صدر كتاب : رؤيتي {التحديثات في سباق التميز}


المقدمة: "فخور بديني ووطني وأمتي"
سألني أحد الصحافيين ونحن في العشر الأواخر من رمضان، لو من الله عليك برؤية ليلة القدر فماذا كنت ستتمنى. أردت القول، كنت أتمنى أن يعلي ربي القدير شأن الإمارات ويعز شعبها ويزيد خيرها لكني استوقفت نفسي لحظة وفكرت لحظات وقلت لو أني تمنيت كل هذا وأكثر منه لكل الأمة العربية فهل كنت سأحرم شعبي من أمنيتي وهو الجزء الإماراتي الألصق بالقلب من الكل العربي الذي يعيش فيه.
يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وأنا أحب لإخواني وأخواتي في العروبة ما أحبه وأريده لإخواني وأخواتي في الإمارات، أريد لهم الوصول إلى مستويات الدول المتقدمة، أريد لهم أن يأخذوا بزمام الأمور، أريد لهم الامتياز في كل شيء وأريد لهم الريادة. هذا ما نحاول الوصول إليه في الإمارات ودبي عبر الإنجازات التي أعاننا الله على تحقيقها والإنجازات الأكبر التي نعمل على تحقيقها بإذنه تعالى، وكل هذا يدعو إلى الفخر، ولكن لن يكتمل الفخر ولا الاعتزاز ما لم يعم الخير والإنجاز والامتياز كل العرب.
أكثر ما يحزنني هو حال هذه الأمة وأرى الحزن يزداد بسبب واقع محزن فيخففه التفاؤل بمستقبل سعيد وأقول لنفسي وللآخرين، كل هذا اليأس والتشاؤم والخوف عابر عبور الغيمة الوحيدة في السماء الصافية. ما يجمع العرب أكثر بكثير مما يفرقهم ونرى لدى أمم أخرى ما يفرقها عن بعضها أكثر بكثير مما يجمعها لكنها تسير في طريق الاندماج والتكامل.
هذا التشتت العربي الدائم غير طبيعي.. فالطبيعي أن نكون كتلة واحدة لكن لن نستطيع تحقيق هذا الهدف إذا ظلت الصغائر تتصدر الكبائر وإذا ظل السلبي يتقدم الإيجابي، وأزمة العرب اليوم ليست أزمة مال أو رجال أو أخلاق أو أرض أو موارد فكل هذا موجود والحمد لله ومعه السوق الاستهلاكية الكبيرة وإنما أزمة قيادة وأزمة إدارة وأزمة أنانية مستحكمة، نَعَم إنها الأزمة الطبيعية التي يفرزها إعلاء حب كراسي الحكم على حب الشعب وتقديم مصلحة الفرد ومصيره على مصير الوطن ومصلحته ووضع مصالح الجماعات والشلل المحيطة بالقائد فوق مصالح الناس، إنها تسخير الشعب لخدمة الحكومة بدلا من الوضع الطبيعي المعاكس.
أنا فخور بديني وفخور بوطني وفخور بأمتي فخور بقائدي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يرحمه الله وفخور بوالدي الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم وبشقيقي الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم يرحمهما الله وفخور بشقيقي وبأسرتي وبجميع بنات وأبناء الإمارات وأبناء وبنات الأمة العربية في كل مكان.
إن تجربتنا المتميزة في الإمارات مثال على ما يمكن أن يتحقق عندما يكرم الله وطناً بقيادة تحب الخير لشعبها وتعمل له لا لنفسها وتسهر على مصالح المجتمع لا على مصالح المجموعة، إن المصداقية في هذا الشأن تكون بالعمل لا بمجرد القول وهذا يبرز الفارق الكبير بين قيادة تعتبر شعبها ثروة الوطن الحقيقية وبين قيادة أخرى تعتبر شعبها العبء الحقيقي، إنه يبرز اختلافاً كبيراً آخر بين قيادة تحب شعبها وشعب يحب قيادته وبين قيادة تخاف شعبها وشعب يخاف قيادته رؤيتنا جلية وأهدافنا واضحة وطاقاتنا كبيرة وعزمنا قوي ونحن مستعدون، نريد دبي أن تكون مركزا عالميا للامتياز والإبداع والريادة وإننا قادرون على تحقيق الامتياز والإبداع والريادة بدعم قيادتنا بإذن الله، نريد دبي أن تكون المدينة العالمية الأولى للتجارة والسياحة والخدمات في القرن الواحد والعشرين لأننا قادرون على توفير الهياكل المتطورة والبيئة المثالية التي تمكنها من القيام بهذا الدور،نريد دبي أن تكون الأولى في الأمن والأمان وسرعة النمو والثقة التي نحرص على تعزيزها والحفاظ عليها في الأوساط المالية والتجارية والاستثمارية والصناعية الاقليمية والدولية ولن ترضى دبي عن المركز الأول بديلا.
وكل المطلوب لتحقيق هذه الأهداف أن نقود الشعب في الطريق الصحيح وننمي في بناته وأبنائه روح الابتكار والإبداع والثقة بالنفس والتصميم على الإنجاز والقدرات القيادية، من يقود من رأس الهرم سيقود رأس الهرم وما هكذا تصنع التنمية المتميزة، إذن يجب على القائد أن يستخرج القيادات من شعبه لأن جهد التنمية جماعي ويتطلب قيادة جماعية. وإذا أحسن القائد الاختيار فإن هذه القيادات ستسير معه في الطريق الصحيح وستجمع جهدها إلى جهده وعندها فقط سنصل إلى الوجهة التي نريدها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "الدين النصيحة، قلنا لمن، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وورد في الحديث الشريف أيضا، عن جرير بن عبدالله قال "بايعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم".
وغايتي من هذا الكتاب النصيحة وتقديم تجربتنا المتواضعة لإخواننا آملاً في أن تعينهم لأن حرصنا على مساعدتهم على تحقيق التنمية المتميزة كحرصنا على أنفسنا، والخطأ والصواب مبدأ مناسب للتوصل إلى النتيجة الصحيحة في المختبرات لا في المجتمعات لأننا نتعامل مع البشر فينبغي أن نختار التجربة التنموية الناجحة والمنهج العلمي الذي يمكن تطبيقه في أي دولة عربية لأننا طورناه في دولة عربية لشعب عربي يربطه بقاطن المغرب في الدين واللغة والتاريخ والتطلعات أكثر مما يربطه بأي عرق آخر يعيش قربنا.
