نظريات الاستثمار في رأس المال البشري

نظرية رأس المال البشري لشولتز
رغم أن نظرية الاستثمار البشري لم تتبلور كنظرية إلا بأبحاث شولتز(*)، وأن فكرة تقييم الأفراد كأصول بشرية لم تلق الانتشار الواسع إلا بظهور هذه النظرية، إلا أن الجذور الحقيقية لهذه المفاهيم ترجع إلى القرن الثامن عشر، فقد وجدت عدة محاولات في هذه الفترة هدفت إلى جذب الانتباه إلى أهمية العنصر البشري، تحديد ماهية رأس المال البشري، وإدخال مهارات الفرد كأحد مكوناته، و التركيز على الاستثمار البشري لتحسين مهارات وإنتاجية الفرد، تقدير قيمة رأس المال البشري لتحديد الأهمية الاقتصادية لمخزون الموارد البشرية إن صح هذا التعبير و لتحديد القيمة الاقتصادية للأفراد بالنسبة للمجتمع و كذلك تحديد الربحية الاقتصادية لرأس المال البشري و الناتجة من هجرة العمالة، و الاستثمار في مجال الصحة و التعليم و التدريب.
حاول شولتز البحث عن تفسيرات أكثر فعالية لتفسير الزيادة في الدخل، فسعى إلى تحويل الانتباه من مجرد الاهتمام بالمكونات المادية لرأس المال إلى الاهتمام بتلك المكونات الأقل مادية وهي رأس المال البشري. فقد لاحظ شولتز إهمال الباحثين للثروة البشرية، وتجنب أي تحليل منظم لهذه الثروة. لذا فقد ركز اهتمامه للوصول إلى نظرية للاستثمار في رأس المال البشري تهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية.
يعد مفهوم شولتز للاستثمار في رأس المال البشري إسهاما كبيرا في مجال الاقتصاد؛ حيث أشار إلى ضرورة اعتبار مهارات ومعرفة الفرد شكل من أشكال رأس المال الذي يمكن الاستثمار فيه. فمن وجهة نظر شولتز فإن هذا النوع من الاستثمار قد حقق معدلات أسرع للنمو في المجتمعات الغربية عما حققه الاستثمار في رأس المال المادي، ومنه فنمو رأس المال البشري يمكن أن يكون من أهم السمات المميزة للنظام الاقتصادي.
وقد بنا شولتز مفهومه لرأس المال البشري، على ثلاثة فروض أساسية هي:
أ- أن النمو الاقتصادي الذي لا يمكن تفسيره بالزيادة في المدخلات المادية، يرجع أساسا إلى الزيادة في المخزون المتراكم لرأس المال البشري، (والذي كان يعرف بفعل العنصر المتبقي Residual Factor ثم صار مرادفا لتعبير الاستثمار في رأس المال البشري)(2)
ب- يمكن تفسير الاختلافات في الإيرادات وفقا للاختلافات في مقدار رأس المال البشري المستثمر في الأفراد؛
ج- يمكن تحقيق العدالة في الدخل من خلال زيادة نسبة رأس المال البشري إلى رأس المال التقليدي.
وقد ركز شولتز أبحاثه الأولى للاستثمار البشري على الإنتاجية في مجال الزراعة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد أشار إلى أن إدخال رأس المال الجديد و المتمثل في تنمية الموارد البشرية الزراعية يؤدي إلى زيادة مستمرة في الإنتاجية. ففي رأيه بالرغم من أن خصوبة الأرض الزراعية و توافر مياه الري و التمتع بالحرية السياسية و توافر الأساليب الفنية الزراعية، تساعد جميعها على تحقيق الزيادة في الإنتاجية الزراعية، إلا أن الاستثمار في الأفراد من خلال منح دراسية للمزارعين هي التي حققت الطفرة في الإنتاجية الزراعية.
وقد ركز شولتز اهتمامه على عملية التعليم باعتبارها استثمار لازم لتنمية الموارد البشرية، وبأنها شكل من أشكال رأس المال. ومن ثم أطلق على التعليم اسم رأس المال البشري طالما أنه يصبح جزءا من الفرد الذي يتلقاه. وبما أن هذا الجزء أصبح جزءا من الفرد ذاته، فإنه لا يمكن بيعه أو شرائه، أو معاملته كحق مملوك للمنظمة. و بالرغم من ذلك فإن هذا الجزء (التعليم) يعد شكلا من أشكال رأس المال طالما أنه يحقق خدمة منتجة ذات قيمة اقتصادية. يمكننا أن تقرأ في كتاب (Peter Drucker) المعنون ( Poste-Capitalist Society ) سنة 1993 ما يلي:" إنتاجية المعرفة ستصبح أكثر فأكثر العامل المحدد للتنافسية، سواء بالنسبة للدولة، للصناعة، أو للمنظمة."(3)
وقد بنا شولتز مفاهيمه هذه بناءا على فرض أساسي مؤداه وجود زيادة في الدخل الوطني نتيجة للاستثمار في الموارد البشرية. ويشير شولتز إلى أنه بالرغم من صعوبة وضع مثل هذا الفرض موضع الاختبار، إلا أن هناك كثيرا من المؤشرات التي تشير إلى وجود جزء كبير من الزيادة في الدخل الوطني لا يمكن تفسيرها إذا ما تمت المقارنة بين الزيادة في الناتج الوطني (المخرجات)، بتلك الزيادة في الموارد المستخدمة في تحقيق هذا الناتج (المدخلات). ومثل هذا الجزء يمكن تفسيره من خلال المفاهيم الخاصة بالاستثمار في الموارد البشرية.
