أثار فضولي هذا التميُّز الذي وصل إليه بعد أن كان دون قدرات مميَّزة للنجاح السَّريع، أو صاحب شخصيَّة عبقريَّة تساعده على ذلك، وعندها لم أستطِع أن أُخفي فضولي - بعد سبع سنوات من الافتِراق بسبب مشاغل الحياة - فسألته مباشرة: ما هو السّرّ في هذا النَّجاح؟قال لي: رأيتُ أنَّ سوق العمل الحاليّ يَحتاج إلى خبرات فنّيَّة أو أخرى إداريَّة، في الوقت الَّذي كانت قدراتي أو خبراتي غير كافية لأن أحقِّق ما يمكِّنني من الوقوف على أوَّل الطَّريق، فقرَّرت أن أستغلَّ أبْرز عيب عندي وهو (الثَّرثرة) التي جعلت الكثيرَ من أصدقائنا يتبرَّم منّي لأجلها.هززتُ رأسي مبتسمًا، فتابع: لم أستطع التخلُّص الكامل من هذا العيب، على الرَّغم من كلّ المحاولات للسيطرة عليه، وشعرت بأنَّ أمامي فترات زمنيَّة طويلة أعتاد فيها على الصَّمت أو على التَّوجيه، بحيث أتخلَّص من هذا العيب.ووجدتُ الفرصة مواتيةً لأستفيد من عيْبي في عملٍ ما، فعملت مندوبًا للمبيعات؛ حيثُ أسعفتْني ثرثرتي في ابتِكار أنواع من الحوار غير التَّقليدي الَّذي يقوم به المندوبون، كنت أتحدَّث مع العملاء في موضوعاتٍ مختلفة قد لا تمتُّ من قريب أو بعيد للمنتج الَّذي أبيعه بصِلة، والعاملون في السّوق بطبعهم اجتماعيّون؛ فغالبًا كان العامِلون في المراكز أو المؤسَّسات التي أرتادُها ليْسوا هم أصحاب تلك الأماكن، ويكفي أن أُطمئِنه إلى أنَّ العمل شيء والجانب الإنساني شيء آخر؛ حتَّى نبدأ في فتح باب اجتِماعي للتَّواصُل، فأجلس معه للرَّاحة مدَّة دقائق أو أطلب كوب مياه أو أطلب أن أستخدم دورة المياه خاصَّتهم - بالطَّبع لم تكن كل هذه حيلاً بل كانت مجْريات الموقف تسير على هذا النَّحو - وكلّ موقف كان يُتيح لي فرصة أخرى للتعرُّف على سوق العمل وخبرات أخرى فنّيَّة، لاسيَّما وأني كنت مندوبًا للمبيعات في نطاق تخصّصي؛ حيث عملت مندوبًا لإحدى شركات المستحْضرات الطّبّيَّة، وكان فنّيًّا يتقاطع مع تخصّصي الدّراسي (علوم قسم كيمياء).جمعت خبرات فنّيَّة مختلفة، ولا أقول إنَّها كثيرة أو خطيرة إلى هذا الحدّ، بل كثيرة بالقدر الكافي لتكوِّن تصوُّرًا مبدئيًّا عن هذا المجال.بعد فترة شعرت أنَّني لم أعد أضيف جديدًا، وهناك زملائي في العمل يحقِّقون أرقامًا في البيع تفوقُني، فقط لاعتِمادهم على الإلْحاح المقيت الَّذي يجعل الكثير من العملاء يُريح دماغَه بشراء السلعة، أو الاتّفاق على موعد للشراء.وشعرت أنَّها طريقة غير شريفة لتحْقيق النَّجاح؛ "فما أُخِذ بسيف الحياء فهو باطل"، فما بالك إن كان بسيْف الغصب عن طريق الضَّغط أو غيره.وبعد تفكير طويل في العيوب الَّتي تُعيق مندوب المبيعات عامَّة، وجدت أنَّها تتلخَّص في نقاط، منها: عدم اطمئنان النَّاس لمندوبي المبيعات؛ كونهم ليْسوا هيئات ثابتة يمكن الرّجوع إليها حال التَّضرّر، وأنَّ منتجاتهم لا تحمل شهادات ضمان، أو لجوء الكثير من المندوبين إلى الكذِب لترويج البضاعة.قرَّرت أن أنتهج نهجًا جديدًا غير أولئك، فكنتُ أعرض المنتج على العميل وعند رفْضِه أستأذِنُه في أن يقدّم لي بعض السَّلبيَّات التي يجدها في المنتج، أو التي تجعله يُحجم عن الشّراء من مندوبي المبيعات عامَّة.بعضهم كان يمتنع، لكن الكثير منهم كان يُجيبُني، خاصَّة إذا بادرته بتقْديم بعض السلبيَّات دون تقرير أنَّ هذه السلبيَّات غير موجودة بالمنتج.بعد فترة من فرْز السَّلبيَّات وتجميعها، عرضتها على مديري، وقلت له: هذه أسباب تَجعل هناك حاجزًا بيْننا وبين العملاء، واقترحتُ بعض الأمور، وأفادني هو بِخبرات أخرى حول هذا الشأْن.تحسَّن بعدها الوضع مع العملاء؛ حيث كان التَّسويق مصحوبًا بكروت وبوسترات تحمل صورة للمنتج وشرحًا مختصرًا له ولوظائفه، كما يحمل البوستر عنوان الشَّركة ومقرّها وطرق الاتّصال بها، بالإضافة للكارت الشَّخصي خاصَّتي الَّذي يحمل بريدي الإلكتروني وهاتفي النقَّال.بعدها استطعتُ أن أضع قائمةً من العملاء المستديمين، استفدتُ بعد التَّعامُل معهم من خبرات فنّيَّة في تطوير المنتج وكيفيَّة تسويقه؛ اعتمادًا على احتِياج السوق له ولغيره من الموارِد وعن الجودة المفضَّلة وغير ذلك.وكان هذا يَزيد من حجْم خبراتي الَّتي أقدّم بها نفسي من آنٍ لآخَر لبعض الشَّركات، الَّتي وجدتها تناسب أحلامي.وبالفِعْل تمكَّنت من العمل كمشْرف على خطوط الإنتاج في إحدى الشَّركات الخاصَّة بالمستحضرات الطّبّيَّة، ثمَّ واتتْني الفرصة فسافرت لـ "أبو ظبي" وعمِلت هناك، وتدرَّجت في سلَّمي الوظيفي حتَّى غدوْتُ الآن رئيسًا لقسم الإنتاج في الشَّركة.ولا يزال الحلم يَحدوني للمضيِّ قُدمًا، ثمَّ ابتسم وقال: لكنّي لا أزال غيرَ قادر على التخلُّص من ثرثرتي الَّتي مكَّنتْك من تسويد هذه الصَّفحات.فضحِك كلٌّ منَّا من قلبه متذكِّرًا أحداث الماضي السَّعيدة.ساعتَها وجدت المقولة تتراقص أمامي:"إذا لم تستطع التخلُّص من عيوبك، فلا أقلَّ من أن تحسن استِخْدامها".