إيقاع تطورنا متلاحق وخططنا التنموية طموحة ونتحرك بسرعة على جبهات تنموية عدة ونتعلم باستمرار لكن النصح لا يكون بالعموم أو بما لا يقدر الناس عليه،الفشل معلم كبير لكن ليس عندنا وقت نتعلم من فشلنا لأننا لسنا ذوي تجربة في الفشل وكل ما تعلمناه في هذا الإطار جاء من فشل تجارب الآخرين وأنا أريد أن أجنب إخواني عناء التعلم من تجارب الفشل وأقدم لهم بكل أخوة ومحبة وتواضع تجارب النجاح عسى أن يكون الرجوع إليها طريق تعزيز النجاح الذي نتمناه لهم.
كل الإنجازات التي تحققت في الإمارات إنجازات للعرب جميعا وكل مشاريع دبي للعرب جميعا وسيتصدر هذا الاعتبار تفكيرنا في كل المشاريع التي سننفذها في المستقبل، وهذه كل تجاربنا وخبراتنا نضعها بين أيديهم يختارون منها ما يشاءون وفوقها التزامنا الأخوي بتقديم كل العون الذي نستطيع تقديمه لمساعدتهم على تحقيقها.
كل متطلبات صنع التنمية العربية المتميزة موجودة اليوم وأنا واثق من صنعها ومن قدرة العرب على العطاء والإنجاز. هذه التنمية المتميزة كانت حلما في الماضي ثم تجسد الحلم في رؤية صنعت الدولة العربية الكبرى ثم انتكست الرؤية وعدنا إلى الحلم الأول وأعتقد أن هناك فرصة الآن لكي يفيق الحلم من غفوته ويصبح رؤية مرة أخرى رغم كل شيء. كيف لا أريد أن أبدأ بشيء لا أستطيع استكماله في هذه المقدمة لذا سأترك لهذا الكتاب مهمة الإجابة عن هذا السؤال.
من الفصل الأول: "الغزال والأسد"
عندما أسمع بعض مديري الشركات يشتكي من صعوبة العثور على الموظفين المناسبين أتساءل كيف توصّلوا إلى هذه النتيجة، ولماذا لم يلتقوا مئات الشباب والشابات المدربين والمؤهلين الذين التقيهم في الاجتماعات والمناسبات الرسمية أو غير الرسمية؟ أعتقد أن مهام مديري الشركات والمؤسسات والمشاريع يجب أن تتضمن اختيار مجموعة مناسبة من الموظفين ذوي الكفاءات العالية وتدريبهم تدريباً خاصاً لكي يصبحوا مديرين مثلهم في المستقبل. لكن هذا لا ينطبق فقط على الشركات فأنا أعتقد أنه من واجب القائد أن ينمي القدرات القيادية لدى من يعرف فيهم الكفاءة والإبداع والاستعداد ليتمكن هؤلاء في الوقت المناسب من تنمية القدرات القيادية لدى العاملين معهم.
هذا يحدث في معظم الحالات لكن ليس دائماً. بعض القياديين والمديرين لا يريد ولا يحبّذ وجود رجل ثان كفؤ ومؤهل في الدائرة التي يعمل فيها لأنه يخشى أن ينافسه ويأخذ مكانه. نحن نخالف هؤلاء الرأي فالقيادي لا يستطيع التواجد في كل الأماكن، ولا يستطيع القيام بكل الأعمال في الوقت نفسه. عليه أن يفوض جزءاً من صلاحياته إلى مرؤوسيه وإلا سينهمك بالجزئيات ويغرق في التفاصيل، ولن يجد الوقت الكافي للقيام بالعمل الأساسي الذي يجب عليه القيام به وهو تطوير العمل وابتكار الحلول. إذا استمر هكذا فسوف يتحول إلى إنسان دائم الشكوى من قلة الوقت لا لأنه مثقل بالعمل الخلاق والمجدي بل لأنه يريد متابعة كل صغيرة وكبيرة لذا يغرق في التفاصيل فتضيع عليه الصورة الكبيرة.
وما هي هذه الصورة الكبيرة؟
الصورة الكبيرة بالنسبة له ولنا وللوطن هي البقاء الذي هو محرك الحياة لذا ترى الكائنات كلها وهي تحاول إما اللحاق بفريستها، أو الهروب من مفترسها في كل ثانية من حياتها. البقاء لا يتحقق بالتمنّي، واستمرار النمو يتطلب جهداً جباراً وانتباهاً كاملاً شاملاً واستعداداً دائماً لكل طارىء محتمل.
نحن نعيش في مجتمعات متحضرة لكن عالم الأعمال يمكن أن يكون مثله مثل الغابة السباق فيها لاقتناص الفرص وتحقيق الأرباح والتوسع. رجل الأعمال الناجح يجب أن يتربص بالفرصة الجيدة ويقتنصها قبل الآخرين. إذا تبدت له لحظة عليه أن يتبيّنها جيداً، وإذا تأكد أنها الفرصة المناسبة يجب أن يسبق الآخرين إلى تنفيذها. الفرق بين من يقتنص هذه الفرص ومن يضيعها ليس كالفرق بين التوسع والانكماش فقط أو بين الثروة والإفلاس بل كالفرق بين البقاء والفناء. يجب أن نفكر هكذا طول الوقت ومعظمنا يفعل هذا لكن ليس كلّنا.
من الفصل الثاني: "الرؤية"
المستقبل هو شباب هذا الوطن. إنهم رافعو رايته وبناة اقتصاده وعماد مقوماته، وهم الذين سيواجهون تلك التحديات على أرض الواقع وسيتوصلون إلى المعادلة التي تضمن استمرار التنمية والبناء والاستقرار لهم ولأجيالهم من بعدهم. نجاح شبابنا ليس نجاحاً للإمارات فقط بل هو نجاح لشباب العرب في كل مكان. إنهم أول المستهدفين بأي رؤية اقتصادية وأي جهد تنموي لذا يجب أن تتضمن الرؤية إعداد الشباب ليس لتتبع خطوات الاقتصاد الجديد أو لمماشاته بل للأخذ بزمامه وقيادة مبادراته.
