لأننا نحيا في زمن مادي يصعب فيه علينا التواصل مع الآخرين إلا بالشكل الذي يريده ويفرضه علينا الطرف الأقوى مكانة أو وضعية أو ثراء أو نفوذًا؛ لذا كان لابد لنا من البحث عن آليات نستطيع من خلالها وضع أسس للتواصل بين الأطراف المختلفة بناء على مفهوم مشترك وقواعد عامة تمكننا من الاحتكام إليها إن نحن اختلفنا في قبول أو عدم قبول ماهية التواصل بيننا وبين الآخرين.
إن التواصل في مفهومه العام حسب ما هو مذكور في المعاجم العربية هو الاقتران والاتصال والصلة والترابط انتهاء بالمفهوم العام الذي يفيد الإعلام.
أما التواصل في اللغة الإنجليزية Communicationفهو يعني إقامة علاقة تبادلية فيها من التراسل والترابط وتبادل الآراء والأفكار بين طرفين أو أكثر بغرض الاقتران أو الاتصال وهو ما يؤكد المعنى المقصود في اللغة العربية وإن كان يزيد عليه التأكيد على أن التواصل يهدف في الأول والأخير على إقامة علاقة تبادلية.
وهذا هو مربط الفرس في التواصل.
إننا عندما نهدف إلى التواصل مع الآخرين، فإننا نعلن بصراحة ضمنية عن رغبتنا في الاقتران مع الطرف الآخر من خلال إقامة علاقة تبادلية تسمح لنا بالدخول في نطاق الطرف الآخر وبالتبعية تسمح له الدخول أيضًا في نطاقنا ونطاق تأثيرنا وإن اختلفت مساحة الدخول ولكنه مبدأ لايمكن إغفاله.
نعم، عندما نرغب في التواصل مع أحد ما كان فإننا نقبل في هذه اللحظة الدخول في مباراة تنس طاولة أو كما يطلق عليه مباراة (بنج.... بونج) نأخذ فيها نحن المبادرة لبعض الوقت ثم تنتقل ضربة الإرسال إلى الطرف الآخر بحيث يصبح علينا صد إرساله قبل أن نفكر في طريقة الهجوم وإرسال ضربات ساحقة ماحقة لا تصد ولا ترد تمكننا من الفوز بما نريده.
التفاعل..أساس التواصل
إن التواصل في مضمونه هو عملية تفاعلية تمامًا كما كمباراة البنج بونج بحيث لاتستطيع فيها أبدا إلا أن تلعبها مع طرف آخر يرد عليك إرسالك بل وقد يكون رده أقوى بكثير من إرسالك بما يجعلك تخسر هذه النقطة ولكنك لاتستطيع أبدًا تقرير أنك لن تلعب مع أحد حتى وإن لم تكن راضيًا عن مستوى أدائك أو عن تفوق الطرف الآخر عليك لأنك ببساطة في هذه الحالة لن تستطيع أن تلعب أساسًا لأن مباراة البنج بونج لابد لها من طرفين سواء رضينا أو لم نرض.
لهذا كان علينا أن نبحث عن منهج يمكن من خلاله توحيد منظورنا جميعًا لآليات التواصل بحيث يمكننا من خلال هذا المنهج إيصال مبادئ التواصل إلى كل فرد يريد أن يتواصل مع الآخرين بصورة فعالة ومنهجية ولكننا نؤكد هنا أنها لن تكون أبدًا حلقة دراسية لأنها أولًا وأخيرًا هي أدوات تواصل قبل أن تكون منهجًا دراسيًا أو أننا نستطيع القول بأنها وصايا عامة تخدم من يصدق فيها بينما يمكن استخدامها بشكل عكسي في الإجابة على التساؤل الهام: لماذا فشلنا في التواصل؟
التواصل مرونة ورشاقة
هل رأيت يومًا مباراة تنس طاولة يقف فيها كل طرف على رأس الطاولة ويقف الطرف الآخر على الجهة المقابلة، إذ إن الطاولة مقسمة بالتمام والكمال بالتساوي بين الطرفين بحيث إنه لا يهم أبدًا أين يقف أي من الطرفين على اليمين أو على اليسار لأنه في النهاية يتساوى الطرفان من حيث المساحة والارتفاع واللون والطعم والرائحة. ولكن كيف يمكن أن يفوز طرف على آخر إذا ماتساوت معطيات اللعبة وتطابقت بين الطرفين؟
إنها مؤهلات كل لاعب في استخدام مهاراته لإحداث الفارق وجعل ماهو متساو من وجهة نظر المتفرج غير متساو بتاتًا من وجهة نظر اللاعب.
