كثيرٌ منا يعتقدُ أن القائد والمدير هو المسؤول الوحيد عن سير المؤسسة أو عن سير العمل، وأنه هو وحده مَن له ميزةُ اتخاذ القرار، وأنه لا يحتاج إلى مساعدين أو مستشارين، ولكن الواقع غير ذلك، فالقيادة والإدارة هي عملية اتخاذ القرارات فقط، ولا يشترط التفرد باتخاذ هذه القرارات، فمعظم القرارات الصحيحة لا يتم اتخاذها إلا من خلال معاونة آخرين حتى تتاح أمام متَّخِذ القرارِ الأساسي فرصةُ الاطلاع على آراء المعاونين والمستشارين. فما هو المفهوم الصحيح للقيادة؟
وما هي الكيفية التي يمكن من خلالها صنع الشخصيات القيادية؟ للإجابة على هذه التساؤلات كان لنا الحوار التالي مع مستشارة التنمية البشرية المدرِّبة "سعاد محمد السيد". وإلى نص الحوار: ما هو المفهوم الصحيح للقيادة؟ وكيف يمكن تصحيح المفاهيم المغلوطة عن القائد؟ • أكثر الناس للأسف ينظرون إلى الشخص القيادي بأنه مسؤول عن كلِّ شيء، وينظرون إليه على أن له مطلقَ الحرية في اتخاذِ كل القرارات ويفعل ما يريد، ويغيب عنهم فكرة أن القائد أصلاً من المفترض أن يتقن شيئًا اسمه فن التفويض، فاليوم إذا نظرنا إلى العالم الأوروبي لرأينا أن فكرة القيادة أساسًا مبدأ تفويض؛ أي إن معظم رؤساء الدول اليوم لا يتخذون القرارات إلا بعد الرجوع إلى مجلس الشيوخ، وإلى مجلس الوزراء، ومجلس الشورى، فنحن نحتاج إلى إعادة مفهوم فكرة القائد، وفكرةُ القائد ومفهوم صناعة القائد شيءٌ قديم جدًّا، وفي القرآن الكريم قال رب العالمين في سورة طه عن سيدنا موسى بالتحديد، بما أن سيدنا موسى كان في مصر وأيضًا سيدنا عيسى، فمصر بلد قادةٍ وأنبياء وعظماء، فقال الله تعالى: ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 41]، وقال تعالى أيضًا: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، ففكرة وجودِ هذا القائد هو بالفعل يُصنَع صناعة ويبنى بناءً، فمن هنا نحن انطلقنا بفكرة صناعة القائد. ما هو العمر المناسب لغرس الأفكار القيادية لدى الأشخاص؟ • أكثر عمر مناسب لزرع الفكر القيادي والقدرة على اتخاذ القرار، يقول خبراء التربية والتنمية: إنه عمر الطفولة، فالطفل هو أكثر شخصٍ مناسب يمكننا غرسُ مبادئ القيادة واتخاذ القرار بداخله منذ الصغر، وهناك شيء آخر هو سبب فشلِ كثيرٍ من المؤسسات، وحتى الهيئات الدولية بشكل عام، هو فكرة أن القائد هو المتحكِّم الوحيد في كل شيء، فإذا مات القائد مثلاً انهار نظام المؤسسة كله، سواء كانت هذه المؤسسة جهة اجتماعية أو ثقافية أو دولة مثلاً، وللأسف إذا أصبحت كل المؤسسات تسير بهذا النظام، فنحن نحتاج إلى عشرات السنين بعد رحيل كل قائدٍ لإعادة بناءِ المنظَّمة مرة أخرى، وهذا رأيناه في كثير من الشركات المشهورة على مستوى العالم كله، بعدما تُوفِّي قائد هذه المؤسسة أو مالكها انهارت هذه المؤسسة. كيف يمكن التغلب على فكرة المؤسسات التي تعمل فقط أثناء وجود القائد، وتنهار برحيله عنها؟ • الشيء الذي تمارسه الدول الأوروبية الآن ودول الشرق الآسيوية - مثل اليابان والصين - والذي كان السبب في نهضتِها، هو العمل الجماعي ووجود قائد، وفكرة التخطيط الإستراتيجي، فمن المفترض أنه بكل مؤسسة وكل منظمة هناك شيءٌ اسمه خطة إستراتيجية، والخطة الإستراتيجية مقصودٌ بها تخطيط لمرحلة بعيدة المدى، فهناك تخطيط يومي، وتخطيط قصير المدى، وتخطيط طويل المدى، فالمؤسسة عندما يكون بها خطة إستراتيجية بعيدة المدى، هذا يعني أنه عندما يستقيل القائد أو يُتوفَّى - مثلاً - لا ينهار نظام المؤسسة، فما زالت القواعد والقوانين التي وضعها تسير وتُكمِل مع المؤسسة، مع القيادة الثانية التي كان يعمل القائد الأساسي على تدريبها. ما هي الخطوات التي يتم من خلالها صناعة القادة؟ • فكرة صناعة القائد فكرة هامة جدًّا، ونحتاجها خاصة في ظروفنا التي نعيشها حاليًّا، ولكن في البداية علينا أن نُحدِّد أولاً أماكن صناعة القائد، يُصنع القائد في ثلاثة أماكن أساسية: تبدأ في المنزل وفي الأسرة؛ فالأسرة هي أول مَن يبدأ تكوين الشخصية القيادية التي نبحث عنها، ثم بعد ذلك يأتي دَور المدرسة، ثم المجتمع والبيئة، فالبيئة أيضًا لها عَلاقة بصناعة القائد وتركيبة الشخصية القيادية. كيف تسهم الأسرة في صناعة الشخصية القيادية؟ • الأسرة تُسهِم بشكل كبير في صناعة الشخصية القيادية، ففي البداية هناك أطفالٌ لهم شخصية قيادية بالفطرةِ، وهذا يقودُنا إلى سؤال مهم جدًّا: هل هناك سمات بارزة للأطفال، نعرف من خلالها أنهم قادة؟ بالطبع نعم، فمعرفة الشخصية القيادية أولاً يتم تحديدها من خلال سرعة البديهة، وحب المبادرة، ومساعدة الآخرين، والقدرة على اتخاذ القرار، والقدرة على إدارة الضغوط والأزمات والتصرف، واتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة، فكلها مهارات قيادية تدل على أن هذا الشخص مؤهَّل لكي يصير قائدًا بالفطرة، والبقية التي ليس لها هذه الناحية الفطرية، فالعلماء قسَّموا البشر إلى ثلاثة أنواع: • النوع الأول هو 1 % من البشر، وهم قادة بالفطرة. • والقسم الثاني هم 98 %، يكتسبون القيادة بعد ذلك، من خلال التدريب المحدد والبرامج المعينة التي يخضعون لها، وهم لديهم استعداد للقيادة. • القسم الثالث 1 %، وهم مهما دربتهم ومهما علمتهم، لم ولن يكتسبوا مهارة القيادة أبدًا. إذا كان الطفل ليس لديه الصفات القيادية بالفطرة، كيف يمكن إكسابُه هذه المهارة؟ • إذا كان الطفل لا يمتلك أيَّ مواهب قيادية فطرية، يمكننا تنميته وإكسابه تلك المهارة من خلال تعليم الطفل تحمل المسؤولية، فاليوم في المنزل مهامُّ بسيطة تناسب عمر الطفل أو الطفلة، وتربي عنده شعور حب الإنجاز، وخاصة إذا أنجز المهمة وأعطيناه تعبيرات إيجابية أو تحفيزية، فإن هذا يولّد لديه ثقة بالنفس، فتحمُّل المسؤولية هي بداية تكوين الشخصية القيادية عند الطفل. ما هو العمر المناسب لتحميل الأطفال المسؤولية؟ • ليس هناك عمر مناسب يجبُ تحميل الأطفال المسؤولية عند وصولهم إليه، ولكن متى أعطتِ الأم توجيهًا لطفلها وفهم الطفل هذا التوجيه، فإنه منذ تلك اللحظة يصبح بإمكانه تحمُّل المسؤولية، ويمكننا غرس بدايات تحمل المسؤولية بداخله، ثم بعد أن يصبح في عمر الـ5 سنوات مثلاً نقوم بتكليفه بشراء متطلَّبات المنزل البسيطة من المحالِّ المجاورة للمنزل، ويكون تحت مراقبة الأم، وفي هذه الحالة، فإن الطفل ينشأ لديه حب مساعدة الآخرين وتحمل المسؤوليات. أما بالنسبة للفتيات الصغيرات خاصة، فيمكن للأم أن تدرِّبَهن منذ الصغر على تحمل المسؤولية، من خلال تكليفهن بترتيب الغرف الخاصة بهن، والطلب منهن مساعدة الأم في المطبخ، وفي الأمور السهلة بالمنزل، فكل هذه الأشياء تساعد على تكوين الشخصية القيادية لدى الطفل من مبدأ تحمل المسؤولية، إلى جانب هذا، فيمكننا إخضاع الطفل إلى برامج معينة من شأنها أن تسهم في تطوير أدائه الذهني والعقلي، بالإضافة إلى البرامج التي تطوّر بناءه الجسمي وأداءه الرياضي، وبرامج أخرى تساهم في تطور أدائه الاجتماعي وتواصله مع الآخرين. كيف يمكن تلاشي تحوُّل الطفل إلى ديكتاتور أثناء تدريبه على القيادة؟ • يتم ذلك من خلال تدريب الطفل عبرَ مجموعةٍ من القصص للأشخاص الناجحين، نقوم بتوصيل قيمة معيَّنة إلى الطفل، هذه القيمة تساعده على كيفية التواصل مع أعضاء فريقه، وكيف يقبَلُ توزيع المهامِّ وبالتفويض، فكل هذا نقوم بتدريب الأبناء عليه من خلال قصة، ومن خلال ألعاب مرتبطة بتأصيل هذه القيمة التي نريدها، وبشكل عام القصص لها دورٌ كبير في تحديد شخصية الطفل وفي تربيته، من خلال اختيار القصص الصحيحة المناسبة لعمر الطفل، فليس بالضرورة أن تكون القصة مشوِّقة فقط، ولكن لا بد وأن يكون هناك مناقشات مع الطفل بعد القصة. مَن الأكثر احتياجًا إلى التدريب على صناعة القائد، الأطفال أم الشباب؟ • التدريب على القيادة يحتاجه كل من الأطفال والشباب، وتحدَّثنا من قبلُ عن الأطفال، ولكن الشباب الآن يحتاجون إلى مَن يأخذ بأيديهم، وإلى مَن يساعدهم، وإلى مَن يدرّبهم على المهارات القيادية حتى يستطيعوا أن يأخذوا دورَهم الصحيح في المجتمع، وأن يمارسوا القيادة، فهناك كثير من الشباب لديهم الصفات القيادية، ولكنهم يحتاجون إلى مَن يكتشف تلك الصفات والقدرات وتوظيفها بشكل صحيح. ماذا عن مشروع مكتبة القائد الذي تطبقينه أثناء دوراتك التدريبية؟ • القائد يحتاج إلى نوعية معيَّنة من الكتب لكي يقرؤها ويكتسب منها المهارات القيادية، فالمكتبة بها عددٌ كبير من الكتب المنوَّعة ما بين كتب اجتماعية، وكتب تعليم مهارات التواصل، وكتب سياسية، وكتب تاريخية، فنحن نُركِّز على إكساب الشاب القدوة القيادية التاريخية. ما هي النماذج القيادية الموجودة في تاريخنا العربي، والتي يمكن أن يقتدي بها الشباب؟ • أنا أتحدث الآن عن القيادة في مصر، والتاريخ المصري وحدَه تاريخ مشرِّف من القادة العظماء الذين أثّروا في التاريخ المصري والعربي؛ مثل الزعماء: مصطفى كامل، ومحمد نجيب، وغيرهم، كل هذه القامات أفتخر كثيرًا بانتمائهم للعرب، هذا بالنسبة للماضي، والآن في الحاضر هناك شخصيات قيادية معاصرة ومشرّفة أحبُّ أن يأخذ الشباب القدوة من هؤلاء؛ مثل مستشارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الدكتورة داليا مجاهد، وهي مصرية من مواليد السيدة زينب، والدكتور أحمد زويل أمير الكيمياء، وهو أيضًا كان مستشارًا للرئيس أوباما، وحتى في المجال الطبي، فهناك وردة سميت بعاصمة الورود باريس، وسميت بأوركيدا مجدي يعقوب، وحتى في المجال النووي الذي حل مشكلة التسرب النووي، كان البروفيسور الصفتي الذي كان مرشحًا لجائزة نوبل، فهناك حولنا كثير من الأشخاص من الممكن أن نتَّخِذهم قدوةً لنا، وهنا يأتي دور مدرِّب التنمية البشرية؛ ليساعد الشباب في التعرُّف على هذه النماذج المشرفة. ما هي أكثر الشخصيات القيادية على مستوى العالم التي يمكن أن يتخذ الشباب منهم القدوة؟ • أنا أعتبر أن من أنجح الأشخاص على مستوى العالم رئيس البرازيل "لولا دي سيلفا"، فهذا الرئيس قصته مؤثرة جدًّا، فكيف تحوَّل من ماسح أحذية وبائع خضروات، وليس لديه من المؤهلات إلا ما يعادل دبلوم الصنايع، فتحول إلى رئيس دولةٍ اقتصادُها سادس اقتصاد على مستوى العالم، فقصته مؤثرة جدًّا. ما هي أهم النصائح التي تقدمينها للشباب لتساعدهم على بناء مجتمعاتهم؟ • أنا دائمًا ما أنصح الشباب بالابتعاد عن الأمور السياسية، وعدم تركيز كل جهودنا وتركيزنا على السياسة، فالحياة ليست كلها سياسة، ويجب علينا أن نبتعد كثيرًا عن الحياة السياسية، وعن الهموم السياسية، وننتبه إلى بلدنا وإلى علمنا، وأضرب لهم دائمًا مثالاً لشخصية مصرية رائعة، وهو الدكتور "علي مصطفى مشرفة"، العالم الجليل الذي صنف من أكبر القامات العلمية بمجال الذرة، فعندما كان يدرس بإنجلترا قامت الثورة في مصر، فهو كشاب مصري لديه العنفوان والوطنية والثورية أراد أن يعود إلى مصر ليشارك في الثورة، فقام بمراسلة محمود باشا النقراشي، فقال له إنه يريد أن يترك الدراسة ويعود إلى مصر، فجاءه الرد من النقراشي باشا "يا علي، ابق حيث أنت، فمصر تحتاجك عالمًا أكثر ما تحتاجك ثائرًا".