و بالرغم من تركيز دراسات شولتز في مجال الاستثمار البشري على التعليم، إلا أن الكثير من المفاهيم المطبقة في مجال التعليم يمكن تطبيقها على المجالات الأخرى من الاستثمار البشري وخاصة في مجال التدريب. ففي مجال التعليم حدد شولتز نوعين من الموارد التي تدخل في التعليم وهي:
أ- الإيرادات الضائعة للفرد و التي كان يمكنه الحصول عليها لو أنه لم يلتحق بالتعليم؛
ب- الموارد اللازمة لإتمام عملية التعليم ذاتها. وأشار شولتز إلى أن هيكل الأجور و المرتبات يحدد على الأجل البعيد من خلال الاستثمار في التعليم، و التدريب، و الصحة و أيضا البحث عن معلومات لفرص عمل أفضل.
و يتطلب التعليم كعملية استثمارية تدفقا كبيرا من الموارد. وتشمل تلك الموارد كل من إيرادات الطالب الضائعة أثناء فترة التعليم، و الموارد اللازمة لتوفير المدارس. ومن وجهة نظر شولتز فإنه من الضروري دراسة كلا من التكلفة و الإيرادات المرتبطة بعملية التعليم. فبالنسبة للإيرادات فإنها تمثل أهمية خاصة و يرجعها إلى:
أ- أهمية الإيرادات الضائعة بالنسبة للطالب أثناء فترة التعليم؛
ب- تجاهل الباحثين لهذه الإيرادات الضائعة.
أما بالنسبة لتكلفة الخدمات التعليمية التي تقدمها المدرسة فهي عبارة عن تقديرات لقيمة ممتلكات المدرسة المستخدمة في التعليم، إلى جانب المصاريف الجارية للمرتبات و الأجور و المواد المستخدمة في عملية التعليم.
وقد أثار شولتز نقطتين هامتين في مجال الاستثمار في التعليم وهما:
أ- تجاهل و إهمال دراسة رأس المال البشري؛
ب- العامل المعنوي أو النفسي المتعلق بمعاملة التعليم كاستثمار في الإنسان.
وفي رأي شولتز أن أكبر خطأ أو قصور في الطريقة التي تم التعامل بها مع رأس المال في التحليل الاقتصادي هي إلغاء رأس المال البشري من هذا التحليل. فقد اعتقد البعض أن اعتبار التعليم وسيلة لخلق وتكوين رأس المال من الأمور التي تقلل من شأن الإنسان و تسئ إلى نفسيته. وفي رأي شولتز أن هؤلاء الباحثين قد بنو اعتقاداتهم على أساس أن الغرض الأصلي للتعليم هو الغرض الثقافي وليس الاقتصادي. فالتعليم في رأيهم ينمي الأفراد لكي يصبحوا مواطنين صالحين ومسؤولين من خلال إعطائهم فرصة للحصول على فهم القيم التي يؤمنون بها.
ويري شولتز بأن الاعتراف بالغرض الاقتصادي للتعليم لا يعني انتفاء الغرض الثقافي له. فإلى جانب تحقيق الأهداف الثقافية فإن هناك بعض أنواع التعليم التي يمكن أن تحسن من طاقات وقدرات الأفراد اللازمة لأداء أعمالهم وإدارة شئونهم، وأن مثل هذا التحسن يمكن أن يترتب عليه زيادة في الدخل الوطني. وخلاصة القول فإنه يمكن اعتبار كل من الآثار الثقافية و الاقتصادية نواتج مشتركة لعملية التعليم. ويعني هذا أنه وفقا لمدخل شولتز فإن الإسهامات الثقافية للتعليم تؤخذ كمعطيات يبدأ بعدها تحديد ما إذا كانت هناك بعض المنافع الاقتصادية للتعليم و التي يمكن اعتبارها رأس مال يتم تحديده وتقديره.
وفي تحليل شولتز للتكلفة و الإيرادات المتعلقة بعملية التعليم، ركز على أهمية الإيرادات الضائعة للطالب من منظورين:
أ- إمكانية النظر إلى دراسة ومذاكرة الطالب على أنها عمل، وأن هذا العمل من بين أشياء أخرى يمكنه أن يساعده على تنمية موارده البشرية؛
ب- افتراض أن الطالب لو لم يكن ملتحقا بالعملية التعليمية، فإنه يمكنه أن يكون مشاركا في القوى العاملة، يحقق إنتاجا أو يؤدي خدمة ذات قيمة اقتصادية و التي يحصل بناءا عليها على أجر. وعلى هذا فإن هناك تكلفة فرصة بديلة للالتحاق بالمدرسة؛
ج- ضرورة الاستثمار في الموارد البشرية خاصة في الدول النامية؛ حيث أن الموارد لديها قليلة مع تعارض الأولويات المختلفة لهذه الموارد واللازمة للإصلاح الاقتصادي.
ويمكن من خلال مفاهيم تلك النظرية تفسير عديد من الظواهر مثل: الاختلاف في مستوى أجور الأفراد، وهجرة العمالة، و الزيادة في الإيرادات المتحققة للفرد، و أيضا تفسير النمو البطيء للدول النامية.