولند Holland College لعام 87 /1989م(8). ويتم في هذه الخطط مراجعة البرامج القائمة وتحديد مدى الحاجة إلى برامج جديدة. وفي إطار هذه المراجعة يتم تحديد مدى الحاجة لأحداث تطوير في البرامج القائمة بما في ذلك تطوير المناهج.
ثانيًا- التقويم البرامجي الدوري:
يعد التقويم البرامجي الدوري من العمليات الهامة بكليات المجتمع وفقا للقوانين الحاكمة لمثل هذا النوع من المؤسسات التدريبية في كندا.
من ذلك على سبيل المثال قانون الكليات والمعاهد لعام 1979م في مقاطعة بريتيش كولومبيا، وهو القانون الذي تدار بموجبه كليات المجتمع بالمقاطعة، نصت مادته رقم (66) على الآتي(9): «يجب على كل مؤسسة (أي كلية مجتمع) أن تخطط لبرامجها وعملياتها وتقدمها بشكل مستمر وأن ترفع تقريرًا عن هذه البرامج والعمليات بناء على طلب الوزير وفق صيغة تتمشى مع توجيهاته». وبالطبع فإن رفع التقرير عن البرامج يعني ضمنًا رفع تقرير عن وضع المناهج بها، هذا إذا كان معنى البرنامج مختلفًا عن معنى المناهج، ولكن في العديد من الوثائق الكندية ترد كلمة برنامج مرادفة أو بديلة لكلمة مناهج.
ثالثًا- الدراسات التتبعية للخريجين:
تقوم كليات المجتمع في كندا بإجراء دراسات تتبعية لخريجي برامجها بشكل منتظم عبر استبيانات توجهها لهم عقب تخرجهم بمدة لا تزيد عن ستة أشهر عادة لمعرفة عما إذا كان مآلهم صار إلى سوق العمل أم غيره (مواصلة الدراسة أم الانضمام لقافلة العاطلين)، وتتضمن أسئلة هذا الاستبيانات - ومثالها مسح توظف خريجي 1999م لمعهد ساسكاتشوان للعلوم والتكنولوجيا(10) - أسئلة تهدف لجمع معلومات عن مختلف جوانب البرنامج بما فيها، مدى رضا المتخرج عن التدريـــب (أو التعليم) الذي تلقاه، وبالتأكيد أن ذلك التدريب يتضمن المناهج التدريبية له ممثلة في محتوى المقرر التدريبي والخبرات المتضمنة فيه والتطبيقات المختلفة لهذه الخبرات، وكفاءة المدرب، وفعالية طريقة التدريب.
رابعًا- استطلاع آراء أرباب العمل:
تقوم كليات المجتمع بشكل منتظم باستطلاع آراء أرباب العمل أيضًا (أصحاب المشاريع الصغيرة أو الشركات الضخمة) لمعرفة آرائهم عن طلابها الذين التحقوا للعمل معهم وعما إذا كان التدريب الذي تلقوه في البرنامج الذي تخرجوا منه كان وافيًا بالمراد، أو أن به أوجه قصور تحتاج لاستدراك أو تطوير. ويتم الاسترشاد باستجابات أرباب العمل هؤلاء في عملية تطوير مناهج تلك البرامج لتكون أفضل في تأهيل الملتحقين بها لسوق العمل.
إن كل هذه الآليات السابقة تسهم بطريقة أو بأخرى في توليد المدخلات لإيجاد أنماط تطوير جزئي أو كلي لمناهج التعليم التقني المهني المستديمة.
آليات تطوير المناهج
توجد في كندا عدة آليات تعمل بطريقة أو أخرى لتطوير مناهج التدريب التقني والمهني في كليات المجتمع بها. ومن أهم هذه الآليات ما يلي:
أولاً- شرككة الكليات:
المقصود بعبارة شرككة الكليات اعتبار كل كلية شركة من وجهة النظر القانونية ولكنها غير ربحية. ولعل كلمة (شرككة) غريبة على القارئ، وهي فعلا كذلك، لا بل وجديدة قد يكون كاتب هذا التقرير أول من صكها لتدل على المعنى المشار إليه قبل قليل. وتعتبر كليات المجتمع في كندا بمثابة شركات Corporations وفقًا لقوانين التعليم ما بعد الثانوي Postsecondary Education في المقاطعات الكندية، وبناء على ذلك فإنها تدار من قبل مجالس إدارة Boards of Governors. ومن مهام مجلس إدارة كلية المجتمع على سبيل المثال في مقاطعة نيوفاوندلاند تحديد المواد والبرامج التدريبية والدراسية التي تقدمها الكليات أو إلغاؤها بما يتمشى مع السياسات والتوجيهات المتعلقة بالتعليم والتدريب ما بعد الثانوي في المقاطعة والتي تم وضعها بالتشاور ما بين الوزير ومجالس إدارات هذه الكليات(11). إن مثل هذه الوضع القانوني يتيح لهذه الكليات مرونة كبيرة في استحداث برامج التدريب التقني والمهني وتطوير مناهجها بما يساير متطلبات السوق والمجتمع وتطوراتهما.
