لم تعد الإدارة علمًا نظريًا متوقفًا في الحركة الإبداعية على مجموعة عتيقة من الأسس والنظريات، وإنما تحدث ثورة مستمرة على نظريات الفكر الإداري وتطبيقاته وعلومه، ومن الصعب جدًا أن يتم حصر تلك التطورات، وإنما يمكن فقط طرق أبواب الموضوعات التي تشغل الفكر الإداري ومفكريه في العصر الحديث. وبعض تلك الموضوعات لها كتابات قديمة وإنما هي في الوقت الراهن تفرض نفسها على الساحة الإدارية مرة أخرى لحاجة ملحة في تطوير تلك الموضوعات أو التطبيق العملي لها، فأصبح على المدير المعاصر أن يلم بالعديد من الموضوعات والقضايا الإدارية. إن الأمر لم يعد قاصرًا على دورات أساسية في التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة وغيرها من العناصر الإدارية التي لا خلاف على أهميتها، وإنما تذهب حاجات المدير المعاصر لأبعد من ذلك بكثير.
إنه ومن غير شك سيكون عمل المدير المعاصر وفقًا لأساسيات علم الإدارة ونظرياته الراسخة، ولكن تختلف رؤية وتفسير كل من هذه العناصر والأساسيات بحسب قراءة المدير للواقع الذي يحيط به، وإن صحت قراءة الواقع مهد ذلك لإدارة حكيمة وصحيحة وفي الإتجاه الفعال الذي تحتاج إليه المنظمات. والموضوعات والقضايا الإدارية المعاصرة ليست بالموضوعات الجديدة تمامًا، وإنما يمكن وصفها بالجديد القديم، حيث كانت موجودة بالفعل، وسبق الحديث عنها بصورة أو بأخرى، وإنما تطفو الآن أهميتها على العمل الإداري المعاصر، ومن بين تلك الموضوعات والقضايا ما يتعلق بثقافة المنظمات وإدارة تلك الثقافة، وما يسمى بإدارة التميز، وكل تلك الموضوعات الخاصة بإدارة المعرفة وإدارة رأس المال الفقري للمنظمات. كما تثار موضوعات خاصة بتطبيقات متعددة للإدارة الإلكترونية والتدريب الإلكتروني لمنسوبي المنظمات والمتعاملين معها.
أيضًا هناك موضوعات يجب أن يحسن المدير المعاصر الإلمام بها والتعامل معها والاستفادة منها كما هو الحال بحوكمة الإدارة والشركات وإدارة القيمة وإدارة الأزمات. وينبغي كذلك الإلمام بالتقنيات والأساليب الحديثة فيما يتعلق بالمقارنات والقياسات المرجعية. وقد استحدثت الإدارة العصرية وظائف عديدة لدعم رجال الأعمال والمجالس الإدارية بتلك الخبرات والمهارات الحديثة التي من بينها على سبيل المثال موضوع الوظائف المتعلقة بمديري تطوير المشاريع. كل هذه الموضوعات وغيرها تستهدف تلك السلسلة تبسيطها للقارئ الكريم للاستفادة منها في عالم الإدارة المعاصرة.
وتتناول هذه الحلقة من سلسلة موضوعات إدارية معاصرة، موضوع إدارة ثقافة المنظمة، حيث تهتم المنظمات العالمية الرائدة والناجحة بالناتج الفكري التفاعلي بين الإدارات المتلاحقة للمنظمة ومنسوبيها، والتي يتناولها عمومًا مفهوم ثقافة المنظمة.
