يعد التدريب التقني والمهني من أكثر أنواع التدريب حساسية وتأثرًا بالمجتمع المحيط به وسوق العمل الموجود بذلك المجتمع. وأكثر ما تتجلى هذه الحساسية والتأثر في قضية تواؤم مخرجات المؤسسات التدريبية المهنية مع متطلبات سوق العمل، هذا التواؤم الذي يعتبر همًّا متكررًا مع كل دفعة يتم تخريجها من تلك المؤسسات، هل ستتوظف، أم لا؟ وإن توظفت هل ستتوظف فيما تخصصت فيه؟ أم ستتوظف في غير تخصصها؟ وإن لم تتوظف هل ستصير في صفوف العاطلين؟ وإن صارت هل ستظل فيها مدة قصيرة أم طويلة؟
ويقصد بالتواؤم مناسبة خريجي تلك المؤسسات للوظائف التي يتيحها سوق العمل لهم بحيث ينخرطون فيها دون تدريب طويل من قبل جهات العمل التي توظفوا بها تجعلها تتساءل عن جدوى ما تدربوا عليه في تلك المؤسسات. فلو حصل هذا فهو يعد من أهم معايير نجاح هذه المؤسسات في مهمتها، والعكس صحيح.

لا بل إن ذلك التواؤم هو قضية القضايا ليس على مستوى سوق العمل فحسب وإنما على مستوى العمل السياسي لعلاقته الوثيقة بقضية بتوفير فرص العمل ومكافحة البطالة التي تعد من البنود الساخنة على أجندة كثير من القيادات السياسية المرشحة للمناصب العليا كرئاسة الدول أو مجالس الوزراء أو مناصب وزراء العمل.
وتنعدم آليات المواءمة ما بين مخرجات المؤسسات التدريبية المهنية وما بين سوق العمل في معظم دول العالم، وخاصة الدول النامية، لذلك لا ينبغي علينا أن نستغرب لو انعدمت تلك المؤاءمة فيها أيضًا، وبالتالي معاناة كثير من خريجيها من البطالة أو التحول إلى مهن لم يتأهلوا لها أصلا بتلك المؤسسات، مما يعتبر هدرًا كبيرًا لموارد تلك الدول التي هي في الغالب دول فقيرة أو شبه فقيرة.
اللجان الاستشارية.. ما هي؟
ولتلافي مثل هذا الخلل نلاحظ أن المؤسسات التدريبية المهنية وخاصة في الدول الغربية المتقدمة مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا تستخدم اللجان الاستشارية كأحد أهم الآليات لتحقيق تلك المواءمة، (ونقصد بالمؤسسات التدريبية المهنية كل المؤسسات التي تقدم أنواعًا من التدريب والتعليم في المجالات المهنية والتقنية والحرفية تؤهل لسوق العمل). ولهذه الدول تجارب ناجحة في هذا المجال يمكن لأي مراقب أو دارس أو باحث لنظم التدريب والتعليم المهني أن يلاحظها، فما هي هذه اللجان الاستشارية بتلك المؤسسات؟
يصعب تقديم إجابة محددة على هذا السؤال، وبعبارة أخرى من الصعب تعريف هذه اللجان الاستشارية لتنوعها من حيث الاختصاص والمستوى، حسب قول كل من ليزلي كوشران ورفيقيها، الخبراء الأمريكيين في المجالس الاستشارية، ومع ذلك فقد قدموا هذا التعريف العام وهو أن: «اللجنة الاستشارية هي مجموعة من الأفراد من غير مهنة التعليم (أو التدريب) مختارين من شرائح مختلفة في المجتمع لتقديم المشورة بصفتهم الجمعية للعاملين في المجال التعليمي (أو التدريبي) بخصوص برنامج أو أكثر أو جوانب منه»(1).
وتتنوع المجالس الاستشارية من حيث الاختصاص، فهناك مجالس استشارية عامة وهناك مجالس استشارية متخصصة، كما تتنوع حيث المستوى فهناك مجالس استشارية على المستوى الوطني، لتقديم المشورة للوزراء والهيئات الوطنية للتدريب المهني كما بعض الدول الغربية المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وهناك مجالس على المستوى المؤسسي من أهمها اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية. وهذه اللجان الأخيرة هي التي تهمنا في هذا التقرير حتى يكون حديثنا محددًا ومحجَّمًا، وليس عامًا عائمًا.