ثانيًا- الإدارات المختصة بالمناهج:
توجد ضمن الهياكل التنظيمية لكل الوزارات المعنية بالتدريب والتعليم التقني والمهني في كندا إدارات متخصصة بشؤون المناهج.
وتعتبر هذه الإدارات جهات اختصاص وأيضًا مرجعيات في مجال تصميم المناهج وتطويرها. ويتم الاستعانة بها في إقرار الخطوط العريضة لاستحداث البرامج التدرييبة التقنية والمهنية وتطويرها في كليات المجتمع بما في ذلك استحداث مناهجها وتطوير هذه المناهج. ولكن وضع التفصيلات الدقيقة للمناهج الجديدة أو المطورة يتم في كل كلية على حدة بتضافر جهود نائب العميد للشؤون الأكاديمية والأقسام التدريبية والعلمية المعنية وأعضاء هيئة التدريب والتدريس بها بالتعاون والتشاور مع المجالس الاستشارية القائمة بالكلية.
ثالثًا- اللجان الاستشارية:
يعتبر تشكيل هذه اللجان من الممارسات الراسخة في كليات المجتمع هذه، لما لهذه اللجان من دور كبير في تمكين هذه الكليات من إيجاد برامج تدريب تقني ومهني ملبية لاحتياجات الطلاب المتدربين وسوق العمل. فتقريبًا تضم كل هذه الكليات شكلاً من أشكال هذه اللجان لبرامجها التدريبية التقنية والمهنية. فبعض هذه الكليات بها ما بين خمسين إلى ستين برنامجًا تدريبيًا ولكل برنامج منها لجنته الاستشارية.
وبهذا قد يصل إجمالي أعضاء اللجان الاستشارية لذلك العدد من البرامج بتلك الكليات إلى ما بين 500 - 700 عضو، والبعض الآخر من هذه الكليات يتم تشكيل لجان استشارية بها وفقا لكل مجموعة متقاربة من البرامج التدريبية. وتسهم هذه اللجان بشكل عام في تلمس الاحتياجات التدريبية وتحديد مجالات التركيز واختيار محتوى المقررات التدريبية وتوظيف الخريجين ورصد فرص التدريب للطلاب المتدربين، وغير ذلك. كما أن بعض هذه اللجان قد تشارك في اختيار المعلمين وتخطيط التجهيزات وتقديم البرامج(12). وتعزو كثير من تلك الكليات الفضل في نجاح برامجها التدريبية واستمرارية تلك البرامج إلى هذه اللجان. فعلى سبيل المثال ترى كلية هولند في مقاطعة برنس إدوارد أن سر نجاحها في تصميم برامج تدريبية تقنية ومهنية ناجحة عالميًا هو تشاورها المستمر من خلال هذه اللجان مع قطاعات الصناعة والأعمال في تحديد الكفايات وتطوير المناهج التي تتضمنها تلك البرامج. فعلى سبيل المثال كان بهذه الكلية عام 92/1993م اثنتا عشرة لجنة استشارية للمناهج من بين 22 لجنة، تطوع لعضويتها أكثر من 400 فرد يمثلون قطاع الصناعة والأعمال والمجتمع يعطون من أوقاتهم وخبراتهم لتقديم الاستشارات للكلية من خلال هذه اللجان(13). ولعل هذا العدد زاد حاليًا.