هذا يقتضي التغيير: التغيير في المناهج، التغيير في التدريب، التغيير في التفكير، التغيير في عمل الحكومة، التغيير في الأولويات. أقول باختصار إن معظم الأدوات المناسبة للاقتصاد الجديد أدوات جديدة يجب إحداث التغيير المناسب للتعامل معها وتحقيق النجاح.
وللنجاح في الأعمال والمشاريع مقومات معروفة، لكن لا شيء يعلو على التخصص في زمن التخصص، والمهنيّة في زمن المهنيّة، والتقنية في زمن التقنية. زمننا باختصار هو زمن الأفكار العظيمة القادرة على صناعة المشاريع العظيمة وليس زمن حشو العقول بالمعلومات. مائة مشروع ناجح يمكن أن توفّر فرص العمل لعشرات الآلاف وتصنع من المستقبل مكاناً أفضل لأبنائنا وبناتنا وكل الأجيال بعدهم.
يجب أن يتعلّم شبابنا وشاباتنا على مقاعد الدراسة كل المواد المعروفة، لكن يجب أيضاً أن يتقنوا خبرات العمل في الشركات والمشاريع كخطوة أوليّة في طريق تأسيس الشركات وإقامة المشاريع الناجحة، ويجب أن تُتاح لهم الفرصة للتفاعل مع الاقتصاد كخطوة أوليّة في طريق تطويره وإثرائه. يجب ألا نكتفي بتقديم أفضل المدارس والجامعات والكليّات لشبابنا وشاباتنا فقط بل أن نقدم لهم أفضل المؤسسات المتخصصة القادرة على تشجيع المبادرة والابتكار ومساعدتهم على تطوير مهاراتهم في حقول الأعمال والمشاريع، والإسهام في تحويل الأفكار المتميزة إلى مشاريع متميزة، وإعداد الهياكل الاستشارية والاستثمارية والإدارية والتسويقية لإنجاح هذه الأفكار.
المسؤوليات التي تقع على عاتق الشباب والشابات رجال وسيدات الأعمال في المستقبل كبيرة، لكن تقع على من هم في موقع المسؤولية مثلنا مسؤولية أكبر هي الأخذ بيد هؤلاء ودفعهم في الطريق الصحيح فمن دون التحفيز والتوجيه والرعاية والعناية والحب لا ينمو شجر ولا يزهر ورد ولا يفيض نبع ولا يصنع الشباب المستقبل الذي يليق بهم وبوطنهم وبأمّتهم.
إن نجاح الأمم بنجاح شبابها، وتحقيق النجاح مسؤولية الجميع لا الحكومات فقط. ستفي الدوائر والهيئات الحكومية بالتزاماتها وستقوم بواجباتها كاملة لكن للقطاع الخاص دوره المتميز في إنجاح هذه المهمة التي تفرد لأبناء وبنات الإمارات دوراً محورياً في عملية التنمية ومسيرة التقدم والتطور.
هذا هو طريقنا إلى المستقبل وهذا هو التوجه العام لرؤيتنا. صناعة التنمية عملية تراكمية، وصنع المستقبل مهمة لا تنتهي. الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم،طيّب الله ثراه، مهّدا لنا طريق التنمية والعطاء والإبداع ويجب أن نتابع الطريق نفسه. التنمية امتحان كبير فيه نجاح وفيه سقوط. هذا ينطبق على جميع العاملين في حكومة دبي لكنه ينطبق عليّ أولاً. حققنا الكثير لكننا لا نزال في بداية الطريق فلنمسك بأيدي بعضنا بعضاً وننظر إلى المستقبل ونسر على درب الريادة الذي رسمته لنا قيادتنا.
من الفصل الثالث: "القيادة"
إن استقراء التاريخ يعطي الانطباع بأن القادة يأتون في أصناف مختلفة فالشائع بينهم أولئك الذين لعب الواقع دوراً مهماً في صنعهم ففرزتهم الأحداث العظام عن غيرهم وأبرزتهم وأعطاهم التاريخ المكانة التي نعرفها. النادر فيهم من يصنع الواقع فيوجد بحنكته وعقله ونهجه القيادي الأحداث التي يتكون منها الواقع وبالتالي التاريخ، والأكثر ندرة صنف من القادة المتميزين الذين لا يصنعون الواقع فقط بل جزءاً مهماً من وجهة المستقبل وأحداثه.
في التاريخين العربي والعالمي مئات من هؤلاء لكن إذا أردتُ حصر التاريخ بعمري فإن الشخصية التي أفكر بها دائماً هي شخصية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فعلاقتنا كانت علاقة الابن بأبيه بما تتضمنه من الحب وصدق المشاعر. كان، يرحمه الله، يجعلك تحبه من تقديره حق التقدير لمن يعمل وينجز، وكان صريحاً مع الناس وأراد الصراحة من الناس لذا عوّدني أن أكون صريحاً معه في كلامي بكل احترام.
قلت في فصل سابق إن الشيخ زايد علّمني قهر المستحيل، لكنّي أعود الآن لأقول إنه علّمني المعنى الحقيقي للحب. لا يستطيع من عرفه إلا أن يحبه لشفافيته وأصالته وصفاء عروبته وفطرته ونقاء سريرته وخصاله وصراحة مواقفه القيادية. إذا تكلم في السياسة فكلامه ليس مجاملة لهذا أو إرضاء لذاك بل لإرضاء الله عزّ وجلّ ثم لإرضاء ضميره. لا أعرفه إلا رجلاً واثقاً بربه ثم بوطنه وأمته ونفسه، رجلاً عند كلمته، إذا وعد وفى وإذا أستجير أجار. هذه هي صفات القائد المتميز، لكن هناك صفة أخرى تميز بها الشيخ زايد. يمكن أن نخاف القائد، ويمكن أن نحترمه، لكن أن يُنعم الله على قائد بحب شعبه له فهذه قمة ما يمكن أن يطمح القائد في الوصول إليه.