إنها المهارة الفردية التي يستطيع من خلالها إظهار قدراته وإمكاناته ومواهبه الشخصية وإخضاعها لفكره بحيث يكون ردود أفعاله أقوى من أفعاله. هكذا هو الحال مع لاعب البنج بونج.
إن لاعب البنج بونج يتميز عادة بردة فعل تلقائية متميزة بحيث يستطيع التفاعل مع هجمات اللاعب الآخر بكل رشاقة ومرونة وصد كراته بل والتحكم فيها بحيث يستطيع تكوين هجمة خلال ردة فعله هذه.
إن المتفرج عادة على أي مباراة بنج بونج يستمتع بحق عند مشاهدة ردود الأفعال المتميزة هذه عن مشاهدة الهجمات الساحقة الماحقة التي لا تصد ولاترد لأن في ردود الأفعال إثارة وتفاعل تزيد من حماسة اللاعبين والمتفرجين على السواء نظرًا لأنها تثبت أن المباراة بين طرفين قد يتساوون في القدرات أو قد لايتساوون ولكنهم يقدمون مالديهم من مهارات كل حسب قدرته.
هكذا هو التواصل، لايهم من سيبدأ في الإرسال ولكن من المهم جدًا كيف سنتلقى هذا الإرسال وكيف سنرده وكيف سنتمكن من أن نحول إرسال الطرف الآخر إلى إرسال متميز من قبلنا بحيث نصبح نحن في النهاية المتحكمين في سير الأمور بغض النظر عمن بدأ.
إذا أردت التواصل مع أي شخص، لا يهم من سيبدأ أولًا أو كيف سيبدأ ولكن المهم أن تستطيع دائمًا وأبدًا التحكم في ردود أفعالك مهما كانت قوة أو شدة أفعال الطرف الآخر لأنك أنت من يريد أن يفوز وأن يتواصل وأن يحقق مايريد. فمن أراد أن يتواصل فعليه التحكم جيدًا في ردود أفعاله وإثبات مرونة ورشاقة في الانتقال من حالة إلى حالة ومن مكان إلى مكان حسبما يوجهه الطرف الآخر أو بالأحرى يحاول أن يوجهه.

التواصل مباراة بين طرفين (بنج.. بونج)
هل رأيت شخصًا يلعب بنج بونج وحده ودون وجود طرف أخر أمامه؟
أعتقد أنك لو رأيت هذا الموقف فإنك ستعتبر هذا من الطرائف أو المباريات الاستعراضية التي قد يقوم بعض اللاعبين بأدائها بغرض إظهار مهاراتهم فقط، بل إننا قد نذهب لمشاهدة هذه المباراة مرة من قبيل المعرفة بالشيء ليس إلا ولكننا أبدًا لن نذهب إلا لمتابعة مباراة كاملة من عدة أشواط بين طرفين يحاول كل منهم فرض سطوته وتحكمه في سير المباراة لصالحه.