رابعًا- جهات التمويل:
هناك جهات تمويل مختلفة في كندا مثل الحكومة الفيدرالية والهيئات المهنية وحكومات المقاطعات، وكلها تسهم بطريقة غير مباشرة في تطوير مناهج البرامج التدريبية التقنية والمهنية بكليات المجتمع بحيث يسهم هذا التطوير في إطالة عمر البرامج القائمة بها طالما أن مناهجها مستجيبة لاحتياجات سوق العمل. وتدعم الحكومة الفيدرالية ماليًا كليات المجتمع التي تدير برامج تدريب تقني ومهني مطلوبة في سوق العمل وتشتري فيها مقاعد لأبناء الأقليات والسكان الأصليين في مختلف أنحاء البلاد. كما أن حكومات المقاطعات تستخدم الميزانية المخصصة للبرامج التدريبية والمهنية بهذه الكليات على نحو يدعم استمرارية وتوسع هذه البرامج. ففي مقاطعة أونتاريو توجد آلية توزيع التمويل Funding Distribution Mechnism وبموجبها يتم توزيع المخصصات المالية لميزانية التدريب التقني والمهني بالولاية بحيث تحصل كل كلية على تمويلها، من الجزء المخصص للأغراض العامة البالغة نسبته 90% من المبلغ المخصص لهذه الكليات، بحسب قدرتها الاستيعابية في برامجها التدريبية، فالكلية التي تستوعب أكثر تأخذ نصيبًا أكثر والعكس صحيح(14).
وفي ضوء التنافس القوي بين الكليات على الحصول على أكبر قدر من الموارد لتحسين أدائها فإن كل كلية تتفانى في تحسين برامجها بما في ذلك مناهج هذه البرامج لتقدم للمجتمع برامج تدريبية مستجيبة لاحتياجاته وسوق العمل به.
خامسًا- التطوير المهني:
يستخدم هذا التطوير كآلية آخذة في الاتساع لإيجاد أعضاء هيئة تدريب قادرة على تطوير المناهج. ففي كليات المجتمع بمقاطعة أونتاريو يجري تشجيع أعضاء هيئة التدريب على أحدث التطورات في مجالات تخصصاتهم عبر ترتيبات مختلفة مثل أعطائهم إجازات تدريب ومنحهم علاوات حضور مؤتمرات. وأشارت دراسة لروث سميث إلى أن كليات المجتمع في مقاطعة بريتيش كولومبيا أبدت اهتماما بحلقات الإعداد القصيرة للمدربين الجدد، وإجازات تحضير المواد التدريبية، والتدريب على استخدام التقنيات الحديثة لاستخدام تلك المواد في التدريب(15)، وأن الكليات التي اشتهرت بتقديم برامج تدريبية قائمة على مناهج وطرق تدريبية غير تقليدية مثل كلية هولند تجري مجهودات منتظمة لتوفير الفرص التي تتيح لهم لاكتساب المهارات اللازمة في طرق تدريب معينة أو تحديث تلك المهارات. وبالتأكيد فإن عضو هيئة التدريب المنمى مهنيا أقدر من غيره على تطوير المناهج التي يقوم بالتدريب عليها.
سادسًا- التعاون مع قطاع الصناعة والأعمال:
يعتبر قطاع الصناعة والأعمال المشتري الرئيسي لأهم منتج لكليات المجتمع الكندية وهو الخريجون. لذلك تحرص هذه الكليات على التعاون مع هذا القطاع الذي يحرص في نفس الوقت على التعاون معها لأنها المصدر الرئيسي لتأمين ما يحتاجه من الموارد البشرية المؤهلة للعمل فيه، لأنه لا يوجد في كندا استقدام مفتوح للموارد البشرية من الخارج يتسبب في الاستغناء عن الموارد البشرية الوطنية أو المماطلة في الاستفادة منها. ويأخذ التعاون في هذا المجال شكلين رئيسين، أولهما استقطاب أعضاء لمجالس الإدارة واللجان الاستشارية لهذه الكليات من مسؤولي قطاع الصناعة والأعمال الذين يعملون على نقل خبراتهم وتطلعاتهم وتضمينها في السياسات التي ترسمها تلك المجالس لتلك الكليات فيما يتعلق بتطوير المناهج بها بحيث تكون مواكبة لتطلعات المجتمع.
وثانيهما برامج العودة للصناعة التي يتم بموجبها السماح لمدربي البرامج التقنية والمهنية في كليات المجتمع بقضاء مدة من الزمن للعمل في مواقع العمل الصناعي ومن ثم نقل خبراتهم المكتسبة خلال هذه المدة إلى هذه البرامج في شكل تطوير لمناهجها.