ما الذي تعنيه كلمة الثقافة؟
بعيدًا عن التعريفات المعقدة، يشير مفهوم الثقافة إلى مجموعة القيم والعادات والأمثلة والمعتقدات والمعارف والفنوان والآداب وكل ما يحصل عليه أفراد المجتمع ويشاركون فيه من خبرات ومهارات ومكونات حضارية متوارثة بين الأجيال. ومن هنا فإن الثقافة تتضمن مجموعة من القيم والمعارف لدى الأفراد، ويتشاركونها فيما بينهم ويتوارثونها، ويحدث لها عمليات تفاعلية متراكمة. فالثقافة تشير للروابط الفكرية بين أفراد مجتمع معين، وحصيلة موروثة ومتزايدة وتراكمية فيما بينهم. فتجيب الثقافة على عدة أسئلة حول أفراد المجتمع، كيف يفكرون؟ كيف يختلفون؟ كيف يعملون؟ ماذا يعرفون؟ ماذا يقبلون؟ ماذا يرفضون؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تميز أفراد المجتمع عن غيرهم من أفراد المجتمعات الأخرى. كما أن ثقافة المجتمع قد تكون أصيلة مترسخة من جذور عميقة، وقد تكون أيضًا مكتسبة من الغير. وقد يكون الاكتساب من الغير بمحض إرادة الأفراد في تطوير ثقافاتهم، كما قد تكون بموجب سياسات التسويق الثقافي من الغير أو ما يسمى بالغزو الثقافي أحيانًا.
ولكن...ما هو مفهوم المنظمة؟
إن أول ما يتم تعلمه في مجال إدارة الأعمال والعلوم المتعلقة بمجال الأعمال كالمحاسبة وغيرها هو أن المنظمة لها شخصية، ولكنها شخصية اعتبارية وليست حقيقية. بمعنى أن المنظمة ليست شخصًا حقيقيًا بشريًا مثل الأفراد، وإنما يتم التعامل معها كأنها شخص. فحين توقع عقدًا للعمل يكون الطرف الأول فيه هو المنظمة وأنت الطرف الثاني. فالمنظمة تمثل منشأة ما لها مقر حقيقي أو افتراضي، يتم من خلالها تجميع جهود مجموعة من الأفراد بطريقة منظمة لتحقيق غايات معينة. ويمكن لنا أن نتصور افتراضيًا من خلال ذلك أن المنظمة هي التي تعاقدت، فهي تفكر وتتحرك وتربح وتخسر وغير ذلك كما يفعل الأشخاص. إن مفهوم المنظمة يذهب لأبعد من مجرد الجدران والمساحات الجغرافية، فالمنظمة ليست البيئة المادية فحسب، وإنما هي ذلك الشخص الاعتباري الذي يتعامل مع المجتمع المتمثل في أفراد وموظفي تلك المنظمة أو المتعاملين معها. ومن الأكيد أنه لا يمكن استبعاد أصحاب الملكية ومجلس الإدارة الخاص بكل منظمة حينما يتم الحديث عن مفهوم المنظمات، لأنهم يساهمون بدرجة كبيرة في صياغة الصورة الذهنية عن المنظمة لدى الغير.
ماهية ثقافة المنظمة
إذا كان مفهوم الثقافة مبني على المجتمع الذي نستهدف دراسة ثقافته، فإن ثقافة المنظمة تكون فيه المنظمة هي ذلك المجتمع. فتكون الثقافة التي تجمع بين أفراد تلك المنظمة. بحيث تضم الأفكار والقيم والمعتقدات والسلوكيات الذهنية لأفراد تلك المنظمة وتميزهم عن باقي المنظمات، وتؤثر على سلكوياتهم التنظيمية. وكما سبق التوضيح حول افتراض حتمي ثابت لدى فكر الأعمال بأن للمنظمة شخصية، فينبني على هذا الافتراض أن لها شخصية وثقافة وفكرًا ومعرفة. إن المنظمة تضم فكر منسوبيها وقدراتهم الذهنية والمعرفية.
إن ثقافة المنظمة تضم جزءًا موروثًا ومتراكمًا عن النتاج التفاعلي السابق لأفراد المنظمة ومديريها الحاليين والسابقين. كما تضم جزءًا آخر تفاعليًا جديدًا متمثلاً في سياسات الإدارة الحالية للمنظمات ومنسوبيها الحاليين، بالإضافة إلى التفاعلات التي تحدث استجابة لمجريات العمل بالمنظمة بالسوق. وبالرغم من أن المنظمة شخص اعتباري، إلا أن سلوك المنظمة يتمثل في سلوك أفرادها وإدارتها. وبالرغم من أن مدركات الأفراد تتمثل في مجموعة من المدركات، إلا أنها تبدو في النهاية في شكل سلوك واحد يعبر عن ما يسمى «ثقافة المنظمة». كيف يتم التعامل بهذه المنظمة؟ كيف يتخذ فيها القرارات؟ كيف يتم معاملة أفراد المنظمة للغير؟ ما هو الموروث المعرفي بتلك المنظمة؟ وكيف تدار عملية البناء الثقافي والمعرفي بالمنظمة؟ وغير ذلك من الأسئلة الموجهة للتعرف على البناء الإدراكي والثقافي للمنظمة.

