كم للتشاؤم والمتشائمين من أثر مدمر على الحياة والعمل والإبداع، هم بحق أكبر خطر على الحياة البشرية من أي خطر آخر، يأتي أحدهم إليك وأنت منهمك في عمل بناء يخدم المجتمع فيرسل رسائله التشاؤمية القاتمة فلا يصدر عنك إلا وقد كسر حماسك لما أنت منهمك فيه، وللأسف إعلامنا مليء بالبرامج المتشائمة التي تظهر الدمار والغش والحروب والقتل ومخاوف الاقتصاديين والسياسيين والفساد وتكتفي بذلك فقط، وددت لو أن لدينا برنامجًا إعلاميًا يعنى بالفأل وكل ما فيه يدعو ويحث على الإيجابية وحب الحياة، ولي تجربة في فترة قضيتها كنت خلالها أبحث عن شخص ما يقول لي الحياة هبة عظيمة يجدر بنا استثمارها أو أنت مبدع وناجح، ولنا أن نتصور كم سيكون لمثل هذه الكلمات من أثر كبير في بعث الطاقة الإيجابية وهدم جبل اليأس الذي خيم على القلوب والأذهان، قد يقول قائل أحداث الحياة المعاصرة في كثيرٍ من أحداثها تدعو إلى التشاؤم واليأس! غير أن لدي اعتقاد متنامٍ أننا نحن من يصنع التشاؤم ويقتل الحياة ولنا أكبر العبر في سيرة العالمة والعابدة والأديبة سيدتنا سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم وعن بقية الخلفاء الراشدين أجمعين، التي ولدت عام 47هـ، واشتهرت بهذا الاسم الذي لقبتها به أمها نظرًا لهدوئها وسكونها وسكون الناس إليها لسماحة نفسها وخفّة ظلها واسمها الحقيقي آمنة، أمها الرباب بنت امرئ القيس، تزوجها الحسين بن علي ثم استشهد ومعه اثنان من أشقاء السيدة سكينة، وكانت الرباب من خيار النساء وأفضلهن وقد خطبت بعد استشهاد الحسين، فقالت: ما كنت لأتخذ رحمًا بعد رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورثت الحسين بأبيات كان منها:
سِبْطَ النبيِّ جزاك اللهُ صالحةً عَنّا وجُنِّبْتَ خُسْرانَ الموازِينِ
قد كنتَ لي جَبَلًا صَعبًا أَلُوذُ بهِ وكنتَ تَصْحَبُنا بالرُحْمِ والدِينِ
مَن لليَتامَى ومَن للسائلينَ ومَن يُعْنَى ويأوِيْ إليهِ كُلُّ مِسكينِ
واللهِ لا أبتغي صِهْرًا بِصِهرِكُمُ حتى أُغَيَّبَ بينَ الرَمْلِ والطِينِ
وبقيت بعد ذلك سنة وتوفيت، ولم تكن ابنتها سكينة قد أكملت عقدها الثاني، ثم فجعت بموت عمتها السيدة زينب بنت علي التي كانت أقرب الناس إليها بعد أمها، عادت سكينة إلى الحجاز وأقامت في كنف أخيها زين العابدين، وخُطبت إلى ابن عمها عبدالله بن الحسن بن علي فقتل بالطائف، ثم وافقت على الزواج بمصعب بن الزبير، ولكن سرعان ما قُتِلَ مصعب، وفي غمرة هذه الأحداث القاتمة التي مرت عليها بقيت محتفظة بتماسكها وإيجابيتها وتفاؤلها وكانت رمزًا لبيت النبوة المشرق، يضم منزلها المضيء شمل المسلمين ويعمل على إشاعة المحبة والمودة، وفي الثلث الأخير من حياتها كان أكبر همها تعليم المسلمين وعقد المجالس الأدبية والعلمية التي كانت مقصدًا لكثير من العلماء والأدباء على اختلاف مشاربهم ومواردهم، وكانت تحب سماع الشعر إلى جانب ما كان لها في ميادين العلم والفقه والمعرفة والأدب من شأن كبير، كما كان لها منزلة كبيرة في الكرم والسخاء ومساعدة الفقراء، وكانت سيدة نساء عصرها ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقًا وأدبًا وأفضلهن عفة وعلمًا وشعرًا، لقد كان ردها على كل حالات التشاؤم التي مرت بها هو الانهماك أكثر في أعمال الحياة الصالحة التي تبعث التفاؤل والإيجابية من جديد. سئلت ذات يوم: كيف صبرت على كل المصائب التي مرت بك وهذا الفقد المتتالي لمن أحبهم قلبك واستطعت بعد هذا كله أن تنهضي وتعلمي وتقودي فقالت: إذا كان الموت حق فإن للحياة حق كذلك، واستمرت في هذا النهج المتفائل وبهذه الوتيرة من العطاء والانفتاح على الحياة حتى السبعين من عمرها رحمها الله تعالى.
نعم كم تغدو الحياة صعبة عندما يضيع منها أغلى ما فيها، ونشعر بأنها باتت مستحيلة عندما نفقـد أعـزّ ما نملك، عندما نستيقظ لنجد أعـزّ الناس قد فارقونا ورحلوا عنـا، لكن كما أن الموت حقٌ مفروض علينا كذلك هي الحياة، إن من أبهج لحظات المرء وذروة سعادته أن يجد إنسانًا يحمل أو على الأقل يجاري تلك المشاعر اللاهثة في مساحات العمر القاحــلة، ولكن إن عز ذلك الإنسان أو لم يوجد فهل تقف الحياة؟ أعتقد أن انغماسنا في حب الحياة والحفاوة بهذه العطية الإلهية العظيمة ومن ثم العمل في بث السعادة في قلوب الغير هو أكبر رد على تلك المشاعر الهدامة التي تختلجنا وهذا علامة من علامات قوة الأمم ولنا استشهاد في ذلك بقوة العالم الغربي المعاصر ويحضرني تعليل لهذه القوة ورد في صحيح مسلم: قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ)، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ ؟! قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لخصالاً أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ.

بقلم: م. عبدالله عسيري