جرس الهاتف يقطع صمت منزل الدكتور سعيد، وخطواته تتسارع ليرفع السماعة، ليجد صديق عمره وزميل دراسته المهندس علاء يتحدث إليه، ويدور بينهما حوار ودود ممتلئ بالمشاعر الفياضة، فلم يلتق الصديقان منذ زمن بعيد.
تبادلا أطراف الحديث، حتى عرض المهندس علاء على الدكتور سعيد أن يزوره في بيته؛ فهناك الكثير من الأحاديث يتوق لأن يخبره بها عن تلك السنوات الطوال التي لم يره فيها قط، مؤكدًا أنه قد أعد له مفاجأة سارة.
استعد الدكتور سعيد في الموعد المحدد، وذهب إلى بيت صديقه الدكتور علاء، وما إن تقابلا وتعانقا حتى أخذ المهندس علاء بيد الدكتور سعيد، وأدخله حجرة الجلوس ليجد المفاجأة السارة.
إنه صديق من أصدقاء المدرسة: الأستاذ عمر، تبادل الجميع السلام والعناق ثم بدءوا في تجاذب أطراف الحديث، وراحت دفة النقاش تتنقل بين الحاضرين جميعًا، حتى طرح الدكتور سعيد عليهم سؤالاً هامًّا: ما معنى أن يكون المرء ناجحًا وفعالاً في مجتمعه؟ وبدأ كل واحد من الحاضرين يدلي بدلوه في تلك القضية.
بدأ الأستاذ عمر بالحديث قائلاً: (الفاعلية، وما شأننا بالفاعلية؟ لا بأس أن يكون المرء فعالاً ولكن الأهم أن يجني الإنسان من عمله المال، وأن يعيش حياة مترفة منعمة، أما أن تكون فعالاً فليس هذا هو المهم).
وهنا اعترض الدكتور سعيد قائلاً: (لا أتفق معك يا صديقي العزيز، فأن تكون فعالاً فذاك أمر هام وجدير لأن تسعى في تحصيله، ففيه قمة سعادة المرء في حياته، كما أنه يصنع للإنسان قيمة في دنياه، فضلاً عن التأثير الذي يحدثه في حياة الآخرين، والذي يستمر حتى بعد موته).
وجاء الرد من عمر سريعًا: (أنت لم تتغير يا سعيد، تسعى دائمًا إلى أمور مثالية وتدعو الآخرين لفعلها، فهل لي أن أسألك سؤالاً يا عزيزي؟)
فقال سعيد: (تفضل واسأل سؤالك، فأنت أيضًا لم تكف عن الاعتراض على الآخرين والتثبيط من هممهم)
سأله عمر قائلاً: (إن كانت الفاعلية أمرًا هامًّا، فهل لك أن تذكر لي كيف الطريق إلى تلك الفاعلية العظيمة؟).
صمت عمر قليلاً وهو لا يدري بماذا يجيب، وهنا تدخل المهندس علاء قائلاً: (أختلف معك تمامًا يا عمر ، فليس المال فقط هو ما ينبغي أن يشغل بالنا، وليس ذلك مقياسًا للفاعلية، أو حتى للنجاح، فهو صورة جزئية من النجاح والتميز في الحياة.
أما الفاعلية فهي شيء مختلف، فهي تعني تحصيل الشخص لمهارات مختلفة، ومن ثم ينجح في عمله أو دراسته، فيصير من الأوائل فيها).
الأصناف الثلاثة
هذا الحوار الذي دار بين الأصدقاء الثلاثة يعبر عن ثلاثة أصناف من الناس يدركون الفاعلية إدراكًا قاصرًا وهم:
الصنف الأول: يدرك أهمية الفاعلية، ولكن إدراك ذهني عقلي نظري، لا يحاول ترجمته إلى واقع عملي، ويرضى بما هو عليه.