هل التعرف على ثقافة المنظمة هام للمديرين؟
كلما كان التوافق بين ثقافات أفراد المنظمة متقارب ومتناغم ومتفاعل كان نجاح المنظمة وتميز ثقافتها عن باقي المنظمات. ومالم يحدث هذا التوافق والتناغم والتفاعل البناء سيحدث تصادم وتراجع قد يؤدي إلى الانهيار. وهذا ما يفسر ما يسمى بالصدمة الثقافية حينما يلتحق فرد جديد بالمنظمة من ثقافة مختلفة بشدة عن الثقافة المترسخة بين أفراد المنظمة التي انتقل اليها، وقد تكون تلك الصدمة الثقافية بالإيجاب وقد تكون بالسلب. بمعنى أنها قد تكون نقلة ثقافية للأفضل بفارق لم يتوقعه الموظف المنتسب حديثًا للمنظمة. كما أنها قد تكون نقلة ثقافية بنقلة سلبية بدرجة أسوأ مما توقعه الموظف. وفي كل الحالات تسمى بالصدمة الثقافية. والمهم ألا تحدث صدمات ثقافية بين موظفي المنظمة أنفسهم والتقليل منها ومن حدتها والعمل على التقارب الفعال فيما بينهم نحو بناء التميز الفكري للمنظمة.
هناك محوران أساسيان يبنى عليهما نجاح المنظمات أو فشلها بميدان العمل. أولهما هو التأكيد على كون أفرادها على قلب رجل واحد، أما الثاني فأن يكون اجتماع أفراد المنظمة على الصواب. فكلما بدت المنظمة بتوافق داخلي واتفاق على قيم ومدركات وغايات وتوازنات فهي قد حققت الدعامة والمحور الأول لنجاح المنظمة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن في كثير من الحالات يكون هذا المحور أعلى أهمية من الاتفاق على الصواب!! وبالرغم من أن هذه العبارة تبدو غريبة، إلا أن القول إن الاتفاق على نصف الحق أفضل من الاختلاف على كل الحق. وبعبارات أوضح، فإن الوحدة الثقافية تمثل أهمية كبرى، ويمكن تصويبها لاحقًا وتباعًا من خلال إدارة حكيمة لثقافة المنظمة. وليس المقصود بكل تأكيد ألا يكون هناك تباين واختلاف في الآراء، فتلك سنة كونية وضرورة حتمية لنجاح المنظمات. وإنما المقصود هو الاتفاق على البنية الأساسية والقيم والغايات الأساسية التي سيتم اتباعها كميزان لاتخاذ القرارات وتقييم وتقوييم الأداء بالمنظمة.
كيف تدير ثقافة المنظمة؟
كانت هناك نظرة قديمة للمديرين تقول إن الثقافات لا يمكن تغييرها بداخل المنظمة لأنها حصاد الثقافة العامة للمجتمع الذي توجد به المنظمة، وبالرغم من أن هذا الكلام يصح على بعض عناصر الثقافة كالمعتقدات الدينية على سبيل المثال وبعض عناصر الثقافة الأخرى، إلا أن النظرة الحديثة للمديرين قد تغيرت جذريًا بخصوص الثقافة التنظيمة، والنظرة الحديثة ترى أن الثقافة داخل المنظمة يمكن تغييرها بدرجة ما، بل ويمكن إدارتها أيضا بشكل كبير، وإدارة الثقافات بداخل المنظمة تؤدي إلى ما يطلق عليه بثقافة المنظمة. إن المنظمة كشخصية اعتبارية تبني ثقافتها من خلال أفرادها وتأثير إدارة المنظمة على ثقافاتهم. وتأخذ إدارة ثقافة المنظمة ثلاثة مجالات رئيسية. أول مجالات إدارة ثقافة المنظمة هو بناء ثقافة المنظمة التي تميزها عن غيرها من المنظمات. ثم المحافظه على تلك الثقافة خلال حياة المنظمة وتعاملاتها. كما أن إدارة ثقافة المنظمة قد تلجأ إلى تغيير أو نقل ثقافتها وفقًا لظروف معينة.
