قالت لي زميلتي في العمل: أشعر بملل كبير, روتين الحياة العملية والشخصية يتكرر كل يوم كما هو, لا يوجد تغيير.
قلت لها: كثير من الناس في عصرنا اليوم يشكو من مشكلات كثيرة.. ومن أبرز هذه المشكلات مشكلة الملل؛ وما تسببه من ضيق للفرد الذي تسيطر عليه.. وتجدين كثيرًا من الناس يرددون عبارة: أشعر بكثير من الملل. وهذه العبارة لم تعد مستغربة على الآذان, ولم تعد قاصرة على فئات عمرية محددة؛ فنجد الشاب والرجل والعجوز؛ بل الطفل يقولها..! رغم ما توفره الحياة العصرية من تكنولوجيا متطورة في مجال الاتصالات, وما توفره من مخترعات لم تخطر على بال الأجيال السابقة, وما توفره الفضائيات من برامج وأفلام ومسرحيات على مدار اليوم والليلة, وما توفره مدن الألعاب الترفيهية من ألعاب وبرامج ترفيهية, وما يتوافر عن طريق الكمبيوتر من ألعاب, وخدمات إنترنت جعلت العالم كله يعيش في قرية صغيرة, بل في غرفة صغيرة, وما توفره أجهزة الهواتف المحمولة من خدمات وترفيه أيضًا، ومع ذلك وغيره يشعر الكثير بالملل.
ومن العجيب أن نجد هؤلاء الناس الذين يشعرون بالملل, وينزعجون منه, غافلون عن خطورة تأصل هذا الشعور وتجذره في نفوسهم, وما يترتب عليه من نتائج وخيمة في حاضرهم ومستقبلهم, فالملل من الآفات المسببة للامبالاة؛ التي تعد من الأسباب الرئيسة في إصابة الفرد بالإحباط, الذي يؤدي بدوره إلى القعود والركون إلى الأرض, وعدم السير في أرجائها وتعميرها, ومن ثم ضياع حاضره ومستقبله.
ومن العجيب أيضًا أن نجد هؤلاء الناس المصابين بآفة الملل لم يحاولوا التعرف على أسباب إصابتهم بهذه الآفة, ولم يكلفوا أنفسهم البحث عن سبل علاجهم منها..!
مما لا شك فيه أن أي مرض أو أية آفة تصيب الإنسان ترجع إلى أسباب يكون له الدور الأكبر في إصابته بها, وتختلف وتتنوع هذه الأسباب من فرد إلى آخر, وهناك العديد من أسباب الملل, والعديد من وسائل القضاء على هذه الأسباب؛ والتي سأحاول التعرض إليها فيما يلي:
أسباب التعرض لآفة الملل:
إن الأسباب المؤدية إلى إصابة أي فرد بالملل كثيرة ومتنوعة, وتختلف من فرد إلى آخر باختلاف ميوله, وبيئته, وظروفه الشخصية والاجتماعية, ودرجة ثقافته, واتجاهاته ونظرته للحياة بصفة عامة.. ومن هذه الأسباب ما يأتي:
• عدم إدراك الفرد المصاب بآفة الملل لحقيقة وجوده في الحياة.
• البعد عن التواصل الاجتماعي الحقيقي مع المجتمع المحيط بالفرد, فضلًا عن عدم التواصل مع المجتمع الكبير الذي ينتمي إليه.
• عدم إدراك الفرد حقيقة أن الوقت هو رأس ماله الذي لا ينبغي أن يهدره فيما ليس له عائد قوي وملموس عليه وعلى مجتمعه ووطنه.
• تغليب النظرة التشاؤمية على النظرة التفاؤلية للحياة ككل.
• عدم إدراك حقيقة أن الروتين اليومي المعتاد سواء في العمل, أو في المنزل, أو في الأمور الحياتية الأخرى؛ هذا الروتين من أهم مسببات الملل.
• عدم إدراك الفرد حقيقة أن المرونة مطلوبة في كل شيء يقبل عليه.
• عدم مسايسة الفرد نفسه, فالنفس البشرية جبلت على طلب الراحة, وإذا كلّت ملّت كما هو معروف.
وسائل مفيدة في علاج آفة الملل:
مما لا شك فيه أن لكل داء دواء.. وللملل بكل تأكيد وسائل ناجعة ومفيدة في علاجه؛ ومن أهم هذه الوسائل:
• الاجتهاد في العبادة: إذا أدرك الفرد حقيقة دوره الذي أراده الله سبحانه له في الحياة، وخلقه من أجله؛ وهو عبادته.. يقول سبحانه وتعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» سورة الذاريات.. الآية 56.. وأمره سبحانه وتعالى للإنسان أن يعمل ويسعى في الأرض لإعمارها.. يقول سبحانه وتعالى: }وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنـون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون{ سورة التوبة الآية 105.