الشيخ زايد علّمنا أيضاً أن القيادة مواقف وممارسة يومية وليست كتباً ونظريات. إنها مفهوم إنساني واجتماعي خارج نطاق التنظير. إنها العزم والوثوق بالنفس وبعد النظر وصواب الرأي لكن ليس صواب الرأي العادي. عندما تطرح فكرة يوافق على صوابها جميع الناس، أو جلّهم، ثم يُكتب لها النجاح فأنت ركبت التيار وحققت شيئاً لا خلاف على نتيجته. التميز في رأيي هو أن تطرح فكرة تقول إنها فكرة صائبة ويقول الجميع عكس ذلك وتسبح عكس التيار وتحققها. هذه ليست رؤية عادية. إنه مثال على القائد الذي يسبق زمانه وينظر إلى الأفق البعيد فلا يرى سراب الأحلام بل واقع الرؤية الصحيحة في الطريق الصحيح الذي يقود الشعب في مسيرة التنمية إلى مستقبل أفضل.
ما هو مثالي على ذلك؟ كثيرون داخل الدولة وخارجها انتقدوا الشيخ زايد على حفر الآبار الجوفية في الصحراء واستغلال مياهها. كثيرون قالوا إن هذا العمل إهدار لثروة طبيعية لا تتجدد، وحذروا من أنه سيلحق أضراراً فادحة بالبيئة ويخلّ بالتوازن الطبيعي. لم ير أحد من هؤلاء ما في جوف الأرض ولم تكن لدى أي واحد منهم أدنى فكرة عن كميات المياه في المنطقة لكن هذا لم يمنعهم من متابعة انتقادهم. في النهاية بقيت المخاوف في رؤوس أصحابها ولم يحدث شيء مما توقعوه. من كان يسافر في الماضي بين أبو ظبي والعين ولا يحمل معه ماءه كان يموت من العطش. الشيخ زايد اكتشف مياهاً جوفية تسد حاجة المنطقة عشرات السنين، وحوّل الإمارة إلى أكبر واحة على وجه الأرض في أكثر صحارى العالم قسوة.
وما هو المثال الثاني؟ رجل آخر اختار إحدى أكثر صحارى العالم قسوة، ومنطقة من أكثر مناطق دبي عزلة وصب فيها مئات الملايين من الدولارات لبناء واحد من أكبر الموانىء في العالم، ومنطقة صناعية تعتبر الأكبر في الخليج وإحدى أكبر المناطق الصناعية في العالم. لم يبق أحد في الداخل أو الخارج إلا انتقد والدي على قراره لكنه أثبت في النهاية أنه الوحيد الذي كان يعرف ما يصنعه. نظر والدي إلى المستقبل ورأى في هذا المشروع فرصة نادرة فاغتنمها.
ما الذي أثبته أيضاً؟
أثبتَ أن القائد يجب أن يغتنم الفرصة الكبيرة عندما يراها، وإن لم تكن هذه الفرصة قائمة فعليه أن يكون مستعداً لصنعها.
من الفصل الرابع: "الإدارة"
اقترح عليّ أحد الإخوان مرّة تأجيل لقاء خاص ببرنامج دبي للأداء الحكومي المتميز بسبب الأوضاع الصعبة التي يعيشها الوطن العربي واستمرار العدوان على إخواننا الفلسطينيين، فقدّرت فيه عاطفته ومشاعره الوطنية والإنسانية لكنّي قلت له إن تلك الأوضاع تجعل اللقاء أكثر أهمية وتحتم تنظيمه في وقته المحدد. استغرب وسأل: كيف؟ فصرت أشرح له رأيي وأنا استغرب كيف لم يدرك بعد أن الإدارة هي أبرز أسباب الوضع العربي الراهن؟
لقد ورد عن رسول الله لي الله عليه وسلم أنه قال: "يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه". لا أعرف هذه الأمة مذ بدأت أعي الدنيا حولي إلا وهي في مفترق طرق أو تمر بأوضاع صعبة أو أن العدوان مستمر عليها أو أن الحرب دهمتها لذا سأقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فدواء هذه العلل رص الصفوف ونبذ الخلافات الجانبية والارتقاء فوق صغائر الأمور التي تفرقنا لا الإمعان في التشتت.
يوماً ما ستنتهي الصراعات وسيسترد العرب حقوقهم في كل مكان وستعود القدس إلى أصحابها وسيرتفع الحصار عن كل العرب وسينعمون بالاستقلال والتحرر وسيتمكنون عندها من تكريس جهودهم لتحقيق الريادة مرة أخرى. لا أرى شيئاً من هذا يحدث الآن لذا سأقول مرة أخرى: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأضيف: أزمة الأمة العربية اليوم ليست أزمة مال أو أزمة رجال أو أزمة أخلاق أو أزمة أرض أو موارد. كل هذا موجود والحمد لله ومعه السوق الاستهلاكية الكبيرة.
إنها أزمة إدارة.
لو كانت الإدارة العربية جيدة لكانت السياسة العربية جيدة. لو كانت الإدارة جيدة لكان الاقتصاد جيداً والتعليم والإعلام والخدمات الحكومية والثقافة والفنون وكل شيء آخر. إن لم يتطور الأداء الإداري والمفاهيم الإدارية في كل أشكال العمل ومستوياته فإننا سنظل نراوح في مكاننا والمراوحة في المكان هي أقصر طريق إلى استمرار التأخر والتخلف... والهزائم أيضاً. لم أر حتى الآن جهداً حقيقياً على مستوى العالم العربي للخروج من هذه الدوّامة الإدارية لذا قولوا معي رجاءً: لا حول ولا قوة إلا بالله.
الإدارة الجيدة تتطلب مديراً جيداً. في الوطن العربي من السياسيين ما يسدّ الحاجة ويفيض لكننا نفتقد الإداريين المبدعين القادرين على إخراجنا من المآزق المستمرة التي نعاني منها. حاجة الوطن العربي إلى الخطابة والتصريحات المطوّلة والكلام المنمق تكاد تكون لا شيء مقارنة بالحاجة الفورية الملحة للبنائين القادرين على إقامة المصانع والموانىء والمطارات والمؤسسات التنموية والاقتصادية. هذا يتطلب توافر الطاقات الإدارية القادرة على حشد الموارد لتحقيق أهداف محددة في فترة زمنية محددة.