تشكيل لتلبية الاحتياجات
يعد تشكيل اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية من أبرز عمليات إدارة المؤسسات التدريبية المهنية نظرًا لارتباط تلك اللجان بعمليات تخطيط البرامج التدريبية والتعليمية بالمؤسسات التدريبية المهنية، وإسهامها الملموس في إنجاح تلك البرامج. فقد لوحظ أن كل البرامج التدريبية المهنية الناجحة مدعومة بلجان استشارية وعاكسة لمزايا دعمها بمثل تلك اللجان. لذا فإن من الضروري أن تكون هناك لجان استشارية لكل برنامج أو عدة برامج مهنية متقاربة (2).
ويتم تشكيل اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية - كما يشيـــر إلى ذلك اسمهــا- لتلبية احتياجات المؤسسات التدريبية المهنية من المشورة والنصح عند قيامها بتخطيط برامجها التدريبية المهنية، وغالبًا ما تكون تلك اللجان الطريقة الأكثر ملاءمة من الناحية الاقتصادية للحصول على مثل هذا النصح. فهناك أفراد كثيرون من المختصين في ميادين مختلفة لديهم الاستعداد غالبًا لتمضية ساعات قليلة أسبوعيًا أو شهريًا كأعضاء في جماعات استشارية.
فالنصائح والتوصيات التي يمكن أن تباع بأغلى الأثمان في ميدان الأعمال يمكن في الواقع الحصول عليها نظير ثمن زهيد – يتمثل في مكافآت العضوية – أو دون ثمن على الإطلاق. إذ إن من العلماء والمحامين والمهندسين ورجال الأعمال وكثير غيرهم، من لديه الاستعداد للإسهام بهذه الطريقة في سبيل الصالح لعام، ومن ذلك عضوية اللجان الاستشارية للبرامج المهنية بالمؤسسات التدريبية المهنية.
والنصائح التي تقدمها اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية بتلك المؤسسات لا تتحدد بطبيعة البرنامج فقط، إذ إن تلك اللجان قد تعمل أيضًا كموجهات للرأي العام، أي ما يود هذا الرأي العام أن يطبقه ومالا يود أن يطبقه أو ما يقبله وما لا يقبله. وهذا من أهم أسباب دعوة ممثلين من مختلف التخصصات من خارج المؤسسات التدريبية المهنية لعضوية هذه اللجان (3).
كيفية اختيار الأعضاء
ولكن كيف يتم اختيار اعضاء تلك اللجان؟ إن طرق اختيار أولئك الأعضاء يمكن أن يتم بعدة طرق، منها الإعلان في وسائل الإعلام المحلية، أو الاعتماد على المعرفة الشخصية للعاملين القياديين في المؤسسات التدريبية المهنية لمن يرجى صلاحيته لعضوية هذه اللجان.
إلا أن الطريقة المعتادة في تشكيل تلك اللجان هي توجيه دعوات كتابية لكل الجهات التي لديها اهتمام بالتدريب المهني سواء أكانت حكومية أم أهلية لتَُرشِّح أعضاء من قبلها ليخدموا كممثلين لها في هذه اللجان. وبعد تلقي ردودهم يتم الاختيار من بين مرشحيهم الأعداد المناسبة لعضوية اللجان التي يُعتزم تشكيلها ثم يضم إليهم ممثلون عن المؤسسات التدريبية المهنية في كل لجنة ليعملوا كأمناء لهذه اللجان، وضباط اتصال ما بين مؤسساتهم وهؤلاء الأعضاء(4).
وعقب الاختيار يتم تعيين العضو رسميًا، ثم تعريفه بطبيعة العمل الذي سيقوم به في اللجنة وأهميته، وبعد ذلك يقوم كامل الأعضاء بتطوير ميثاق عمل للجنتهم إن لم يكن لديها مثل هذا الميثاق، أو يحدثون الميثاق الموجود، أو يستلم كل منهم نسخة منه إن كان موجودًا ولا يحتاج لتحديث، ليتعرف كل عضو على لجنته وأهدافها ومهامها ودوره كعضو فيها.
أما عدد أعضاء كل لجنة من تلك اللجان فيستحسن أن يكون ما بين 8 - 14 عضوًا، مع تفضيل أن يكون كل عضو منهم ممن عمل أو يعمل في مجال تخصص البرنامج الذي شكلت له اللجنة، مع أنه لا يمنع من اختيار أعضاء آخرين غيرهم فيها. وينبغي أن تجتمع اللجان في المعتاد ما بين ثلاثة إلى أربعة مرات في العام للقيام بمهامها، وإذا قلت اجتماعاتها عن ذلك فإن هذا يعني أن اللجنة لا تقوم بما ينبغي أن تقوم به، على أن يتم التخطيط الدقيق المسبق لاجتماعاتها، حتى لا تضيع أوقات أعضائها وهم عادة من الناس المشغولين في جهات أعمالهم الأصلية (5).