• إدارة وقتك بكفاءة: إن التخطيط لإدارة الوقت أمر مهم وضروري لكسر أسباب الملل والتغلب عليها, فالفرد المنظم في وقته؛ المقدر له؛ العالِم بأنه رأس مال الحقيقي؛ تراه محافظًا على كل لحظة من لحظات حياته.. لا يهدرها في أعمال غير مفيدة, فضلًا عن إهدارها للاستسلام للملل المقعد عن العمل, فالملل يشعر الإنسان بأن وقته ليس له قيمة؛ وهو يقع في هذه الحالة في خانة غير المقدر للنعمة.. عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» رواه البخاري.
• تنظيم أعمالك: في كثير من الأحيان كثرة المهام والأعمال تصيب الإنسان بالخوف من عدم القدرة على إنجازها, فيضجر ويمل, ويترك هذه الأعمال, وتكون العاقبة إما تأخره في عمله أيًا كان, أو في دراسته.. إن تنظيم الأعمال وتجزئتها.. وتصنيفها من حيث المهم فالأهم, يبعد عنك شبح الملل, ويجنبك إهمال إنجازها, ويجنبك أيضًا تبعات هذا الإهمال.
• التجديد ومحاولة الابتكار: جدد حياتك دومًا, فالحال لا يتغير من ذاته, فعندما ترغب في تغيير حالة الملل التي تصيبك؛ حاول أن تبتكر شيئًا أو أسلوبًا جديدًا تكسر به هذه الحالة, كأن تقوم بعمل شيء فكرت فيه في فترة سابقة, وأوهمت نفسك استحالة فعله, وتكتشف بعد القيام بإنجازه أنك أنجزته, بل وأبدعت في إنجازه.
• ابحث (ابحثي) عن أسباب الكسل في نفسك: إن الكسل من العوامل الرئيسية المسببة للملل, فالنفس البشرية لها طاقات كثيرة يهدرها الإنسان باللجوء للكسل والفتور والملل، ومن ثم يضيع على نفسه فرصًا كثيرة للتقدم والرقي على المستوى العملي أو الشخصي أو العلمي.
• التواصل مع الآخر: إن التواصل مع الآخر في مجتمعك الصغير؛ أسرتك, وجيرانك, ومجتمعك الكبير في الجامعة أو العمل, والمجتمع الأكبر عن طريق التواصل عبر الإنترنت.. هذا التواصل يؤدي بلا شك في خلق حياة اجتماعية سليمة وهادفة وبناءة, مبنية على تبادل المعارف والثقافات والخبرات, وهذا بدوره يبعدك عن شبح الانعزال الذي يشعرك بالملل الدائم والمتواصل. وهذا التواصل يساعدك أيضًا في بناء نفسية سوية تحملها بين ضلوعك, ويبني لك معارف وينقل لك خبرات تساعدك في عملك أيًا كان هذا العمل, وتساعدك على اكتساب خبرات هائلة في طرق التعامل مع الناس على اختلاف طبائعهم ومستوياتهم العلمية, وثقافاتهم بصفة عامة, وهذا يكسبك تميزًا يؤثر في سلوكك الشخصي, حيث يجعله سلوكًا سويًا ورصينًا وفعالًا, يسهم في بناء شخصية إيجابية محبة للخير, مفيدة لذاتها ولمجتمعها.
• ساعة وساعة: الفرد الحصيف هو الذي يتعامل مع نفسه بمسايسة حذرة, فلا يذهب بها دومًا إلى مناطق الجدية البحتة, بل يريحها بالترفيه حينًا بعد حين, فهو يعلم أن النفس لا يجب كسرها, لأنها إذا كسرت خسر خسرانًا مبينًا.. فالنفس المكسورة نقيضة للنفس المشرقة المنفتحة على الحياة؛ الراغبة في العمل وتعمير الأرض؛ الراغبة في رفع شأن صاحبها..
إن الترويح والترفيه أمر مهم وضروري لكسر حالة الملل التي قد تصيب النفس في أوقات ما.
• المرونة في المواقف والمعاملات:, إن الانتصار للرأي، والتشبث به والدفاع المستميت عنه, سواء كان حقًا أم غير ذلك, يؤدي إلى نفور الآخر من التواصل معك, ويؤدي في حالة عدم الأخذ به من الطرف الآخر وعلى المدى البعيد إلى الشعور بالقصور الذاتي، وعدم رغبة الآخر في التعامل معك, مما قد يصبك بالفتور الذي يولد الملل والعزلة, والاتجاه نحو السلبية, والتخلي عن الإيجابية والفعالية.
• انظر (انظري) للحياة من حولك بتفاؤل: املأ صدرك بالعبير الفواح دومًا, وابتعد عن الروائح الكريهة, وانظر إلى حياتك بأمل متجدد, واملأ وجدانك وعقلك بالتفاؤل, وأبعد عنهما النظرة التشاؤمية, مهما تعرضت لظروف قاسية, أو واجهتك صعوبات بالغة أثناء مسيرك في الحياة, واعلم أن التشاؤم سوف يصيبك بالملل الذي يبعدك عن تأمل الأشياء من حولك واكتشاف حقيقتها.. ويجعلك تنظر إلى نصف الكأس الفارغ دومًا..