الإدارة ليست كلاماً مرسلاً بل علم قائم بذاته. ربما تطلبت معالجات مختلفة لشؤون مختلفة لكنها في الواقع عملية واحدة في السياسة والاقتصاد والخدمات والرياضة وكل نشاط آخر، وغرضها النهائي انتقاء السياسات والقرارات المناسبة من بين البدائل المتاحة وتحويلها إلى أهداف مرحلية يمكن تقييم نتائجها بدقة قياساً على الأهداف المحددة سلفاً. كل الجهد الإداري يجب أن يكون مكرّساً لتحقيق تلك الأهداف وخدمة المستهدفين بها، وما لم يحدث ذلك فإن الإدارة لن تدير نفسها وستتحول إلى روتين وهدر وتضييع الفرص والوقت والطاقات والموارد وسنردد كلنا معاً: لا حول ولا قوة إلا بالله.
جزء من معضلتنا في العالم العربي أن هدف الكثير من القرارات ليس خدمة مصالح الشارع العربي وتحسين أحواله الاقتصادية والمعيشية بل إرضاؤه والعزف على الكلام الذي يحب سماعه. هذا ليس الدواء التنموي الذي يحتاجه المجتمع بل المخدر الذي يستمر مفعوله فترة مؤقتة قبل أن يعود الشعور بالألم إلى صاحبه. قيادتنا في الإمارات علّمتنا أن نعمل لما فيه مصلحة الوطن والشارع. لو أردنا مثالاً لقلنا إن العلاقة بين القيادة والشعب تشبه إلى حد ما العلاقة بين الأب والابن. الأبناء كما يعرف معظم الآباء وأنا منهم، لا يحبّون أحياناً الأوامر أو التوجيه. بعضهم يكره الدراسة، وبعضهم لا يريد الذهاب إلى المدرسة، وآخرون يريدون التصرّف على هواهم. قبول هذا السلوك لا يجعل الأب أباً جيداً بل العكس. يجب أن يكون الأب جاداً في تعامله مع ابنه إذا كان يريد فعلاً مصلحته. يجب أن يحضه على الدراسة في الوقت المناسب وأن يعلّمه احترام الذات والأسرة والآخرين ويوجهه إلى السلوك الأفضل في البيت والمدرسة والشارع. إذا أراد الأب مساعدة ابنه على الانتقال من مرحلة في حياته إلى أخرى وتحقيق النجاح يجب أن يكون مستعداً لممارسة الدرجة المناسبة من الحزم لمساعدة ابنه. إذا لحق بطعم هذا الدواء شيء من المرارة المؤقتة في أفواه البعض فهذا ليس ثمناً باهظاً لضمان جسم سليم. من منّا لا يريد لابنه أو لمجتمعه الصحة والعافية؟
الانتقال من الدراسة إلى العمل ومن البيت إلى المكتب لا يكشف اختلافاً كبيراً أحياناً. بعض الموظفين يعيش حياة رتيبة فيفضل العمل الرتيب، والبعض مقل بطبعه فيرتاح إلى وتيرة العمل البطيئة، وآخر لا يريد أن يتعب عقله بالتفكير فيختار من المهام أخفّها ويلقي على زملائه كبير الأعباء.
لماذا يتصرف مثل هؤلاء بهذه الطريقة في المكاتب والدوائر ومواقع العمل؟ لأنهم تصرفوا بطريقة مشابهة في البيت والشارع والمدرسة. يمكن أن تدرّب الموظفين والعاملين، ويمكن أن تكسبهم الخبرات المهنية، ويمكن أن توسع أفقهم الوظيفي لكن مكان العمل ليس بيتاً أو شارعاً أو مدرسة. إنه مكان مناسب للإنتاج وليس لتعليم السلوك الحسن. مهمة رب العمل أن يدير عمله لكنه لا يستطيع أن يقوم أيضاً بمهمة كان من المفروض على أسرة الموظف القيام بها. التصحيح هنا ليس مجرد شيء من المرارة المؤقتة في الفم: إنه العقوبات والحرمان من التقدم الوظيفي وأحياناً الفصل.
ماذا تفعل بهؤلاء؟ كيف تقنعهم بأن العمل من الإيمان، وبأنهم يتلقون راتباً لقاء عمل معين وليس لقاء التنادم وقراءة المجلات الخفيفة خلال الدوام؟ معظم الناس قادر على العطاء، وجميعهم يستطيع أن يقدم أكثر مما يقدمه بكثير لذا يجب أن نعود إلى مثال الأب وابنه ونلجأ إلى الأساليب التي تنتزع مثل هؤلاء من ضجرهم وسأمهم ومللهم وترهلهم النفساني والمهني ودفعهم في طريق الإنتاج والنجاح.
الروتين عدو الريادة ونحن في بداية سباق طويل في اتجاه الريادة ويتطلب تحقيق هذا الهدف الابتعاد عن الممارسات الروتينية والتفكير دائماً بطريقة إبداعية. من شاء المشاركة في هذا السباق فليلتزم، ومن شاء غير ذلك فله منّا الشكر والحقوق. النشاط يشد النشاط والكسل يشد الكسل، والعمل متعة وهو طريق النجاح. يجب ألا نخاف من الضغوط لأنها آتية. يجب ألا نخاف من التحديات لأنها آتية. يجب ألا نخاف من العمل الشاق. الضغوط والعمل الشاق والتحديات الكبيرة هي التي تصنع الرجال، والألماسة تظل حجراً ما لم تُصقل وبعدها فقط تصبح كريمة.
ما الذي يصقل الإداري؟ العمل والتجربة والالتزام. لم نصل بعد إلى وجهتنا لذا لا نستطيع أن نستريح في ظل نجاحاتنا. حتى عندما نصل إلى وجهتنا سنكتشف أنها ليست أكثر من هدف مرحلي يتطلب الاستمرار في العدو. إذا استرحنا وقمنا لنستأنف العدو سنجد أن الآخرين سبقونا. إذا غفت العزيمة لأي سبب كان فإن إيقاظها ثانية أمر صعب ومن يعتقد غير ذلك فعليه أن ينظر حوله في وطننا العربي. يمكن أن نقدم عشرات الأعذار لتبرير تخلفنا الإداري، ويمكن أن نلوم الظروف أو الآخرين، ويمكن أن نشتكي من عدم توافر الشروط الموضوعية وخلافها لتحقيق السبق لكننا لن نلوم في النهاية إلا أنفسنا. عندما نفشل في إدارة النمو وإدارة الاقتصاد وإدارة الاستثمار وإدارة الموارد البشرية فمن الطبيعي أن نفشل في إدارة كل شيء آخر. كوريا الجنوبية في بداية الستينات كانت أفقر من مصر، وهي تعيش ضغوطاً عسكرية واقتصادية قريبة من الضغوط التي نعرفها لكن هذا لم يقف عائقاً أمام تحولها إلى دولة صناعية كبيرة. تايوان مثلها تقريباً ودول أخرى كذلك حققت إنجازات مهمة في ظروف سياسية واقتصادية صعبة لذا لم يعد ممكناً استخدام قضايانا الكبيرة لطمس فشلنا الإداري الكبير.