هكذا هو التواصل لا يكون أبدًا إلا بين طرفين قد يختلفان في المهارات والقدرات ولكنهما يتساويان في المعطيات المتاحة أمامهما بحيث إنه قبل البدء في التواصل بين الطرفين يكون لكل طرف نفس الحق في قبول أو رفض هذا التواصل بل ونفس الحق في فرض شروطه أو اشتراطاته قبل البدء في التواصل الذي بمجرد أن يبدأ بموافقة الطرفين تصبح هذه الاشتراطات هي قيود عامة على الطرفين ولكن يبدأ كل منهما في البحث عن مهاراته الشخصية لإحداث الفارق.
إنك لن تستمتع بالتواصل أبدًا مع الطرف الآخر إلا إذا تواصل معك الآخر وبدأ في مجاراتك حتى ولو لم يكن في مهارتك ولا في قدراتك ولايمتلك خبراتك ولكنه على الأقل يرد عليك إرسالك ويشعرك أن هناك من يتلقى منك الإرسال ويرده عليك حتى ولو كان ضعيفًا.
نعم إن التواصل هو المسافة التي تفصل بين الطرفين أثناء موجات متتابعة متلاحقة من الشد والجذب الذي قد يصل أو لايصل إلى شيء ولكنه بالتأكيد يشعرنا دائمًا أن ما نلقيه من إشارات أو مهاتفات لها مدلول من القبول عن الآخرين ما يعني استمرارنا أو قد يكون لها مدلول من عدم القبول ما يعني أن نقوم بالبحث عن إسلوب أخر يساعدنا على المضي خلال هذه المسافة الضيقة من الشد والجذب.
إننا إن لم نستلم ردًا من الآخرين برفض أسلوبنا أو طريقتنا، فإننا سنستمر في نفس الطريق وبنفس الآليات والطرق دون أن نعلم أننا على خطأ أو أن طريقتنا هذه غير مقبولة أو غير ذات فائدة. وهذا هو بيت القصيد ، فإن التواصل يساعدنا في المقام الأول على معرفة أين نحن من الآخرين ومدى قبول الآخرين لنا ولأسلوبنا.
لا تتواصل مع الآخرين بناء على مهاراتك وقدراتك أنت فقط.. بل إن مهارات الآخرين وقدراتهم هي ما تشعرك بقيمة تواصلك معهم.

لكل فعل.. رد فعل مساو له في المقدار... ومضاد له في الاتجاه
إن القاعدة الديناميكية الشهيرة هي قاعدة صحيحة بنسبة مئة في المئة إن نحن طبقناها على حياتنا العملية بما تحتويه من أدوات وماكينات وآلات ومعدات تستقيم معها كل نظريات وطرق الهندسة الميكانيكية والاستاتيكية على السواء. أما في تواصلنا الإنساني مع الآخرين فإن هذه القاعدة تكون صحيحة في تولد انفعالتنا الداخلية التي تتساوى مع حجم مانتعرض له من ضغوطات وتأثيرات خارجية. ولكنها أبدًا لن تكون صحيحة إن نحن أطلقنا هذه الانفعالات جزافًا تحت تأثير أفعال الآخرين مباشرة.
إننا عندما نتعرض لأي ضغوطات من الآخرين كنتيجة طبيعية لاختلاف الفكر أو الرأي أو المنهج فإننا وكطبيعة بشرية نبدأ مباشرة في إطلاق العنان إلى مخيلتنا لوضع تصور لردودنا على مانتعرض له من ضغوط وبالتالي نجد السيناريوهات المختلفة لردة أفعالنا تمر بعقولنا كإعلانات التليفزيون المزعجة الواحد بعد الآخر وهي تحدد لنا خطأ الآخر وتطاوله وصبرنا عليه وصحة موقفنا ووجوب الرد بنفس المكيال.. إلى آخر التصورات العدائية التي تصورها لنا أنفسنا بناء على القاعدة الديناميكية الشهيرة أن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار ومضادًا له في الاتجاه.
