الأسرة هي الحضن الأول للطفل , يؤسر في داخلها لا لذات الأسر وإنما ليتلقى ما يحتاجه من غذاء تربوي ورعاية صحية , والذي يزاول مهمة الأسر التربوي هما الوالدان :
الأب والأم , فيأسران الطفل ويحيطان به تربويا كما يحيط السوار بمعصم اليد , وأي تراخ في هذا السوار يجعل الطفل عرضة للتسيب داخل وخارج الأسرة .

إنها مسؤولية تربوية تضامنية مفروضة عليهما , لأنهما ارتضياها يوم اتفقا على إقامة الأسرة بالعلاقة الزوجية , وبالتالي لا يحق لأي منهما أن يقدم على استقالة شفوية أو مكتوبة يترك بموجبها مهمته التربوية تجاه أبناءه , ولم نشهد أحدا في هذه الأرض يفعل ذلك , ولو حدث فإنه سيكون موضع استهجان واستنكار شديدي اللهجة من أفراد المجتمع.

لكن منطق الشجاعة التربوية مع أنفسنا يجعلنا ننظر للواقع الذي نعيشه ونستنطقه إن كان يعرف استقالة من هذا النوع , والجواب لا يحتاج الى طول نظر ورؤية , فالواقع يثبت فعلا بما لا يدع مجالا للشك إن استقالة فعلية واقعية تربوية حدثت وتحدث وموجودة , لا بصورة استقالة فردية فحسب بل بصورة استقالات جماعية يزاولها المجتمع بل المجتمع في مجموعه.

لقد استقال الآباء تربويا ولم يعودوا يفهمون من مهامهم تجاه الأبناء , الا مسؤولية المصروف والكسوة والأكل وتوفير أسباب الراحة , وحسبوا أنهم بذلك قد أدوا الأمانة واستحقوا تكريم وتقدير المجتمع لهم ... وأصبح هؤلاء الآباء مشغولين فيما عدا ذلك خارج أسرهم يقتلون أوقاتهم في المهام الإدارية والوظيفية ثم التجارية , ناهيك عن الأسفار والحل والترحال , فإن بقي من وقت يومهم رمق آخر النهار أجهزوا عليه في جلسات ما ربما كان فسادها أكثر من صلاحها .



وكثيرا ما يرجع الآباء آخر ليلهم ليجدوا أبناءهم في نوم عميق , ويصبحون والأبناء في مدارسهم , وهكذا .. ولربما مضت أيام دون ان تقع أنظار الآباء على أبناءهم .

هؤلاء الأبناء في حقيقة الأمر يملكون أبا كل صلتهم به انه كان سببا في وجودهم , لكنهم لا يملكون أبوة الأب بمعناها التربوي الواسع .. أبوة التربية , أبوة العطاء والتجربة والخبرة , غن وجود هذا الأب بين أبناءه ولو صامتا , فيه من عمق التربية ما فيه , فيه التضحية بوقته , فيه التقدير لهم , فيه إحساس المشاركة فيه الطمأنينة ..
فما بالك إذا نطق الأب وهو بينهم خيرا أو حل مشكلة أو ناقش همومهم .. إنه بذلك يكسر الحواجز بينه وبينهم ويسبر غور نفوسهم , بل يصبح مخططا لحياتهم خارج هذه الأسرة بما يعود عليهم بالنجاح والسداد .

إن قضية هذه الاستقالة جرح عميق تدمى له صدور الكثير من الأبناء , وتذبح من خلالها اسر بكاملها .

فإذا انضمت الى هذه الاستقالة الأبوية استقالة مقدمة من الأم , في تسأل عن أسرة ولا سار ولا سوار , سينفرط العقد وتتسيب الأسرة بكاملها , ويصبح الأبناء يتامى تربويا , يقتاتون تربيتهم من الخادمة أو الشارع وأجهزة الأعلام , وما أدراك .. ؟

الم بهذه الاستقالة فقدت أمومتها كما فقد الأب أبوته , لأنها لم تستحق لقب (أم) في مقابل الولادة فحسب , وإنما استحقته حين امتزج دمها بدم أبنائها , وامتزج حنانها بمشاعرهم , وأصبحت نفوسهم مهيأة للتلقي التربوي عنها من أول رضاعة لهم .

وهذه الاستقالة لا تضر الأبناء فحسب وإنما تضر الآباء والأمهات وهي بالتالي تضر أبناء الأبناء وأبناءهم وهكذا .. وما وصل إليه المجتمع الأوروبي في هذا الشأن خير شاهد , حيث أصبحت القاعدة الأسرية عندهم أن الأبوين كلما كبرت سنهما قلت منزلتهما وهانت على المجتمع بل على أبنائهما , وأصبح منتهى ما يتمنيانه ملجأ مناسبا للعجزة يأويان إليه , وقد يكون لهما من الأبناء من هم في قمة الوظائف والمركز في الدولة , إنهم يعاملون الإباء والأمهات كما عاملوهم , وكما تدين تدان .

وعكس هذه القاعدة نجدها في النهج الإسلامي فإن الأبوين كلما كبرت سنهما عظمت منزلتهما وتقديرهما من المجتمع ومن أبنائهما , وحسبك دليلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يلوم ويعيب من الأبناء من أدرك أبويه شيخين كبيرين ولم يدخل بسببهما الجنة فيقول : ( رغم انفه ثم رغم انفه ثم رغم أنفه قيل من يا رسول الله ؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة ) .

إن قضية هذه الاستقالات التربوية الواقعية قضية خطيرة تحتاج من الى وقفتين :

وقفة من الدول فاحصة شاملة تتناول أسلوب التعامل مع إفراد المجتمع كأسر وكآباء وأمهات , وتتناول الأجهزة الإعلامية التربوية , والهيكل التعليمي وأهدافه , والتنسيق بين ذلك كله ليعالج هذه القضية .

ووقفة من الآباء و الأمهات ليراجعوا مهامهم الفطرية التي حملها الله إياهم وسطرها في كتابه وبينها نبيه (صلى الله عليه وسلم) وطبقها صحبه الكرام ومن واكب مسيرتهم , نحتاج جميعا الى جلسة مذاكرة نتلقى فيها مهامنا التربوية من جديد تلقيا للتنفيذ في واقع الأسرة والمجتمع , وبغير ذلك سيظل الآباء والأمهات والأبناء بل المجتمع في تشرد وهوان وضياع .