الاستفادة من التجربة سعوديًا
وأخيرا في ختام هذا التقرير لعل من المناسب أن نسأل: كيف يمكن لنا أن نستفيد من هذه التجربة الكندية في تطوير مناهج التدريب التقني والمهني بكليات المجتمع في تطوير مناهج البرامج التدريبية التقنية والمهنية في الكليات التقنية بالمملكة العربية السعودية أو أي بلد عربي، آخذين بعين الاعتبار اختلاف الظروف؟ الحقيقة أن الكليات التقنية بدأت خلال العشر سنوات الأخيرة في الإسهام الفعال في خلق مجتمع تدريب تقني ومهني عال متقدم في المملكة، وخاصة بعد توجه المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني لخلق قطاع تدريب وطني واسع كان مفقودًا، وظهرت الحاجة الملحة له بوضوح بعد أن صارت المملكة عضوة في منظمة التجارة العالمية، وبدأت تشهد زيادة في تدفق الاستثمارات ورؤوس الأموال الخارجية عليها وبناء المدن الصناعية والاقتصادية الكبرى فيها التي تتطلب أعدادًا كبيرة من التقنيين والمهنيين السعوديين.
وقد تقدمت المؤسسة بشكل كبير في مجال تطوير المناهج التدريبية وفق أسس علمية مسايرة لأحدث الاتجاهات العالمية. فمن خلال اتفاقيات المؤسسة للتعاون الفني مع عدد من الدول المتقدمة واستطلاع آراء أرباب العمل في القطاع الخاص الوطني حول تحديد نوعية المهارات والتخصصات التي يحتاج إليها سوق العمل، تمكنت من إعداد المعايير المهنية الوطنية لجميع المهن التي تندرج ضمن اختصاصها، فانتهت من بناء أكثر من 270 معيارًا مهنيًا، وتأليف وتعديل ومراجعة 1118 حقيبة تدريبية(16).
وأوجدت المؤسسة لنفسها منهجية لتطوير مناهجها تشمل أولا: القيام بتحليل الاحتياجات وذلك من خلال اللجان التخصصية، وورش التحليل الوظيفي، وتمحيص المهارات، وتكوير مستويات ومعايير المهارات المهنية الوطنية، وثانيا: التصميم والتطوير(17).
ومع هذه التطورات الإيجابية الرائعة، يمكن بشكل عام تلخيص إمكانية الاستفادة من التجرية الكندية في تطوير مناهج التدريب التقني والمهني بالكليات التقنية السعودية من خلال الآتي:
أولاً- معاملة كل كلية على أنها كيان قائم بحد ذاته قانونيًا في شكل شركة ذات استقلالية إدارية شبه تامة ونظام تحفيز فعال مع المحاسبة الصارمة على النتائج تحت إشراف المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني. ومثل هذه المعاملة ستسهم إسهامًا كبيرًا في تطوير البرامج التدريبية التقنية والمهنية من خلال تطوير مناهجها باستمرار.
ثانيًا - إيجاد لجان استشارية دائمة لكل برنامج تدريبي في تلك الكليات لضمان التواصل والتطوير المستمر لها ودوام الشراكة ما بين هذه الكليات وقطاع الأعمال والصناعة لهذا الغرض.
ثالثًا- إيجاد آليات لتلقي مدخلات المنفذين والمستفيدين من المناهج الحالية لتطويرها. ومن هذه الآليات صناديق الاقتراحات وصناديق الشكاوى من المجتمع والمدربين والإداريين والمتدربين وأرباب العمل عن المناهج وتطبيقاتها.
ثالثـًا- تكوين فرق عمل خبيرة تقوم بتجميع تلك الاقتراحات والشكاوى وتصنيفها وتحليلها ثم دراستها دراسات متأنية من أجل تطوير المناهج.
رابعًا- إيجاد برامج للعودة للصناعة والأعمال من أجل إكساب المدربين الخبرات المستجدة في سوق العمل لنقلها إلى فصول التدريب وورشه وتعريض الطلاب الممتدربين لها من أجل أعداد تدريبي أفضل وتهيئة مهنية أقرب لمتطلبات سوق العمل، مما يعني فرصًا أكبر لتوظفيهم فيه.

بقلم: سعيد الخوتاني