ولكن إن نحن رغبنا في التواصل مع من حولنا، فإننا يجب علينا توجيه هذه القاعدة إلى حيث نستطيع أن نحول هذه الطاقة إلى داخلنا بدلاً من إطلاقها للخارج نحرق بها من نحرق. إننا إن رغبنا في التواصل كان لابد لنا أن نجعل من رد الفعل المساوي في القيمة هو ما يمكننا من زيادة مساحة التفهم للطرف الآخر وأن نستثمر هذه الطاقة التي تولدت في زيادة قدرتنا على التحكم في ردة أفعالنا كنتيجة طبيعية لزيادة تفهمنا للطرف الآخر وكيف أنه لايتمتع بما نتمتع به نحن من قدرة استطعنا تنميتها بداخلنا تجعلنا نتقبل مانرفضه بل ونشعر بالأسى لحالة ولما وصل إليه من إطلاق أفعاله بدون النظر إلى عواقبها.
كلما زادت قدرتك على التحكم في ردود أفعالك، طال مسار تواصلك مع الآخرين وكانت الفرصة أفضل للوصول إلى نتائج جيدة يقبلها الطرفان.

التواصل هو مهارة قبول ما نرفضه
إن أسهل موقف يمكن للإنسان أن يتخذه هو موقف الرفض لفكر ما أو موقف ما أو معطيات ما..
إن موقف الرفض هو الموقف الذي يسهل علينا طريق التفكير في ما يدور حولنا والتنازل عن بعض من قناعتنا في طريقنا لفهم مايدور حولنا وإعطاء الآخرين الحق في إبداء آرائهم وتوضيح موقفهم وعرض قناعتهم التي نختلف معها أو نرفضها فلايكون رفضنا لها أبدًا دليلاً على خطئهم بقدر مايكون دليلًا قاطعًا على قطع قنوات الاتصال لأن الرفض لايقابله أبدًا إلا رفض مقابل.
إن التواصل في مضمونه هو إعطاء مساحة من التفهم لموقف الآخرين ما يعني أنه إعلان للتوافق مع آراء وأفكار ومعطيات الآخرين التي قد نرفضها في العموم ولكننا نقبل التعامل معها بشيء من التفهم إذا نحن أردنا حقًا أن نتواصل معهم، وإلا فكيف لنا أن نتواصل مع من نرفضهم؟
إنها معادلة صعبة في تقبلها ولكنه بديهية جدًا في مضمونها. إننا لايمكن أبدًا بحال من الأحوال أن نتواصل مع من نرفضهم ولكننا عندما نعلن عن رغبتنا في التواصل مع شخص ما فإننا بهذا نعلن عن بعض القبول لأفكاره وآرائه بل وأفعاله التي قد نرفضها في مجملها ولكننا نحاول جاهدين البحث عن بعض المبررات أو المسببات التي تساعدنا على قبول هذا الشخص طالما أردنا التواصل معه.
إننا عندما نقبل فكرة أن التواصل هو مهارة نصقلها عن طريق الممارسة وتعلم أبجديتها، فإن هذا هو إقرار ضمني منا أنه يمكننا أن نتعلم كيف نستطيع أن نزيد من قدرتنا على التواصل من خلال تطويع أنفسنا لقبول مانرفضه من الآخر وذلك من خلال زيادة مساحة التفهم بيننا وبين الطرف الآخر والتصديق أن رأيه هو بناء على قناعته التي قد تختلف كليًا أو جزئيًا مع قناعتنا ولكنه لايزال له كل الحق في التعامل معنا بناء على قناعته كما أن لنا نفس الحق.
تفهم الآخر وأعطه مساحة لبيان رأيه وابدأ من موقف التوافق أولًا حتى تستطيع التواصل معه، وساعتها فقط سوف يبدأ هو في تفهم موقفك وتدارك المسافة بين ماتراه أنت ومايراه هو ليس لأنك أنت من أنت ولكن لأنك صدقته وأعطيته حقه في بيان موقفه.