وظائف اللجان الاستشارية
ينبغي أن تكون اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية منخرطة بشكل نشط في التخطيط والتنفيذ والتشغيل والتطوير لتلك البرامج. والواجبات والمسؤوليات المعتادة لتلك اللجان يمكن أن تشمل ما يلي (6):
1 - التخطيط لبرامجهم من حيث المناهج والموظفين والتجهيزات والميزانية.
2 - إيجاد التواصل وتأسيس العلاقات بين البرامج وبين المجتمع.
3 - استقطاب الطلاب.
4 - توظيف المدربين المهنيين.
5 - تقويم البرامج من حيث المناهج والموظفين والتجهيزات والميزانية.
6 - كسب التأييد للبرنامج.
7 - البحث عن أو تأسيس الجوائز للمدربين والطلاب.
8 - توظيف خريجي البرامج.
9 - متابعة توظيف خريجي البرامج.
10- استجلاب أحدث الممارسات والإبداعات التقنية للبرامج.
11- رصد مصادر جديدة لتمويل البرامج وجلب مزيد من الموارد لها.
12 - استقطاب المدربين غير المتفرغين ورصد الفرص للمتدربين للزيارات الميدانية الخاصة بتلك البرامج.
استراتيجيات لتفعيل اللجان
اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية لن تعمل بنفسها تلقائيًا، ما لم تعط الضوء الأخضر من إدارة المؤسسة التدريبية المهنية وتمكن من اتباع استراتيجيات مناسبة لذلك، لأنها بطبيعة تكوينها ذات طابع استشاري لا تنفيذي. وهناك استراتيجيات يمكن من خلالها تفعيل هذه اللجان واستمرار نشاطها، إبعادًا لها عن الصورية وإعانة لها على تحقيق المردودات التي شكلت من أجلها، من تلك الاستراتيجيات ما يلي (7):
أولاً - تكليف اللجان بمشاريع تعمل عليها أو تكلفيها بمهام ومسؤوليات واضحة، حتى يحس أعضاؤها بأنهم مشاركون لا متفرجون. ويمكن أن يسيطر عليهم شعور المتفرج حينما تعد الأمور من قبل إدارة المؤسسة التدريبية المهنية بعيدًا عنهم ثم تقدم لهم للتوقيع، لأن مثل هذا الشعور لا يتناسب مع طبيعة الأفراد المشاركين في مثل هذه اللجان، مما يجعلهم يتسربون من الخدمة بهذه اللجان بعد مدة، فينبغي الحذر من ذلك.
ثانيًا - استقطاب خريجي البرامج التدريبية المهنية الناجحين لعضوية هذه اللجان. حيث إن هذا سيتيح العديد من المزايا مثل كسب تأييدهم لتلك البرامج والاستفادة منهم في التعرف على موضع قصور البرامج حيث إنهم أصبحوا في موقع يتيح لهم ذلك بحكم دراستهم في تلك البرامج ثم ممارستهم لما تعلموه فيها في موقع العمل، كما أن العلاقات الحميمة التي كانت تربطهم بأساتذتهم في البرامج سابقًا يجعل من السهل إبلاغ هؤلاء الأساتذة بمواقع القصور ببرامجهم دون استثارتهم.
ثالثًا - العمل على الحصول على مزايا للمشاركين في عضوية اللجان من جهات عملهم لقاء مشاركتهم في هذه اللجان. من تلك المزايا مثلا تفريغهم لحضور جلسات هذه اللجان إذا كانت وقت الدوام الرسمي دون الخصم من رواتبهم، أو تخفيف نصاب العمل عنهم. هذا ويعد من الضروري توعية تلك الجهات بأن عمل أفراد من منسوبيها كأعضاء بهذه اللجان هي أيضًا في مصلحتها ومصلحة المجتمع عمومًا على المدى البعيد، وليس فقط لمصلحة المؤسسة التدريبية المهنية.