الصنف الثاني: يدرك أهمية الفاعلية، إدراكًا راسخًا، ويحاول ترجمة ذلك الإدراك، ولكنه لا يدري ما هو الطريق؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
الصنف الثالث: يدرك أهمية الفاعلية، إدراكًا راسخًا، ويحاول ترجمة ذلك الإدراك، ولكنه ينجح بشكل جزئي، دون إدراك المعنى الشامل للفاعلية.
الصنف الرابع:
وثمة صنف رابع من الناس يعي أهمية الفاعلية ويؤمن بها إيمانًا راسخًا، ويدرك معناها الصحيح والشامل، ولديه خارطة طريق واضحة للوصول إليها.
وهذا الصنف هو ما سنحاول جميعًا أن نكون من أفراده من خلال هذا الفصل، حيث سنتعرف على المعنى الصحيح والشامل للفاعلية، ونعرض أهم القيود التي تقف بإزائها، ونرسم لك خارطة طريق واضحة للوصول إلى الفاعلية.
تعرف عليها:
الفاعلية تعني: (الموازنة بين ما نريده على المدى القريب وما نريده على المدى البعيد، فنحن نريد من الآلة التي بين أيدينا ونستخدمها لمصالحنا أن تستمر صالحة لوقت طويل).
وهنا قد يخلط البعض بين الفاعلية وبين بذل الجهد، والفرق بينهما شاسع، ولنضرب لذلك مثالاً (فقد يقود الإنسان سيارته بكفاءة عالية ولكن إذا كان متجهًا الوجهة الخطأ؛ فإن عمله لا يتسم بالفاعلية، ولو أن طائرة متجهة من لندن إلى موسكو، انحرفت درجة واحدة عن مسارها لوجدت نفسها أخيرًا في القاهرة).
كما أنه لا يعتبر فعالاً من يجد نفسه في شغل دائم، فقد يكون مشغولاً بأمور صغيرة لا تضيف إلى رسالته في الحياة الكثير، بينما يغفل عن أمور كبيرة، ولذا فإن القاعدة الشهيرة التي تقول: (أنا مشغول، إذًا أنا فعال) غير صحيحة بالمرة.
ويضيف الدكتور محمد العبدة معنى هامًّا للفاعلية فيقول: (هي أن نستفيد مما يقع تحت أيدينا، وقد سخَّر الله لنا البر والبحر والحيوان والنبات وأعطانا الزمان، فالإنسان الفعال هو الذي يجعل من الزمن لحظات حية مفيدة، ولذلك يُسأل الإنسان يوم القيامة عن عمره فيما أفناه).
والخلاصة أن الفاعلية لها ركنان أساسيان وهما:

  1. عظمة الجوهر قبل عظمة المظهر.
  2. التوازن بين الإنتاج والقدرة على الإنتاج.

أولاً ـ عظمة الجوهر قبل عظمة المظهر:
وعظمة الجوهر تعني أنك شخصية قيمية تبني حياتها على أسس من القيم الراسخة مثل العدل والتسامح والصدق والأمانة والحب، بمثل هذه القيم ستصبح عظيمًا في جوهرك وعندما تحصل الوسائل والأدوات (عظمة المظهر) ستستخدمها في الخير وتصبح شخصية فعالة حقًّا.
إن العظمة الحقيقية تكمن في عظمة الداخل، في قيمك ومبادئك التي تصبغ حياتك كلها، وليست ـ كما يظن البعض ـ أنها فيما تملك من شهادات أو تكتسب من مهارات، فالفاعلية بكل ما لها من أهمية تنبع من داخلك، إنها في اتساقك مع ذاتك وقيمك ومبادئك، ويخطئ الكثيرون حين يركزون على اكتساب المهارات وحيازة الشهادات، وفي غمار انشغالهم بتلك الأمور ينسون القيم والمبادئ.
ولا يظن واهم أننا ننقص من قدر المهارات أو نقلل من شأن الشهادات، وهذا غير صحيح، فلا يستطيع أحد أن يغفل أهمية هذه الوسائل لبناء نهضة الأمة وصناعة الحياة، ولكنها بمثابة الجسد، لا يغني شيئًا دون وجود الروح بداخله، والروح هو الجوهر الذي بداخلك.