كن كالمغناطيس يجذب إليه كل من يختلف معه
إن التواصل هو هبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لعباده الذين يمن عليهم بخصال القبول لدى الآخرين وخاصة من يختلفون معهم. إنها نعمة لانستطيع تقدير قيمتها إلا عندما نرى نتائجها وقد التف حولنا من اختلفوا معنا يجادولننا في أفكارنا وآرائنا بل وقد يصل بهم الأمر إلى الاحتداد على عقيدتنا ولكنهم في النهاية يعلمون أننا نحترم فكرهم وأننا رغم الاختلاف معهم نود التواصل معهم تمامًا كما المغناطيس يجذب إليه مايختلف عنه.
إن التواصل بين الناس هو آلية تجعلنا جميعًا ننجذب ونتنافر حسب قدرة كل منا على كبح جماح انفعالاته وتوجيهها نحو امتصاص فورة الآخر قبل توجيه ثورتنا إليه. إنها آلية منها ما هو طبيعي تمامًا كحجر المغناطيس الذي نجده بالصحراء يجذب إليه كل ماهو معدني ومنه ماهو ماتم صناعته وتحميله بطاقة جذب صناعية تساعده على القيام بعمل هذا الحجر الطبيعي وتوجيه تحركاته لجذب كل مايختلف عنه جوهريًا أو حتى شكليًا.
لهذا كان علينا أن نعمل من فترة لأخرى على تحفيز طاقاتنا الداخلية وإبقائها ساكنة لفترة وديناميكية لفترة أخرى حتى تستطيع التعامل مع كل مايحيط بها من انفعالات وآراء وأفكار تختلف معنا بشيء من الثبات حتى نستطيع التواصل معها حتى ولو عن بعد بدلاً من طردها إن نحن تشابهنا معها في طريقة الرفض والاختلاف. نعم إن التنافر يحدث عندما نصمم على التشابه مع الآخر في رفض الآراء والتصميم على صحة معتقداتنا وعدم إعطاء الفرصة للاختلاف لأن القاعدة أن الأنجذاب يحدث بين الأضداد.. بين مختلفين.. بين فكر وعكسه.. بين رأي وضده.. بين تقاطعين لا بين متوازيين.
إننا عندما نركن إلى رفض الآخر بناء على قناعتنا بأنه هو الآخر يرفضنا فإن هذا هو التنافر بين متشابهين وهو مايجعلنا نشير في طريقين متوازيين من رفض كل منا للآخر. ولكننا إن أردنا التواصل كان علينا لازمًا أن نعمد إلى التقاطع مع الآخر لبيان حقيقة فكره وعقيدته بل والتقاطع معها ونحن نقبله وهو ما أشرنا إليه بالاختلاف في طريقة التطبيق لأننا نقبله حتى وهو يرفضنا.. لأننا نقبل منه ما ترفضه قناعتنا. لهذا اختلفنا. ولهذا ينجذب إلينا فنصبح نحن حجر المغناطيس الذي يجذب إليه ماصغر أو كبر من أي معدن يحيط به.
كن كالمغناطيس واعمد إلى أن تختلف عمن يرفضونك بقبولك إياهم. فهذا هو سبيلك الوحيد للتواصل معهم بل وجذبهم إليك أيضًا.

الطريقة الوحيدة لبقاء الأمل.. هو أن تبقي الأمل قائمًا
يحكى أن رجلًا كان يسير في الصحراء هائمًا تائهًا ضائعًا لايدري إلى أين يتجه أو متى يصل إلى أرض معمورة بل ولايدري إن كان سيكمل يومه حيًا يرزق أو إنه إلى ممات أكيد ولكنه كان يسير وبداخله أمل في أن يصل في وقت قريب إلى مكان به حياة.. طعام.. مياه لتبعث فيه الحياة من جديد.