رابعًا – جعل صوت لأعضاء هذه اللجان في عمليات اتخاذ القرار بشأن الأمور التي تتعلق بالبرامج التدريبية المهنية الخاصة بلجنتهم، مثل التعاقد مع المدربين، والموافقة على الكتب التدريبية، واختيار تجهيزات ورش التدريب، وتطوير المناهج التدريبية، حيث تعتبر هذه العمليات بمثابة المسؤوليات الرئيسية لهذه اللجان.
خامسًا - السماح لأعضاء اللجان باستخدام مرافق وخدمات المؤسسات التدريبية المهنية التي تتبعها تلك اللجان، مثل المكتبات والمطاعم والمنشآت الرياضية والاجتماعية ووسائل الاتصالات فيها من هاتف وفاكس وإنترنت، حيث إن هذا يشعر هؤلاء الأعضاء بأنهم جزء من هذه المؤسسات، فيكونون مستمرين في حماسهم للخدمة بلجانها.
كندا كنموذج ناجح
كما سبقت الإشارة في البداية فإن هناك العديد من التجارب الناجحة في استخدام اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية في المؤسسات التدريبية المهنية في الدول الصناعية الكبرى كما في أستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية. فتشكيل تلك اللجان يعتبر من الممارسات الراسخة في تلك المؤسسات، لما لتلك اللجان من دور كبير في تمكينها من إيجاد وتطوير برامج تدريبية مهنية ملبية لاحتياجات الملتحقين بها وسوق العمل.
ولعلنا نكتفي هنا بمثال واحد وهو التجربة الكندية، ففي بعض المؤسسات التدريبية المهنية بها التي تضم الواحدة منها ما بين 50 – 60 برنامجًا تدريبيًا، تقوم تلك المؤسسات بجعل لجنة استشارية لكل برنامج تدريبي مهني بها، وبهذا قد يصل أعضاء اللجان الاستشارية بها لذلك العدد من البرامج ما بين 500 – 700 عضو، وفي البعض الآخر من المؤسسات يتم تشكيل لجان استشارية بها وفقًا لكل مجموعة متقاربة من البرامج التدريبية المهنية.
وتسهم هذه اللجان بشكل عام في تلمس الاحتياجات التدريبية وتحديد مجالات التركيز، واختيار محتوى المقررات التدريبية، وتوظيف الخريجين، ورصد فرص التدريب على رأس العمل للطلاب، كما أن بعض تلك اللجان قد تشارك في اختيار المعلمين وتخطيط التجهيزات وتقديم البرامج (8). وتعزو كثير من تلك الكليات الفضل في نجاح برامجها التدريبية واستمرارية تلك البرامج إلى تلك اللجان.
فعلى سبيل المثال ترى كلية هولند في مقاطعة برنس إدوارد الكندية أن سر نجاحها في تصميم برامج تعليمية مهنية ناجحة عالميًا هو تشاورها المستمر عبر هذه اللجان مع قطاعات الصناعة والأعمال في تحديد الكفايات وتطوير المناهج التي تتضمنها تلك البرامج. فقد كان بها عام 92/1993م 12 لجنة استشارية للمناهج من بين 22 لجنة تطوع بعضويتها أكثر من 400 فرد يمثلون قطاع الصناعة والأعمال والمجتمع مقدمين أوقاتهم وخبراتهم لتقديم الاستشارات للكلية من خلال هذه اللجان (9).
وخلاصة القول إن لوجود اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية مزايا كثيرة يمكن أن تعود بالنفع الكبير على البرامج التي ترتبط بها، وخاصة أن تشكيل مثل تلك اللجان يتماشى مع ما حثنا عليه ديننا الإسلامي الحنيف من طلب المشورة كما في قوله تعالى: }وشاورهم في الأمر{(آل عمران: 151)»، وكما ورد في المأثور الإسلامي مثل قول : «ما خاب من استشار».
وقديمًا قال بعض حكماء عامة الناس: «من شاور الناس شاركهم عقولهم»، أي استفاد من أفكارهم فيما يحقق مصلحته، فلتقم مؤسساتنا التدريبية المهنية بالتشاور مع أفراد وجماعات مجتمعات عبر اللجان الاستشارية للبرامج التدريبية المهنية، ولتجعل ذلك التشاور عادة تطوعية بها أو حتى تنفيذًا لتعليمات نظامية تضعها الجهات المسؤولة عنها، كل ذلك من أجل خير الجميع، ومكافحة للهدر والبطالة، وإسهاما في إيجاد أسواق عمل أكثر كفاءة.

بقلم: سعيد الخوتاني