البطالة وعلاقتها بالاضطرابات النفسية

د. موفق العـيــثان

لا يمكن لعاقل أن يقبل بأن الأزمة المالية العالمية لا يمكن أن تؤثر علينا بصورة أو أخرى. كما أنه من الممكن أننا لم نر بعد عمق الجرح المالي والاقتصادي الذي يلم بالعالم اليوم، ونحن جزء من العالم شئنا أم أبينا. وعلينا أن نتحدث بما هو منطقي وواقعي ومتعلق بنا – والبطالة أصلا بدأت تظهر بوجهها غير الحسن من قبل العام الماضي، وازدادت - غير مهملين لما يمكن أن نستفيده من العلوم النفسية أو خبرات البشرية الأخرى.
كل الشعوب تمر بالمشكلات. لكن ليس كل الشعوب لديها طرق دس الرؤوس بالرمال، فهناك من الشعوب من تتحدث بصراحة وصدق لتواجه مشكلات الاقتصاد. الاقتصاد بلا شك يتعلق بجوانب كبيرة من السلوك البشري – وهذا أي السلوك البشري مجال علم النفس عموما. من مشكلاتنا التي نمر بها هي مشكلة البطالة، إضافة إلى مشكلة سوق الأسهم الذي "شفط" البلايين من أموال الناس، ورماها في "الثقوب السوداء" التي لا نعرف عنها شيئا، وبعده أتت المشكلة المالية العالمية (التسونامي المالي)، فهل لكل هذا آثار نفسية على الفرد والناس في ديرتنا؟
تتحدث الدراسات النفسية عن مشكلات نفسية واضطرابات متعددة يمر بها الأفراد من جراء هذه الخبرات السيئة..، وبعض هذه الدراسات النفسية على سبيل الذكر تتحدث بأن الأعراض النفسية تستمر حتى بعد تحسن الاقتصاد - كما في دراسة على مجتمع إندونيسيا (مجتمع مسلم مثلنا) في أزمة التسعينات المالية، وما عاناه المجتمع الإندونيسي من اضطرابات نفسية أثناء وبعد الأزمة المالية.
إن البطالة والتغييرات السلبية الاقتصادي والمستقبل المجهول كلها تسبب لدى الضحايا سلوكا نفسيا لا يعرفونه من قبل. ينمو هذا السلوك كاضطرابات نفسية جديدة على الفرد (رجالا ونساء) من غير إحساس منهم بالمشكلة أولا، ومن ثم بعد مراحل (ربما أشهر أو سنة أو أكثر) تبدأ أعراض الاضطرابات النفسية. طبعا يتوقع القراء الكرام أن يشعر المرء بالاكتئاب والحزن والقلق. لكن المسألة أكبر وأكثر وتخص المجتمع كما الفرد.
يبدأ الرجل مثلا يشعر بأنه منبوذ أو لا يقدره أحد، وينقم على القريب والبعيد من الأهل أو الاقتصاديين أو السياسيين.. إلخ. يلجأ البعض لتخدير آلامه بما تجود به الساحة من مخدرات وكحول أو عادات عدوانية أو سلبية. سيقول الأكبر سنا بأنهم كانوا في زمن فقير، ولم يلجؤوا إلى ذلك لماذا هذا الجيل..؟. لم تكن المخدرات أو الصعوبات والغربة الاجتماعية موجودة سابقا، ولا الدعم الاجتماعي القديم موجودا بالعموم الآن.
سيعاني الرجل أو المرأة من الوصمة (بلا عمل – عاطل - ما توفق بالعمل - لا يجد عملا - عطال بطال). هذه الوصمة تبعده أكثر عن المجتمع، وربما تجعله ينزوي أكثر. وهذا يزيد من الوحدة النفسية التي تكون بداية للاضطراب النفسي عند البعض، ويلجأ بجهل أو يأس لتسكين آلامه بما لا يحب أصلا المخدرات أو الخمر. بعد فترة طويلة يبدأ بلوم النفس، ويكره نفسه بطريقة لا يمكن لنا أن نتخيلها. هذا الكره مرة أخرى سيعمم وسيكون بداية لأن يكره الآخرين وينقم عليهم..، والأسوأ ربما ينتقم منهم (يعني أن الفكرة انتقلت إلى سلوك سلبي أو إجرامي.. إلخ).
من السلبيات في السلوك ( المصاحب للبطالة عند الكثيرين) هي النوم بصورة غريبة تشكو منها الأمهات والآباء، وعدم وجود إحساس بالزمن أو المناسبات الاجتماعية أو المسؤولية الأسرية أو الاجتماعية، ومن السلبيات أن يبدأ البعض بالسلوك العدواني وطبعا أقرب الضحايا سيكونون الأضعف: في مجتمعنا الأضعف هو الطفل والمرأة (على مستوى الأفراد). من الصعوبة بمكان أن تنصر الطفل أو المرأة بطريقة قانونية اجتماعية للتعقيدات المعروفة. في المجتمعات التي بها عنصرية صريحة (ولا مجتمع يخلو منها) فإن الأقليات تكون الأضعف (على مستوى الجماعات).