إن بناء ثقافة المنظمة يبدأ من مراحلها التأسيسية وصياغة الفلسفة والقيم التي ستتبناها المنظمة، كما تبدأ كذلك من لحظة اختيار موظفيها وتعيينهم بالمنظمة وفقًا لمواصفات تم تحديدها من قبل وفقًا لرؤية مستقبلية سبق أن أعدتها إدارتها التأسيسية والتشغلية على المستوى الاستراتيجي. كما أنه لبناء ثقافة المنظمة والحفاظ عليها في نفس الوقت فإنه يتعين كذلك على إدارتها إدارة كل من الشعارات والحكم والأمثلة التي قد تعلنها المنظمة وترسخها وتبثها بين أفرادها، مثل قيمة العمل الجماعي والانضباط وغيرها. كما أن الفعاليات والاحتفالات التي ترعاها المنظمة هي خير وسيلة لبناء ثقافة المنظمة بل والحفاظ عليها، فنجد المنظمة التي تحرص على تكريم موظفيها الذين بلغو سن التقاعد تختلف ثقافتها عن غيرها التي لا تحرص على مثل هذه الفعالية. ومن الغريب هنا أن هناك قيمًا وثقافات إيجابية وقيمًا وثقافات سلبية. فهناك فرق بين المدير الذي يسعى للمعلومة من خلال مصادر معروفة ومقبولة وبين المدير الذي يقوم بتوظيف خفي لبعض الموظفين لينقل له أخبار زملائه الذين بالمنظمة على سبيل المثال.
وفي مثال آخر، تختلف ثقافة المنظمة التي يكون فيها المدير يحرص على أن يضرب مثلاً لمرؤوسيه على الالتزام والانضباط عن غيرها التي يطالب فيها المدير بالانضباط ولا يطبقه على نفسه بأدائه بداخل المنظمة. كما أن إدارة المنظمة قد تلجأ في بعض الحالات إلى تغيير بعض من ثقافتها أو نقله لمنظمة أخرى، كما هو الحال في حالات الاندماج بين منظمتين أو في حالات تغيير إدارة المنظمة.
هل لثقافة المنظمة وظيفة معينة؟
لثقافة المنظمة مجموعة من الوظائف الرئيسية التي تخدمها. ويمكن تلخيص تلك الوظائف في أربع مجموعات رئيسية من الوظائف. مجموعة الوظائف الأولى خاصة بصياغة هوية المنظمة والحفاظ عليها من الذوبان في ثقافات أخرى، ولتمييزها عن الغير. والمجموعة الثانية من الوظائف تخص تعزيز الحفاظ على النظام واستقراره من خلال الحفاظ على ثقافة منسوبي المنظمة. أما المجموعة الثالثة من الخصائص فهي الخاصة بتوفير جو يساعد على الالتزام الطوعي الجماعي بين أفراد المنظمة من خلال تقارب ثقافاتهم بداخل المنظمة. ورابع هذه المجموعات هي مجموعة الخصائص المتعلقة بتقريب سلوكيات الأفراد. وكل هذه المجموعات من الخصائص تخدم وظيفة أساسية واحدة خاصة بخدمة الشخصية الاعتبارية للمنظمة من خلال تقارب ثقافات أفرادها. بل إن المنظمات ذات الثقافات القوية تساعد على تشكيل ثقافات عملائها أيضًا وليس فقط موظفيها.
فإذا ما أخذنا المبيعات بالشركات التي تهدف إلى الربح على سبيل المثال، فقد نجد إدارة تعتمد على مؤشر حجم المبيعات وترسخ هذا الجانب وتترجمه في سياسة المكافآت والترقيات وغير ذلك، فتعتبر ثقافة المنظمة هنا ثقافة تركز على الكم دون الكيف، بينما قد تكون مفردات الثقافة مختلفة في منظمة أخرى منافسه لها، بحيث تركز على ما يمكن وصفه «قوة المبيعات» وليس «كمية المبيعات»، فتقوم تلك المنظمة الأخرى باعتماد سياسة المكافآت والترقيات وغيرها من أساليب التحفيز والتشجيع، وفقًا للقدرة على الاحتفاظ بالعملاء القدامى والمهارة في اكتساب عملاء جدد، وليس على مجرد حجم المبيعات. ولسنا هنا بصدد تقييم أي الثقافتين أفضل وإنما لمجرد الإشارة بمثال عملي لوظيفة الثقافة وتأثيرها على مجريات العمل بالمنظمة والتعاملات بين أفرادها أنفسهم وبين الأفراد وإدارة المنظمة.