وحتى يتضح لك الفرق بين عظمة الجوهر وعظمة المظهر، فتصور شخصًا قد حاز مهارات الاتصال مع الناس، واشترك في عشرات الدورات التي تتحدث عن الإقناع والإنصات الفعال، وتكوين العلاقات والحديث الشيق، وغير ذلك من المهارات.
المفترض أن هذا الشخص سيكون خبيرًا في العلاقات الإنسانية والتأثير على الآخرين، ولكن مهلاً فهذا هو المظهر.
فلو كان ذلك الخبير حريصًا على منفعته فحسب، واستخدم تلك المهارات في خداع الناس، واستغلالهم من أجل مصالحه، ونسي المبادئ والقيم وصار شعاره في الحياة: (أفوز أنا ويخسـر الآخرون)، فهل تظن أن ذلك الرجل سينجح في علاقاته مع الآخرين؟!
كلا وألف كلا، فقد ينجح في خداع الناس بعض الوقت، وقد ينجح في خداع بعض الناس كل الوقت، ولكنه لن ينجح أبدًا في خداع كل الناس كل الوقت.
وعلى النقيض من ذلك، تصور شخصًا آخر، لم يتقن جميع مهارات الاتصال، ولكن يسعى في تحصيل ذلك، حديثه بسيط، أحيانًا قد يقاطع الآخرين أثناء حديثهم وهو لا يدري أن هذا خطأ، ولكنه يملك قلبًا يحب الجميع وبكل الصدق يتمنى لهم الخير، ويحرص على قضاء حوائجهم، شعاره: (أفوز أنا وتفوز أنت)، هل تظن أن ذلك الشخص سينجح في علاقته بالآخرين حتى ولو أخطأ بعض الأخطاء؟! بالتأكيد سينجح بإذن الله.
فما بالك لو أضفنا عظمة المظهر إلى عظمة الجوهر، فستكون النتيجة فاعلية أكيدة إن شاء الله.
ثانيًا: التوازن بين الإنتاج والقدرة على الإنتاج:
كانت هناك قصة خرافية في القديم،تروي قصة مزارع فقير اكتشف ذات يوم بيضة ذهبية أسفل أوزته، في بداية الأمر ظن صاحبنا المزارع أنه يحلم، فكيف تبيض الأوزة بيضة ذهبية، ولكن ما لبث أن أمسك بالبيضة فرأى ملمسها مختلفًا، وبريقها يخطف الأبصار، ولم يصدق نفسه من فرط سعادته بتلك الثروة الهائلة التي يجنيها.
وفي اليوم التالي، ذهب المزارع كعادته إلى حظيرة الأوز، ليرى بيضة ذهبية أخرى، فطار عقله من هول المفاجأة، وظل على هذه الحال أيامًا عدة، إلى أن أغرته نفسه يومًا بذبح الأوزة؛ ليخرج كل ما في بطنها من البيض الذهبي، بدلاً من انتظار البيض كل يوم وتحمل عناء الانتظار، فقرر بالفعل ذبح الأوزة، ولكن المفاجأة كانت مدوية، فلم يجد في بطنها ولو بيضة ذهبية واحدة، فقد قضى المزارع على مصدر إنتاجه من البيض الذهبي.
وقبل أن تأسف على غباء ذلك المزارع أحب أن أعرف لك الفاعلية كما عرفها ستيفن كوفي حين قال أن الفاعلية هي: (التوازن بين الإنتاج والقدرة على الإنتاج)، ففي المثال السابق، كانت الأيام الأولى فعالة بالنسبة للمزارع وأوزته "الذهبية"، حيث كان محافظًا على مصدر إنتاجه وهي الأوزة، وموازنًا بين ذلك وبين الإنتاج ذاته وهو البيض الذهبي، بينما اختل ميزان الفاعلية لما ذبح الأوزة، ليقضي على مصدر الإنتاج، ومن ثم على الإنتاج نفسه.