تجربتنا في الإمارات علّمتنا أن الفرق أحياناً بين حكومة ناجحة وأخرى فاشلة هو عدد العراقيل التي تزيلها من طريق مواطنيها أو تضعها أمامهم. معظم هذا الوطن العربي عراقيل في عراقيل: عراقيل أمام الطالب، عراقيل أمام رجل الأعمال، عراقيل أمام التاجر، عراقيل أمام المستثمر، عراقيل أمام المبدع، عراقيل أمام المرأة وهكذا. معظم هذا الوطن العربي اختناقات في اختناقات: اختناقات في الدوائر، اختناقات في المطارات، اختناقات في انجاز المعاملات، وهكذا حتى يكاد المرء يحسب أن عمل الحكومات ليس فك الاختناقات لكي تطلق الأعمال والمواهب والطاقات، وليس معالجة الروتين لتقليص الوقت الذي يتطلبه الحصول على الشهادات والأوراق الرسمية وتخصيص ما تبقى للعمل والإنتاج وصنع الثروة بل إغلاق كل باب مفتوح واسدال الستارة على كل طاقة تنفذ منها شمس الفاعلية التي تقتل الروتين. إن لم تكن لدينا القدرة على بناء مضامير السباق نحو التنمية الصحيحة أفلا نستطيع على الأقل إزالة العراقيل؟ ثم لماذا هذه العلاقة غير الطبيعية بين المواطن والموظف؟ هل المواطن في خدمة الموظف أم أن الموظف في خدمة المواطن؟
نستطيع في الوطن العربي أن نعطي أكثر مما نعطيه حالياً بكثير. نستطيع أن نبدع أكثر مما نبدع حالياً بكثير. نستطيع أن نسابق وأن نفوز. نحن في دبي لسنا عباقرة زماننا. ما نفعله هو ما نعتقد أنه الطبيعي والمنطقي في الأمور. لكن ربما كان الفرق أننا حين نقول إن ثروتنا الحقيقية هي أبناء وبنات الإمارات فنحن نقول ذلك بالفعل والممارسة.
من الفصل الخامس: "القرار وفريق العمل"
بعض القرارات سهل يأتي في سياق العمل ويستطيع أي مسؤول اتخاذه، لكن القائد يجب أن يكون مستعداً في أي لحظة لأخذ أصعب القرارات لتحقيق أهداف معينة خلال فترة زمنية قصيرة أو أحياناً بلا أي تأخير. لا أستطيع حصر القرارات الصعبة التي اتخذتها حتى الآن، وبعضها لا يدخل ضمن نطاق اهتمام هذا الكتاب لكن أستطيع أن أعرض على القارىء الكريم مثالين:
خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 اضطربت الأوضاع نتيجة القصف والصواريخ والطائرات الحربية فسحبت الشركات الدولية غطاء التأمين عن الملاحتين الجوية والبحرية فاتخذنا على الفور قراراً شجاعاً بالتأمين على خطوطنا الجوية والبحرية في وقت لم يستطع البعض توفير مثل هذا الغطاء واضطر آخرون إلى وقف نشاطهم. وهكذا استمرت خطوطنا الجوية في العمل كالمعتاد وصبّت كل البضائع في موانىء دبي ونُقلت منها إلى وجهاتها النهائية في الخليج واستفدنا من هذا القرار القوي استفادة كبيرة.
المثال الثاني تضمن الإعلان خلال معرض دبي للطيران في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 عن صفقة بقيمة 55 مليار درهم لشراء 58 طائرة ركاب لدعم أسطول طيران الإمارات. البعض آنذاك تساءل عن الحكمة من إبرام هذه الصفقة بعد شهرين من أحداث سبتمبر/أيلول في نيويورك وما تبعها من انخفاض حاد في حركة السفر الجوية تسبّب في أزمة حادة لشركات الطيران في أوروبا وأمريكا وغيرهما وأدى إلى إفلاس بعضها. جوابي كان بأن الرؤية المستقبلية هي الدافع الأول، لأن الاستفادة من الصفقة في المستقبل ستكون عظيمة خصوصاً أن أسعار الطائرات التي سنحتاجها لاحقاً ستكون أعلى من السعر الذي دفعناه. أضف إلى ذلك أن الصفقة تعزز الثقة الدولية بشركة طيران الإمارات وتزيد قدرتها على استغلال ازدياد حركة السفر عندما ينتهي الركود العالمي، فمهما يَطُل الركود فلا بد أن ينتهي يوماً ولا بدّ أن يستأنف الناس الطيران مرة أخرى لذا ليس من الحكمة في شيء أن نسمح للتطورات الطارئة بأن تؤثر في تخطيطنا البعيد المدى، ولذا لم نتردد في اتخاذ هذا القرار وكل ما حدث منذ ذلك الوقت لم يثبت فقط صواب القرار بل صواب توقيته أيضاً.
بعض القرارات يأتي في إطار قرارات أشمل ورؤية أبعد بكثير. مثلاً عندما افتتحت طيران الإمارات خطاً مباشراً بين دبي وأوساكا قالت لي فوسايه أوهتا، حاكمة مدينة أوساكا، إن هذه الرحلات ستحقق طاقتها القصوى خلال وقت قصير فوافقتها وقلت إنني كنت متأكداً من هذا لأنني لم أضع في اعتباري ما سيحدث فور تسيير الخط بل ما سيحدث بعد سنة ونصف السنة من تشغيله.