• غيّر (غيري) عاداتك السلبية إلى عادات إيجابية: إن طريق تغيير العادة السلبية المسببة للملل؛ وتحويلها إلى عادة إيجابية طريق صعب ولكنه ليس مستحيلًا, يبدأ بالتفكير الجاد في تحديد العادة السلبية, ثم تعريفها, ثم وضع الحلول المتعددة لحلها, فاخيتار الحل المناسب، ومن ثم وضعه في موقع التنفيذ, ثم تقييم العادة الجديدة المكتسبة.
• خطط (خططي) لمستقبلك: إن وضعك خطة عملية مدروسة بشكل علمي لمستقبلك, محددة الرؤية والمكانة التي تريد أن تتبوأها في المستقبل البعيد, وتحديد الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها, وتحديد البرامج والوسائل التي ستنتهجها وتستعين بها لتحقيق رؤيتك وأهدافك، هذه الخطة تعد خير معين لك في التخلص من أسباب أو حالة الملل.. فسعيك المتواصل نحو تحقيق طموحاتك؛ وتحقيق أهدافك لا يترك لنفسك أي سبيل للملل.
• مارس ( مارسي ) رياضة تحبها: من المعروف علميًا أن لممارسة الرياضة دور كبير في رفع الروح المعنوية للممارس, ومن ثم القضاء على حالة الملل إن كانت موجودة, والقضاء على العوامل المسببة لهذه الحالة؛ فضلًا عن أن ممارسة الرياضة تبني جسدًا سليمًا، نشيطًا وحيويًا لا يعرف الكسل له طريقًا..
• حاول (حاولي) أن تزد دخلك: لا تقف عند عمل واحد؛ بل اجعل لك أكثر من عمل, وحاول أن تزد دخلك دومًا؛ وحاول أن تكتسب مهارات جديدة؛ واعلم أن النظرة الإدارية الحديثة للمورد البشري لم تعد قائمة على عبارة «الرجل المناسب في المكان المناسب» بل تعد ذلك لتصبح «الرجل الذي يستطيع أن يعمل في أكثر من مكان بمهارة وكفاءة».. والعمل في أكثر من مهنة يقيك شر القعود أو البطالة؛ التي تلعب دورًا كبيرًا في إصابتك من الملل ليس فقط من أشياء بسيطة, بل قد يمتد إلى الملل من حياتك ذاتها.
• الثقة بقدراتك: إن ثقتك بقدراتك على التغلب على حالة الملل التي قد تصيبك في وقت ما, هذه الثقة تعد من أنجع الأسلحة في القضاء على هذه الحالة, فرسخ في نفسك أن حالة الملل أنت التي تجلبها إلى عقلك ونفسك, وأنت القادر بعون الله على التخلص منها, والقضاء عليها.
• تواصل (تواصلي) مع علوم ومبتكرات العصر: إن التقدم التكنولوجي الهائل الذي أنعم الله سبحانه به على البشرية في عصرنا اليوم لا يجعل حجة لإنسان ما إن يشعر بالملل, فالعلوم المتنوعة والشاملة لكافة مناحي الحياة والمنتشرة على المواقع الإلكترونية (الإنترنت)، تجعل كل ذي عقل يقبل على تعلم كيفية التعامل مع هذه الوسائل التكنولوجية المتنوعة ليزاد علمًا وخبرة, ويزداد معرفة للعالم المحيط به, وهذا كله لن يترك مساحة لتسلل الملل إلى نفسه.
• تعلم (تعلمي) كيف تنمي موهبة لديك: كل إنسان لديه موهبة في شيء ما, وللأسف الشديد قليل من الناس من يكتشف هذه الموهبة, وكثير من الناس لا يحاولون اكتشاف ما لديهم من مواهب, فهم يولدون بها, وتموت معهم.. فكن من الذين يبحثون عن الموهبة الكامنة داخل نفوسهم, واعمل على تنميتها, وصقلها بالتعلم والتدريب, والممارسة.
• اجعل (اجعلي) الثقافة الذاتية هدفًا من أهدافك: إذا شغلت عقلك بطلب العلم, والتزود بالثقافة فلن يصيبك ملل, فكما أن الأكل غذاء للبدن, فإن الثقافة غذاء للروح.. وعندما تغذي عقلك بالعلوم النافعة, وتكتشف كلما قرأت وتعلمت مدى جهلك السابق لهذه العلوم, فإن هذا يدفعك إلى تعلم الجديد والجديد, ويزيد من حرصك وإصرارك على الاستزادة والنهل من هذه العلوم.. وعندها لن تجد وقتًا تضيعه في الملل والقعود.

بقلم: فاطمة موسى