ما الذي نعنيه بخصائص ثقافة المنظمة؟
تتصف الثقافة بمجموعة من الخصائص والسمات، لعل من أهمها الاتفاق على مجموعة من القيم بين أفراد الثقافة الواحدة. والثقافة تقارب بين أفرادها في اتباع مجموعة من المعايير المستخدمة كموازين لما يجب فعله أو اجتنابه. كما أن الثقافة يكون هناك التزام ضمني بين أفرادها على المعايير والقيم الخاصة بها، وعلى إطار الفلسفة العامة لها. ويمكن القول إن خصائص ثقافة المنظمة تضم: عمومية عناصرها وانتشارها بين أفراد المنظمة، تؤثر على اتخاذ القرارات وتقييم البدائل والمقارنة والموازنة فيما بينها لدى أفراد المنظمة، يتم توارثها وتوريثها بين الأجيال المتلاحقة، نتاجًا لتفاعلات وبناء متراكم غير جامد في التفاصيل والفرعيات وطرق التنفيذ وبعض الأساسيات أحيانًا.
ويجب هنا أن نفرق بين الخصائص العامة لثقافة المنظمات، وبين خصائص ثقافة كل منظمة عن غيرها. فهناك خصائص عامة لدى كل المنظمات وهي ما سبق تناوله في هذا الجانب. أما خصائص ثقافة هذه المنظمة عن غيرها فهو ما يمكن وصفه بتحليل ثقافة المنظمة وتقييم قوة الثقافة لديها أو ضعفها.
ما هي أبعاد ثقافة المنظمة؟
هناك إطار لأبعاد ثقافة المنظمة يمكن تحديده والتعرف عليه بكل منظمة، ويمكن صياغة تلك الأبعاد في ثلاثة أبعاد رئيسية. يتمثل البعد الأول في هذا الإطار هو رؤية المنظمة للمستقبل وصياغتها لمراحل عملها وأهدافها التي تسعى لتحقيقها بشكل حقيقي وليس من خلال عبارات نظرية فحسب. والبعد الثاني يتمثل في مدى احترام وتقدير الأفراد من خلال إدارة المنظمة بشكل مباشر، ومن خلال الشخصية الاعتبارية للمنظمة بصورة عامة. وقد يبدو ذلك واضحًا جليًا من خلال لوائح المنظمة الخاصة بأفرادها وحقوقهم والمحافظة عليها، ابتداء من الحقوق الأساسية في ساعات العمل والرعاية الصحية وغيرها ومرورًا بحقوقهم في المشاركة في اتخاذ القرارات التي تتعلق بأعمالهم، أو على الأقل الحرص على قبول آرائهم ومقترحاتهم، ووصولًا إلى فرص الترقي والوصول إلى الشراكة في ربحية المنظمة في بعض الحالات.
والبعد الثالث من هذه الأبعاد يشير لمدى حرص المنظمة على روح الفريق والعمل الجماعي من دون قتل التنافسية، ومن دون تجاهل المجتهد والتغافل عن المسيء، وتلك معادلة صعبة. فقد يكون من الحكمة التنافس على تنفيذ كل فرد بالفريق لدوره، ومن هنا لن يحدث صراع أو تعارض بين دور كل فرد بالمنظمة، ولكن يهتم هذا البعد بمدى تأصيل روح الفريق والعمل الجماعي مع الإبقاء على التنافس الإيجابي والبناء فيما بين أفراد المنظمة. وإضافة إلى تلك الأبعاد فهناك بعد الابتكار والإبداع الذي يميز المنظمة عن غيرها. وكما تقول ثقافة بعض الشركات العالمية InnovateorEvaporateوالتي تشير لأهمية الابتكار والإبداع وتعني ابتكر أو ستختفي من دنيا الأعمال. ولكن هناك درجات وصور لثقافات المنظمات فيما يخص الابتكار والتجديد.
