تحدثنا في العدد الماضي حول ماو تسي تونغ، ونكمل في هذا العدد ما بدأنا به. ففي عام 1919 انتقل ماو إلى بكين حيث أستاذه الخاص وملهمه البروفسر يانغ تشانجي والذي أصبح أستاذًا في الجامعة، والذي أمن لماو وظيفة في مكتبة الجامعة ليصبح مساعدًا لمسؤول المكتبة الشيوعي القديم LiDazhaoوالذي كتب سلسلة من المقالات في صحيفة «الشباب الجديد». في هذه الفترة كان البلاشفة الروس بقيادة لينين يسقطون الملكية القيصرية ويستولون على الحكم في الاتحاد السوفييتي لتبدأ الماركسية تتسلل إلى حركة الثورة الصينية.
يزعم ماو أنه تأثر بالأناركية (الفوضوية) حتى أصبح متطرفًا، لكن مع الأيام ومناقشة أستاذه في المكتبة LiDazhaoاقتنع بالماركسية ومزجها مع بعض الفلسفات الصينية والأفكار اللينينية وشيء من الوطنية. كان ماو يتقاسم غرفة ضيقة مع سبعة طلاب هنانيين لكنه كان مسرورًا بجمال بكين، بدأ زملاؤه في اهتبال الفرصة والسفر للدراسة في فرنسا، أما هو فقد بقي في الجامعة ربما بسبب عدم قدرته على تعلم لغة ثانية، كما حدث معه في تعلم اللغة الإنجليزية في شانغشا. بقي في الجامعة، وكانت معاناته مع أساتذة الجامعة هي في لهجته القروية الجنوبية والمحتقرة، ولذلك كان كلما بدأ في استهلال حديثه معهم يزجرونه على لهجته. في نهاية 1919 غادر بكين إلى شنغهاي مشيًا على الأقدام مع صديقه المتجه إلى فرنسا للدراسة.
تأسس الحزب الشيوعي على يد ChenDuxui و LiDazhaoوذلك في منطقة الامتياز الفرنسية من شنغهاي. أصبح ماو مديرًا للكلية التي كان يدرس فيها في شانغاشا عاصمة هونان، وهناك دشن فرع الحزب الشيوعي. كتب عنه الكثير لأن الطواغيت غالبًا تصنع لهم أمجاد زائفة لتسويقهم إلى الدهماء من الناس، أما الجوانب المظلمة فتطوى ولا تروى، لكن كتاب MAOTheUnknownStoryسيرة ذاتية، كتبتها المؤرخة جونغ تشانغ وزوجها جون هاليدي، صدر عام 2005 وأصبح الأكثر مبيعًا. المؤلفان الزوجان لم يقبلا التفسيرات المثالية لصعود ماو إلى السلطة والمزاعم السائدة حول دوره الأسطوري. بدأ المؤلفان يبحثان عن شهود عاشوا تلك الأحداث ليسردوا لهما جميع الوقائع من المسيرة الطويلة ThelongMarchوما حيك حولها من أساطير مكذوبة، ودحض مزاعم ماو في حرب زراعة الأفيون، بل الحقيقة تقول إنه لم يكن متسامحًا في زراعته فحسب بل كان مشاركًا في تجارته أيام الحرب الأهلية، وذلك لتزويد جنوده بالمال، إضافة إلى التخلص من خصومه في الحزب بتعريضهم لمهام غير ضرورية، وأما قتال اليابانيين فقد كان ماو حريصًا على الاحتفاظ بقواته من أجل يوم الكريهة مع الحزب الوطني، الكتاب يفتح المحاكمات وجرائم القتل لثلاثة عقود على حياة خمس سكان العالم ومقتل 70 مليون نسمة في زمن السلم.
ولعله من المستحسن أن نذكر قصة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، عندما كان سفيرًا في الصين كما يرويها في كتابه «التطلع إلى الأمام» قصة طريفة عن لقائه هو وكيسنجر، وووستن لورد مع ماو تسي تونغ بعد أن ضعف وأصبح صنمًا مهترئًا لا قيمة له، حتى إنه كان لا يتكلم إلا بإشارات خفيفة, وتتقطع منه الكلمات من كبر سنه، يقول بوش عن ذلك اللقاء: «مع مرور وقت الاجتماع ظهر أن ماو أصبح أقوى وأكثر تيقظًا، أشار بيديه مرارًا، وحرك رأسه من ناحية إلى أخرى، وظهر بأن الحديث يحفزه» أي: ينشط مع انفعالات الحديث مع أنه لا يقدر أن يتكلم ولا يعبر»، قال: «واستمر يشير في أحاديثه إلى الله! هذا ماو؟! والراوي جورج بوش.
يقول: إذ علق مرة قائلاً، لـكيسنجر وبوش: إن الله يبارككم ولا يباركنا، إن الله لا يحبني لأنني قائد عسكري وشيوعي - يقول عن نفسه - كلا إنه لا يحبني، إنه يحبكم أنتم الثلاثة، وأشار برأسه إلى كيسنجر، وووستن لورد وإليَّ، هكذا يقول الرئيس بوش عن ماو الذي كان في تلك الأيام في عالمنا الإسلامي بل في جزيرة العرب تخرج المظاهرات الطلابية في عدن لتقول: لا إسلام بعد اليوم، ماو رب الكادحين. هذا المسكين الذي يحاول أن يعبر لـبوش أنكم طيبون أنتم يا أمريكان لأنكم نصارى، أما هو يقول عن نفسه: إنه شيوعي فلن يباركه الله! ونحن نعرف أنه لا بارك لا في بوش ولا ماو، ولكن بالنسبة لـماو يعتذر لـبوش أنه صاحب دين فهو خير منه، فهذا هو قائد نصف العالم الشيوعي في زمنه، وهذا تعبيره، وهذه حسرته، حسرة الكافرين في الدنيا، فما بالكم بحسرتهم يوم القيامة بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! هذا التحسر على هذا العمر الذي ضاع على نظريات قتل من أجلها الملايين في الصين وفي الاتحاد السوفييتي وخاصة من المسلمين، قتلوا من أجل هذه النظريات، ثم تكون النتيجة بعد هـذه التضحيـات، وبعد إهدار الطاقـات، وبعد الجهود الكبرى، تكون النتيجة والنهاية أن هذا الزعيم يتحسر ويتمنى، كما قال الله عنهم: }رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ{!! سبحان الله! كيف تستيقظ الفطرة ويستيقظ نداؤها؟!. الحقيقة أن ماو حول الصين من إقطاعية راكدة تحكمها السلالات المتعاقبة إلى دولة حديثة قوية لكن بكلفة بشرية هائلة وبطريقة إدارية قد يكون فيها كثير من التساؤلات.

بقلم: د. عبدالرحيم المالكي