وعلى هذا الأمل سار رجلنا هذا ليالي عديدة لايدري عددها ولكنه كان متأكدًا أن كل ليلة تمر تقربه من مبتغاه حتى اشتد به الكرب عند قرب انتهاء مؤنه وإحساسه أنه أصبح على شفا النهاية. وبالرغم من أنه لم يكن قد أنهى كل مؤنه إلا أن إحساسه بقرب النهاية قد جعله يفكر في لحظات موته القريبة وأنه بعد سويعات قليلة سيكون بلا ماء ولا زاد وأنه على أبواب ملاقاة رب كريم. لهذا ضعفت قوته وأصبح يرى في نفسه ضعفها وعدم قدرته على الاستمرار وأصبح كل مايتخيله هو كيف أنه سيصبح في لحظات قريبة جدًا طعامًا لذئاب الصحراء من حوله حتى سقط ينتظر نهايته.
وتخبرنا القصة عن أن رجلنا هذا عندما اسنيقظ بعد أيامًا عديدة منهك القوى قد وجد أعرابيًا بجانبه يخبره بأنه قد وجده على بعد أمتار قليلة من ضيعته منهك القوى مغيب الوعي تحوم من حوله النسور. فلما أخبره رجلنا عن أنه فقد الأمل في أنه سيحيا أكثر من ذلك رد عليه الأعرابي بقوله:
لقد فقدت الأمل وقت احتياجك إليه. إننا نحتاج الأمل عندما نفقد الزاد والزواد وليس ونحن لايزال لدينا القليل منه. إن الطريق الوحيدة لبقاء الأمل في نفوسنا هو أن نبقي الأمل قائمًا وأن نتيقن أننا سنصل في وقت ما إلى مبتغانا إن نحن أبقينا الأمل قائمًا أننا سنصل.
إننا عندما نفقد الأمل في من حولنا أو حتى في أنفسنا في أننا سنستطيع الوصول معًا إلى نقطة التقاء فإننا نعلنها صراحة أن لا أمل. والكارثة الحقيقية هو أننا عادة ما نفقد الأمل عندما نصل إلى نقطة اختلاف جوهرية تجعلنا نرى مدى التباين فيما نعتقده وما يعتقده الآخرون. ولكن الكوميديا في هذه النقطة، هو أننا عند نقطة الاختلاف هذه ومستوى التباين الجوهري الذي يفرق عادة بين الأضداد فإننا نكون في أشد الحاجة للتمسك بالأمل في الوصول إلى نقطة التقاء لا أن نفقد الأمل ونبدأ في التعامل مع واقع الاختلاف على أنه فرض عين وأنه لا مفر منه لأن المفر منه يكمن في تشبثنا بالأمل في وجود نقطة تلاق تمكننا من التواصل مجددًا.
لاتفقد الأمل في قدرتك على التواصل مع الآخر لحظة ضياع فرص التواصل لأن هذه اللحظة هي ذاتها اللحظة التي تستلزم تمسكك بالأمل في قدرتك على التواصل.

لكل منا قناعته بتبرير أخطائه
هل صادفت مرة في حياتك أن رأيت متهمًا بسرقة أو قتل أو حتى بخطأ إداري ما يعترف بخطئه ويطلب ممن حوله أن يعاقبوه لأنه أخطأ وهو يعترف بأنه أخطأ وهو يعلم بخطئه وبعقابه.
إننا عادة عندما نخطئ فإنه يكون لدينا قناعة معينة بالأسباب التي جعلتنا نخطئ بل وتبرر لنا هذا الخطأ لتشعرنا في النهاية بأننا كنا ضحية لظروف ما أو لمؤثرات أو مغريات ما جعلتنا تحت الضغط الذي تولد عنه هذا الخطأ. إننا نرى هذا في المحاكمات عندما يسأل من سرق بعد تأكيد الاتهام عن الأسباب التي دفعته للقيام بهذه السرقة فيجيب بكل علامات الأسى: إنها ظروفي الأسرية التي ولدت لأجد نفسي أعيشها وكأن هذه الظروف هي المبرر التي يجب معها قبول الخطأ.