إن العمل يوجد للفرد هدفا وبرنامجا يوميا (وإن لم يحب عمله) ليسير ساعات يومه ونشاطاته الأخرى. أما البطالة فإنها تحرمه من جدولة يومه أو هدفية يومه أو حتى هدفية الحياة!!
لو أخذنا الاكتئاب لوحده من الاضطرابات المتعددة المرتبط بالبطالة، فإنه سيكلف المجتمع والدولة والفرد غاليا إذا لم نهتم بالوقاية منه، لكن يجب الاهتمام بصورة جدية وليس للأغراض الإعلانية والعلاقات العامة (ليس إعلاميا فقط). سيكون المحك تقليل الاضطرابات النفسية، وتقليل البطالة معا، لابد من الاعتناء بالاثنين منفردين ومجتمعين. اقتصاد الصحة النفسية بالغرب يوضح أن مليارات الدولارات تنفق بسبب الاكتئاب، فتخيلوا لو أضفنا لها الكثير من الاضطرابات الجسدية المتعلقة بالمشكلات النفسية لكم عانى اقتصادنا وإنساننا ومجتمعنا.
للأسف مما يلاحظ الآن عندنا كثرة الجرائم.. لم نكن نتخيلها أن تحدث بيننا من قبل فترة قريبة جدا!، وهذا أول الغيث. ستبدأ الجرائم بكل الأشكال والأنواع من الرجال والنساء والأطفال.. تبدأ بالظهور. حتى جرائم انتحال الشخصية وسرقة المعلومات الإلكترونية وسرقة أموال الناس من البنوك ستكون من الأمثلة الجديدة.
سيصل للأسف بنا الحال بعدم المبالاة بذكر بعض هذه الجرائم من كثرتها. ستتغير التركيبة الاجتماعية لأحياء وضواحي المدن.. هذا إذا استمر تجاهلنا للحال. لا يمكن أن تكون هناك تغييرات اقتصادية ومالية من دون تغيرات اجتماعية واضطرابات نفسية.
درجة وشدة الاضطراب سيقللها إيمان الفرد والدعم الاجتماعي الذي يتلقاه من الآخرين. لكن الدولة عليها أن تسعى للوقاية أكثر بجدية، وأسرع من السابق، مستفيدة من خبرات حقيقة لا وهمية تسعى للمصالح الشخصية.
إن نظرة واقعية للبلدان العربية حولنا (معظمهم عرب ومسلمون) ستوضح ما أعنيه - كثرة البطالة وانتشار الجريمة بالعالم العربي لا يمكن أن تخفيها غيوم "الإنكار" بل هي ساطعة. لطفا راجعوا الجرائم المذكورة بالجرائد لأسبوع واحد (جريدة واحدة) ستجدون مصداقا لهذا الكلام، ليس بعدد الجرائم فحسب. لكننا نجد أن نوعها كذلك أصبح مخيفا.
لا تنسوا أعزائي القراء أن كثيراً من الجرائم لا تصل الإعلام ولا الشرطة، ولا المحاكم. مثلا الاعتداءات الجسدية والجنسية على الأقارب والمحارم من أهمها ولا تعرفون عنها شيئا. ليس الموضوع نظرة سلبية ومتشائمة. بل الواقع يصرخ في وجوهنا. من يذكر منا قبل 10 أو 20 سنة حالة قتل أب أو أم لطفلة لهما بالتعذيب المستمر في البيت؟. ألم نكن نرى الدكاكين مفتوحة وقت الصلاة من غير وجود أصحابها لوجود الأمان أكثر بكثير سابقا من الآن..!
للوزارات دور كبير في تناول هذه المشكلة لكن بجدية. فوزارة العمل عندها مثلا الكثير من الأرقام والإحصاءات التي تتعلق بالوضع الاقتصادي والبطالة.. إلخ. كذلك عليها أن تهتم بالأرقام التالية المتعلقة بالاضطرابات النفسية التي تسببها البطالة أو ترتبط بها، والتي تخصها (مع وزارات أخرى طبعا) هذه الأرقام: هي المشكلات النفسية التي تسبب البطالة أو التي سببتها البطالة. بعدها بإمكان وزارة العمل تناول مشكلات الناس لإقامة دورات وتأهيلهم من الناحية النفسية، وكيفية التكيف مع البطالة، ليس كيفية البحث عن العمل فقط. لأن العمل أحيانا إن وجدوه، لا يرد عليهم بالدخل الذي هم بحاجة إليه، ويبقى العبء المالي عليهم مع وجود العمل.
المهم أن نقول بصدق إنها مشكلات نفسية ليست فردية. بل تهم المجتمع كله، وعلى المجتمع كله (دولة وشركات وأسر..) أن تجهد للتخفيف من الآثار السلبية القادمة أكثر.. لا يفوتنا الفوت...!