فالبعض قد ينظر للفاعلية من منظور البيضة الذهبية، كلما زاد إنتاجك زادت فعاليتك، غير أن الحقيقة أن الفاعلية تتكون من شقين رئيسين: الإنتاج أو الشيء المنتج (البيضة)، ومصدر الإنتاج أو القدرة على الإنتاج (الأوزة).
إذًا هو ميزان، كفته اليمنى هي الإنتاج، وكفته اليسرى هي القدرة على الإنتاج، فإن رجحت كفة الإنتاج وركزت على الإنتاج، فانتظر تدهورًا في صحتك، وتعبًا في أعصابك، ومعاناة من ضغوط شديدة في حياتك، وبعدًا عن أسرتك، وضياعًا لأبنائك، وسلسلة طويلة من الفشل والإحباطات المتكررة.
وعلى العكس إن رجحت كفة القدرة على الإنتاج، وركزت عليها فمثلك كشخص أدرك أهمية الرياضة فراح يمارسها لمدة عشر ساعات يوميًّا وأهمل العمل والإنتاج.
يقول ستيفن كوفي: (إن الفاعلية تكمن في التوازن، والإفراط في التركيز على الإنتاج يسفر عن تدهور الصحة وتهالك الآلات، واستنزاف الحسابات المصرفية وتقطع أواصر العلاقات، كذلك فإن الإفراط الحاد في التعامل مع القدرة على الإنتاج يماثل شخصًا يركض لمدة ثلاث أو أربع ساعات يوميًّا مزهوًّا بالسنوات العشر الإضافية التي سيضيفها إلى عمره غير مدرك بأنه يضيعها في الركض).
الخطوات السبع للقضاء على الفاعلية:
من أهم الوسائل لتنمية الفاعلية، أن نتعرف على أسباب فشل الكثيرين في الوصول إليها، ولنا في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة، فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت اسأله عن الشـر مخافة أن يدركني) [متفق عليه].
وإليك ـ عزيزي القارئ ـ أهم سبع خطوات تلقي بصاحبها في هوة السلبية والفشل، وتجعله أبعد ما يكون عن الفاعلية:

  1. علق شماعة فشلك وأخطائك على الآخرين.
  2. انشغل بالجزئيات عن الرؤية الكلية لحياتك ومستقبلك.
  3. عش حياة الطوارئ المستمرة، وأنجز أهدافك في اللحظة الأخيرة أو بعدها.
  4. عش لنفسك وانجح وحدك، واجعل شعارك في الحياة: (أنا ومن ورائي الطوفان).
  5. انعزل عن الآخرين بحجة أنه لا أحد يفهمك ويقدر مشاعرك.
  6. اسع في إنجاز أهدافك وحدك، دون معاونة الآخرين.
  7. اكتفِ بما حققت من إنجازات أو نجاحات، ولا تسعَ في تطوير ذاتك.

اقفز فوق الحواجز:
إن أول ثلاثة حواجز ضد الفعالية تمثل عوائق ضد النجاح الشخصي للإنسان في الحياة، فإذا استطاع الإنسان تخطيها صار بإمكانه تحقيق نجاحات فردية.
ولكن هذه النجاحات الفردية لا تكفي لصنع شيء عظيم في الواقع، وبالتالي وجب عليه تخطي الحواجز الثلاثة التالية ليتمكن من تحقيق النجاح الجماعي.
وخلال عملية تخطي هذه الحواجز وتسنم ذرى النجاح والفاعلية، يجب على الواحد منا ألا ينسى الحاجز الذي قد يوقفه عن الاستمرار في الارتقاء ألا وهو حاجز الاكتفاء بما تم تحقيقه من إنجازات، وعدم الرغبة في التطوير المستمر، ومن هنا كان تحطيم الحاجز السابع عن طريق شحذ همتك والسعي لتجديد وتطوير نفسك باستمرار.