إنها طبيعتنا البشرية التي جبلنا عليها من تحكيم عقلنا في أخطائنا لإيجاد المبررات التي تجعلنا نتعايش مع هذا الخطأ وكأنه لامفر منه بل وتدفعنا أيضًا إلى المجادلة والدفاع عن هذه القناعة مع كل من حولنا لا لصحة موقفنا ولكن لقناعتنا بمبررات هذا الخطأ حتى وإن اختلف معنا من حولنا. إن هذا هو موقفي وموقفك وموقف كل منا عندما يأتي الأمر لمناقشة أخطائنا أو لتحديد العقاب اللازم لهذا الخطأ.
لهذا كان علينا إن نحن أردنا التواصل مع من حولنا أن نعلم جيدًا أن لكل منا قناعته بمبررات خطئه وأن اعترافه بالخطأ لايعني على الإطلاق أنه قد أخطأ وهو يعلم أنه يخطئ ولكنه قد أخطأ وهو لديه من المبررات ماجعلته يخطئ بدون أي إحساس بهذا الخطأ وقت حدوثه. لذا فإننا لايجب أبدًا أن نركن لتعريف الخطأ بقدر مايجب علينا من تفهم وجهة نظر الطرف الآخر وإعطائه المساحة الكافية لبيان كل مبرراته التي كانت كافية لوقوعه في الخطأ حتى وإن رفضناها. إن إحساسه بأنه قد وضح وجهة نظره ستعطيه الإحساس بأنه لم يقع عليه ظلم من جراء معاقبته على خطأ بدون بيان مبرراته بل وستساعده على تفهم موقفك إن أنت أظهرت له مدى تفهمك لموقفه.
إن الإنسان عادة مايؤخذ بنتيجة قناعته وليس بقناعته نفسها. فلاتحرم أحد من بيان قناعته حتى تستطيع أن تلزمه بنتيجتها إن أنت اختلفت معه.

إياك والإنصات وقتما يكون مطلوبًا منك الكلام
إن المقولة بأن الكلام من فضة والسكوت من ذهب هي مقولة حقيقية تفرضها علينا طبيعتنا المتأملة التي تتيح لنا تأمل الأحداث من حولنا وتحليلها بحيث تكون مشاركتنا بالكلام في محلها وذات فائدة مباشرة على الأحداث.
عندما يتم تعميم هذه المقولة بين طرفين فإن هذا يعني أنهم سيجلسون ينظرون كل إلى الآخر وهو يتمتع بذهب السكوت حتى لايطيح به فضة الكلام وهو مايصبح فصلًا دراسيًا بين أخرسين يمتنع كل منهم عن الكلام. إن هذه المقولة هي صحيحة جدًا في وقتها فقط وهو وقت الإنصات وإعطاء الفرصة للطرف الآخر للكلام وإيضاح موقفه وإثبات أننا وإن كنا نختلف معه ولكننا لن نجور على حقه في عرض موقفه بل وإبداء موافقتنا المبدئية على قناعته التي ستبقي في النهاية قناعته هو فقط حتى يثبت توافقنا أو اختلافنا معها.
ولكن عندما نكون قد قمنا بإعطاء المساحة الكافية للآخر لعرض أفكاره ومعتقداته فإنه يصبح من الخطأ بمجال أن نمتنع عن المشاركة بالكلام عن قناعتنا ومعتقداتنا إن كنا حريصين فعلًا على التواصل مع الآخر. إن إمتناعنا عن المشاركة بالحديث وقتما يكون مطلوبًا منا ذلك هو نوع من الانسحاب الذي قد يحسب ضدنا أو يعطي الانطباع بموافقتنا النهائية على رأي الآخر وعدم وجود قناعة أخرى مضاده وهو مايهدم مبدأ التواصل القائم على وجود مساحة من التفهم بين رأيين حتى وإن اختلفا أو تباينا ولكنهما في النهاية رأيان يختلفان ولكن لايفسدان للود قضية.