هل هناك حالات تحتم تغيير ثقافة المنظمة؟
هناك مجموعة من الحالات التي يلجأ متخذو القرارات الاستراتيجية بالمنظمات أحيانًا إلى تغيير ثقافة المنظمة، ومن بين تلك الحالات ما يلي:
• مرور المنظمة بتحديات في كفاءة الأداء، أو أزمات تشغيلية توحي بوجوب وجود تغييرات استراتيجية متطلبة لتغيير ثقافة المنظمة.
• تغيير الإدارة العليا واستبدالها بإدارة جديدة، قد تتطلب تغيير ثقافة المنظمة.
• انتقال ملكية المنظمة لجهة أخرى متبنية لفكر وثقافة مختلفة عن الفكر الإداري الأول.
• الاندماج في منظمة أخرى، أو تكوين شراكات وتحالفات استراتيجية بين المنظمة ومنظمات أخرى.
• إقدام المنظمة على تغييرات استراتيجية بسوق العمل أو بيئته المجتمعية بما يتطلب تغييرات اسراتيجية في ثقافة المنظمة لمواجهة تلك التغيرات والتحديات.
كيف أقوم بتقييم ثقافة المنظمة؟
يدرك المدير المعاصر جيدًا أهمية ثقافة المنظمة في تحقيق النجاح والتميز في مجالات الأعمال المختلفة، وفي القطاعات المختلفة سواء أكانت حكومية أو ربحية أو خيرية، ومن هنا تأتي أهمية متابعة وتقييم ثقافة المنظمة. وغالبًا ما يكون هناك مستويان لتحقيق التقييم الفعال لثقافة المنظمة. المستوى الأول يكون متمثلاً في الرقابة على ثقافة المنظمة، ويكون هذا المستوى من الداخل، ويوصف بالمراقب. بينما المستوى الثاني فيتمثل بالمراجعة الخارجية من خلال خبرات متخصصة في ثقافات المنظمات واستشاريين في مجال التطوير والتغيير الثقافي. وتتم المراقبة بشكل منتظم ومستمر وفقًا لضوابط موضوعية وتقارير منتظمة ودورية، وأدوات للرصد الداخلي. بينما المراجعات الخارجية تتم على فترات متباعدة لأنها تتم من خلال خبرات خارجية وقد تكون مكلفة إلى حد ما، كما أنه من غير المفضل لدى كثير من إدارات المنظمات أن تطلع الخبرات الخارجية على المشكلات الداخلية لأفرادها لفترات طويلة ومستمرة، وإنما غالبًا ما تكون المراجعات الخارجية مؤقتة وعلى فترات متباعدة كما سبق الإشارة قد لا تقل عن سنة على أقل تقدير، وقد تتراوح في الغالب بين ثلاث إلى خمس سنوات.
وبكل تأكيد تتراوح مستويات المنظمات في أخذها لعملية تقييم ورقابة ثقافة المنظمة من خلال المراقبة والمراجعة. فقد يكون هناك قطاع كبير من المديرين لا يولي هذا الجانب أي اهتمام ويركز على الجوانب التي ستترجم إلى مبيعات قريبة تثبت كفاءته بإدارة المنطمة وتحقيقه للربحية، وهو أمر متعلق أيضًا بالثقافة الرئيسية للمنظمة والقائمين عليها وأصحاب رأس المال وكيانها القانوني.
ما هي أنواع ثقافة المنظمة؟
يمكن تصنيف ثقافة المنظمة إلى نوعين رئيسيين وهما: الثقافة القوية والثقافة الضعيفة. وقبل الحديث عن تفصيل كل منهما، تجدر الاشارة إلى أن هناك خلط كبير في بعض الكتابات الإدارية بين نوع الثقافة وبين صورتها كما سنتعرض لاحقًا لبعض أهم تلك الصور. إن الثقافة القوية هي التي تحظى بالثقة والقبول الواسعين من جميع أو أغلب أعضاء المنظمة ومشاركتهم الإيجابية وتعاونهم الذاتي مع إدارتها. وبالتالي فهي تتصف بالتأثير والقبول والمشاركة الذاتية والتعاون. كما أنها تتصف بثقة أعضاء المنظمة، وانتشار جو من الألفة والمودة بينهم في الغالب بما يمكن وصفه بالولاء للمنظمة. أما الثقافة الضعيفة فهي على عكس ما ذكر بالثقافة القوية. والواقع التطبيقي لا تكون فيه حالات المنظمات على مستويين من القوة والضعف فقط، وإنما على درجات متفاوته من القوة والضعف، بل وتتغير بحسب إدارة كل منظمة لثقافتها.