هل تتضمن هذه القرارات المخاطرة؟
طبعاً. لكننا نعتبر أنفسنا أمناء على مصالح الناس وعلى خير البلد. وبما أن خير البلد هو خير الناس لا بدّ أن نفكر كأمناء في زيادة هذا الخير وتحسين معيشة الشعب وهذا يقتضي توخّي أقصى درجات الحرص. إن الأرباح الكبيرة في المخاطر الكبيرة لكن هذا لا يعني أن يضرب القائد بعرض الحائط كل المعايير المطلوبة للوصول إلى القرار الصحيح لذا نحن لا نأخذ المخاطر إلا بعد دراستها من كل الجوانب ونستبعد كل ما سوى ذلك من مخاطر مأخوذة على المجهول، لا يعرف أحد إلى أين ستجر تلك المخاطر الوطن والشعب والاقتصاد. ولكن ما كل القرارات واحدة ولا كل المخاطر واحدة فهي على درجات ويتطلب كل واحد منها إيفاءه حقه من الدراسة والاستناد في اتخاذه إلى خطة متكاملة متضمنة الموضوع والمسؤول عن التنفيذ والجدول الزمني للتنفيذ والجهة المسؤولة عن المتابعة والبدائل المختلفة. هذا لا يعني أننا لا نرتكب الهفوات لكن الهفوات لم تكن في يوم من الأيام سبباً في فشل أي مشروع.
من الفصل السادس: "ضفاف الخور"
ذات يوم دخل موظف إلى الديوان وشكرني بكلمات خجولة قليلة على ترقيته إلى منصب نائب مدير إحدى الدوائر متمنياً أن يكون عند حسن الظن، ثم استأذن بالانصراف فأمسكت يده وأجلسته وقلت له: "محمد، لا تحسب أن ترقيتك جاءت صدفة فأنا أتابع عملك منذ أربع سنوات وأعرف عنك كل شيء".
استغرب الموظف وقال: "أنا؟ أنا لا شيء. أنا موظف من عشرات الآلاف من الموظفين مثلي" قلت له: "كنتَ هكذا لكن حدث ما جعلنا نهتم بك ونتابع أداءك" ازداد استغراب الموظف فالتفتُّ حولي وناديت على شاب اسمه معضد هو أحد أفراد فريق "المتسوقين السريين" طلبت منه أن يروي للحاضرين قصة الموظف.
وكان هذا الموظف لا يمكث في مكتبه طويلاً، وكثيراً ما ينزل إلى صالة المتعاملين وربما وجد مستثمراً كبير السن فساعده على إتمام الإجراءات ثم قدم له الشاي وأوصله إلى الباب، وربما استكمل أوراق متعامل آخر، أو فعل أكثر مما هو مطلوب منه. وكان من هؤلاء معضد الذي أعد تقريراً بما عاينه في الموظف من الكفاءة والمساعدة فأوصيت بمتابعة أحواله. ولما سمعت بعد أربع سنوات أنه قدم استقالته بعد الحصول على عرض مغر من القطاع الخاص قررت أن أقدم له عرضاً أكثر إغراءً فرفّعته من منصبه في الصف الثالث إلى منصب نائب المدير في قرار لم يأت مفاجأة له فقط بل لمديره ولجميع العاملين في الدائرة.
أحب المفاجآت وأحب أن ابشّر الناس دائماً بالخير الوفير والنجاح، وأتمنّى لو أستطيع الكشف عن مشروع متميز جديد كل يوم. هذا النوع من المشاريع يحتاج إلى متميزين. أريد الاعتماد على هؤلاء. ربما بدوت في بعض الأحيان أكثر حزماً مع القياديين الإداريين مما تتطلبه حالات بعينها لكن ليس لهم في قلبي سوى الشكر والتقدير على كل ما قدموه. بعض المشاريع التي نفذناها تطلبت إخضاع مديري الدوائر إلى دورات لإعادة التأهيل، والبعض الآخر تطلّب إعادة التنظيم والتخطيط، واستلزمت مشاريع غيرها قدراً كبيراً من منح الصلاحيات وكان التجاوب مع كل هذا جيداً.
حاجاتنا تتغير باستمرار في عصر التغير المستمر، ومشاريعنا تتوسع وتتشعب وهذا يتطلب كوادر جديدة ودماً جديداً لا بدّ من توفيره لتحقيق أهدافنا. البعض يعتقد أنني أريد أكبر عدد ممكن من المتسابقين للاشتراك في سباق التميز ويعرض عليّ اللوائح. هؤلاء لم يفهموني جيداً بعد. هذا لا يضمن لي النجاح. الشيء الوحيد الذي يضمنه لي هو اشتراك أكبر عدد ممكن من السبّاقين المتميزين لأن سباق التميز يحتاج إلى المتميزين. أدوات الإبداع سلع موجودة في الأسواق نستطيع شراءها من أمريكا أو اليابان أو أوروبا لكن الإبداع ليس سلعة ولا الحماس كذلك. يجب أن نعثر على أصحابهما ونطورهم.
العادة في الإتكيت الرسمي كذلك أن يجتمع القائد إلى المدير العام للدائرة وراء باب مغلق ويتناقشا في سير العمل ثم يعود القائد إلى مكتبه. هذه ليست عادتي. المراقب المتمرّس سيكتشف أنه في كل دائرة أو شركة هناك دائماً موظف ديناميكي يريد أن يعمل كل شيء ويغير ويطور. نريد باباً مفتوحاً يقودنا إلى هؤلاء الموظفين القديرين العاملين بصمت مثل الجندي المجهول. مهما يكن المدير جيداً فإننا نريد أن نخرج من الصفوف الخلفيّة الثالثة والرابعة أصحاب المواهب والطاقات الواعدة. هؤلاء هم المخزون الطبيعي للطاقات البشرية التي نحتاجها، وهنا مخزون الإبداع والأفكار الكبيرة التي نحتاجها في الطريق إلى المستقبل بعد صقلها وإثرائها بالتدريب والخبرة.
هذه العملية ليست خبط عشواء وليست وليدة الساعة أو الصدفة أو المزاج. من كان مبدعاً قبل سنتين ربما لم يعد مبدعاً لسبب من الأسباب، ومن كان يعيش في عتمة الإنجاز ربما انتقل إلى نوره لسبب من الأسباب لذا فإن متابعة أصحاب الصفوف الخلفية مهمة دقيقة تتطلب دراسة تقييمية منهجية مستمرة تعد بموجبها لوائح بالطاقات والمهارات: أصحاب القائمة (أ) يمكن أن يتولوا إدارة دائرة في وقت قصير. القائمة (ب) تضم من يمكن أن يقوم بالمهمة بعد سنتين، وهناك قوائم أخرى تتضمن من يصلح لقيادة فريق ومن يصلح لأن يكون عضواً فاعلاً في الفريق، ومن يحتاج إلى استمرار المتابعة.