إن التوافق التام بين طرفين هو محض خيال لأننا لانتوافق أبدًا كبصمة الأصابع ولكننا نتفق على أن نتواصل رغم الاختلاف كبر أو صغر. لهذا كان علينا أن نقوم باستعراض وجهة نظرنا وقتما يكون مطلوبًا منا ذلك وبدون الخوف من أن يكون عرضنا لوجهة نظرنا هو دليل اعتراضنا على وجهة النظر الأخرى طالما نحن التزمنا منذ البداية بمبدأ القبول للآخر وتفهم حقه في عرض وجهة نظره والذي هو في نفس الوقت إعلان لنفس الحق لنا.
إياك والركون إلى الإنصات كدليل على تفهمك وقتما يكون مطلوبًا منك الكلام. فهذا ليس تفهمًا... بل إنه دليل على عدم التفهم لمبدأ التفهم.
كن هادئًا.. يحار عدوك فيك
إننا عندما ندخل في أي قضية فكرية أو نقاش جدلي حول حقوق أو مستحقات فإننا نطلق العنان لانفعالتنا تتحكم فينا وفي سير الأحداث بحيث يمكن لغضبنا أن يسيطر على سير النقاش فنذهب بعيدًا عن الموضوع الأساسي إلى موضوع آخر من عدم الاحترام أو التردي في مستوى الحديث أو التطاول بالكلام أو حتى التشابك بالأيدي ونترك الموضوع الأساسي الذي نحن بصدده.
إن مستوى الهدوء الذي نستطيع فرضه في أي تناظر فكري أو عملي أو حتى شخصي هو مايحدد سير النقاش وقدرة كل طرف على التواصل مع الطرف الآخر بحيث أن الطرف الأكثر هدوءًا هو عادة ما يكون الطرف الأكثر سيطرة على الأمور ليس عن ضعف أو قلة حيلة ولكن عن قدرة على الاحتواء والسيطرة على الانفعالات وتحليل المواقف لدراسة أبعادها وآثارها على الطرفين.
إن الإنسان الهادئ هو إنسان يستطيع بقوة مداراة انفعالاته وبالتالي أفعاله بحيث إن الطرف الآخر يجلس يضرب أخماسًا في أسداس عن ماهية الخطوة التالية المتوقعة ومدى تأثيرها على سير الأحداث.
إن رغبتنا في التواصل مع الآخرين تحتم علينا فرض نوع من أنواع السرية على انفعالتنا بحيث لاتؤثر على الطرف الآخر وتحيد به عن الموضوع الأساسي الذي نحن بصدده وتجعله يخرج ما بداخله بغير حساب لانفعالتنا وردة أفعالنا. لهذا كان هدؤنا هو المفتاح الذي يساعدنا على فتح باب الحوار مع الطرف الآخر بالشكل الذي يساعد على أن يعرض كل طرف أراءه وأفكاره بدون التأثر بردة فعل الطرف الآخر. بل إن هدوءنا في التعامل مع مانرفضه يجعل الطرف الآخر في حيرة من موقفنا وبحيث يبدأ في مراجعة حساباته من جديد ليعلم أين نقف نحن في مواجهة ماعرضه هو علينا وهو مايعطي الفرصة لأن يراجع هو موقفه ويبدي نوع من التفهم لموقفنا إن نحن تعاملنا مع مانرفضه منه بمنتهى الهدوء.
كلما كنت هادئًا زادت قدرتك على السيطرة على انفعالاتك، وحار من حولك في توقع ردة فعلك.

بقلم: محمد شاهين