أما حالات وصور ثقافات المنظمات، فمنها حالة المنظمة فيما يتعلق بالبيروقراطية أو بالإبداع والتطوير والابتكار. فقد تكون ثقافة المنظمة هنا قوية أو ضعيفة من حيث مدى الابتكار والتطوير بها وتوفير مناخ مناسب لأعضائها لتحقيق ذلك. كما تتشكل صورة المنظمة في تركيزها على إنجاز أفرادها بشكل أكثر من أدوارهم أم العكس. وهنا تجد المنظمات التي تشكل ثقافتها على ما يسمى AchievementOrientedأو الموجهة بالإنجاز، وعلى أساسها تضع معايير المكافآت والترقيات وغيرها بشكل يختلف عن تلك التي تعتمد على الدور والأداء بدرجة أكبر. كما توجد حالات لثقافة المنظمة المثالية القيم والتوجهات أو تلك ذات الثقافة التكتيكية المعتمدة على المواقف.
ثقافة المنظمات الدولية
تزيد أهمية وتأثيرات ثقافة المنظمة وحتمية دراستها وإدراتها بعناية بالمنظمات الدولية التي قد تضم العديد من الجنسيات بين منسوبيها. وكما أن اللغة من مفردات الثقافة الأساسية وروافدها، فإن اختلاف اللغة من غير شك سوف يؤثر على الموروث الثقافي لدى الأفراد ودورهم التفاعلي في بناء ثقافة المنظمة، وفي مثال واضح لأهمية ثقافة المنظمة وتفاعلها الحيوي واستفادتها من الثقافات المتعددة، تهتم الحكومة الكندية عمومًا بوجود ثقافات متعددة وتشجع على ذلك. وفي كثير من المدارس التعليمية الكندية، يتم تقديم برامج تهيئة خاصة للطلاب القادمين لأول مرة مع أسرهم ضمن برامج الهجرة إلى كندا، ويتم في تلك البرامج تقديم المناهج التعليمية لفترة محددة لهؤلاء الطلاب مع أفراد من نفس الظروف، ومن ثقافات متقاربة غالبا، وبعد فترة تهيئة للطالب يتم دمجه مع باقي الطلاب بالمدرسة. وتحرص إدارة المدرسة على تقديم تهيئة ثقافية عن ثقافة كندا وثقافة المدرسة أثناء فترة التهيئة المبدئية. كما أن تلك الفترة المبدئية للتهيئة تهدئ من الصدمة الثقافية التي قد تحدث للطالب المهاجر أو المغترب. وكما سبق الإشارة إلى أن تلك الصدمة قد تكون صدمة إيجابية وقد تكون سلبية. لأنه في بعض الأحيان تكون إيجابية بفارق كبير فتحدث صدمة. فعلى سبيل المثال، توجد شركات للنقل الجماعي في كثير من دول العالم المتقدم تعتمد على ثقافة الثقة بالراكب بأنه سيقوم بدفع تذكرة الرحلة من نفسه بمجرد ركوب الحافلة، وإن لم يدفع فمن المفترض أنه يحمل اشتراكًا لفترة من الزمن. وقد يكون ذلك بمثابة صدمة إيجابية لفرد قادم من ثقافة مختلفة تعتمد على أنه يجب مراقبة الراكب والتأكد من السداد، وإلا فلن يقوم بسداد قيمة الرحلة.
وأخيرًا، لا يسعنا في الختام إلا التأكيد على أن نجاح المنظمات في زمن الانفتاح على الغير وعولمة الدول والمنظمات يتطلب صياغة واضحة ومناسبة لثقافة المنظمة التي ستتبناها، ومن ثم إدارة واعية وحكيمة لتلك الثقافة من منظور أنها تراكمية وتفاعلية بين منسوبيها الذين تم اختيارهم بعناية بما يحقق أهداف وغايات المنظمة كشخصية اعتبارية.

بقلم: د. أسامة أحمد