من الفصل الثالث عشر: "سباق الأمم والشعوب"
قلت قبل خمس سنوات إن طريق الريادة والنجاح لا يزال مفتوحاً أمام الجادين في المسيرة والراغبين في العطاء فهذه البداية، وما أنجزناه حتى اليوم لا يزيد على 10 في المائة من أهدافنا. ومنذ ذلك التاريخ أضفنا إلى الإنجازات السابقة الكثير وبدأنا عدداً مهماً من المشاريع الكبيرة ضمن رؤية تمتد حتى منتصف القرن الجاري لكن ما زلت اعتقد أن ما حققناه حتى الآن لا يزيد على 10 في المائة من أهدافنا، وأننا لا نزال في بداية السباق الطويل.
عندما نتحدث عن المستقبل فنحن نتحدث عن التحديات. طموحاتنا كبيرة ونتوقع أن تكون التحديات التي سنواجهها بحجم الطموحات، وستتوقف قدرتنا على تجاوز تلك التحديات على العمل والتخطيط والاستعداد والتفاؤل والثقة بأنفسنا وبقدراتنا، وعلى أملنا الكبير بأننا نستطيع أن نصل إلى أهدافنا. التحديات الكبيرة هي التي تصنع الشعوب الكبيرة، وحين أنظر إلى الماضي ثم أعود وأنظر إلى المستقبل فأنا مقتنع في قرارة نفسي بأننا سنتغلب على تلك التحديات وسنحقق النجاح لأننا فعلنا هذا في الماضي وسنفعله في المستقبل.
أهم أسباب القوة التي يتمتع بها اتحاد الإمارات قدرته على قهر التحديات التي واجهته خلال أكثر من ثلاثين عاماً، والتكيف بسرعة مع مختلف المتغيرات. هناك عدد كبير من التحديات الماثلة في الطريق إلى المستقبل لذا يجب أن نتحرك على جبهات عدّة. يجب الاستمرار في تطوير التعليم وتنمية الكوادر البشرية وتعميق المشاركة الشعبية وتطوير المؤسسات البرلمانية التمثيلية ودعم الدور القيادي للقطاع الخاص وتفعيل القطاع العام وتعزيز الشفافية في كل القطاعات وتوسيع دائرة الحوافز الاستثمارية لتتعدى المناطق الحرة ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة وتطوير برامج تمويل المشاريع الناشئة ومحاربة الفساد وتبسيط الإجراءات ومتابعة الإصرار على تقديم الجودة والامتياز في كل شيء.
إن التخطيط الاستراتيجي للموارد البشرية وتطوير مناخ الاستثمار وتحسين البنية التحتية والاهتمام بإصلاح التشريعات والأنظمة وتمتين الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتعرف إلى آراء الناس وإبراز دبي كمركز دولي للتميز والإبداع متطلبات أساسية لا تعرف النهاية ولا تتوقف عند حد، ويجب أن نستمر في دراسة أفضل الطرق لتحسينها وابتكار الحلول الجديدة لزيادة فعاليتها وجدواها وفوائدها.
يوجد في مجتمعنا الكثير من المظاهر السلبية الصغيرة التي لا ننتبه إليها دائماً لكنها تؤثر في مجموعها في الأداء سواء على مستوى الفرد أو الشركة أو المجتمع وينبغي التخلص منها بالسرعة الممكنة من خلال تشجيع السلوكيات الإيجابية وترسيخ الأمانة وتطوير الأداء لأن كل هذا سيؤدي إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل ويحقق الاستغلال الأمثل للموارد ويُسهم في توفير البيئة التي تساعد على تعميق الامتياز والإبداع.
التغلب على تحديات قرن جديد في ألفية جديدة يتطلب تفكيراً جديداً وأساليب مبتكرة يمكن الاستفادة منها في تطوير المجتمع وتعجيل حركة التنمية، وهذا يقتضي التغيير. التغيير يعني القبول بالجديد المفيد والاقتناع النهائي بأن القديم غير المفيد لم يعد مناسباً وآن أوان طرحه من العقول والممارسة. إنه يعني تغيير أنماط التفكير والقدرة على فهم اللغة التي يتحدث بها العالم، والقدرة على نقل رسالتنا وأهدافنا ومواقفنا بالوضوح والبساطة والصراحة التي تمكّن العالم من فهمنا وبالتالي تعميق التعاون بين الشعوب وإزالة مكامن سوء الفهم وإتاحة المجال لتوجيه كل الجهود إلى صنع التنمية. إن أهدافنا إستراتيجية، وتخطيطنا استراتيجي، وتطلعاتنا إستراتيجية لذا فإن التغيير، الذي نتحدث عنه يجب أن يكون بالضرورة تغييراً استراتيجياً يستجيب لكل ما تقدم ويتوافق معه.
اكتسبنا خلال الثلاثين سنة الماضية خبرة واسعة في ابتكار الحلول للتغلب على المشاكل التي واجهتنا خلال عملية الانتقال بدبي إلى العصر الحديث وعلينا أن نكون مستعدين لمقارعة أدقّ هذه التحديات وأصعبها وأكثرها تعقيداً. هذا الاستعداد يتطلب منّا جميعاً النهوض بمسؤولياتنا وتوخي الواقعية في التحليل والقرار وفرز الحقائق عن الأوهام وتحديد الأهداف والاتجاه والأولويات بدقة تمهيداً لحشد الموارد اللازمة لتنفيذها. إذا تطلب الانتقال إلى هذه المرحلة العبور على جسر جديد آخر فيجب أن نكون مستعدين لقطعه في الوقت المناسب وبأسرع وقت. إذا تطلبت المراحل المقبلة أكثر من هذا فيجب أن نكون مستعدين لقطع عدّة جسور في آن واحد. يجب أن نكون مستعدين لتذليل المستحيلات ومصالحة الأضداد في أي وقت وفي أية مرحلة. إذا كان البعض يعتقد أن هذا ضرب من المعجزات فأود أن أذكّره بأن التحديات هي التي تصنع المعجزات.