إن من يريد التغيير والنجاح ذلك هو الشخص الإيجابي الذي يشكل الظروف ويضغط عليها، وليست هي من تشكله وتضغط عليه، الشخص الذي يستخرج التغيير من داخله ولا ينتظر أن يهبه إياه أاحد، فهو قادر بإذن الله وبما حباه الله عز وجل من إمكانات وقدرات.
وقد بدأنا سويًا رحلة التغيير في مقال سابق، وبينا في آخره أن التغيير يقوم على دعامتين أساسيتين نتحدث عنهما في مقال قادم بإذن الله، وهما:

  1. تغيير الإدراك.
  2. تغيير العادات.

وفي هذا المقال نعيش مع تغيير الإدراك...
استمع لهذه القصة
وضع سيارته في موقف السيارات ليشتري بعض احتياجاته من السوق، وحينما عاد إليها، وجد سيارة أخرى قد أغلقت عليه الطريق، وحالت دون خروجه، صار صاحبنا في قمة الغضب، واشتد حنقه على صاحب السيارة، وهمَّ أن يهشم زجاجها من شدة انزعاجه.
وبينما يهم بفعلته النكراء، ظهر صاحب السيارة التي أغلقت عليه الطريق، شاب في الثلاثينات من عمره، يدفع أمامه والده المسن المشلول على كرسي متحرك، الذي أصيب بأزمة قلبية فاضطر ذلك الولد البار إلى أن يضع سيارته في أي مكان أمام المستشفى؛ حتى ينقذ والده المريض.
حينها تبدل موقف صاحبنا تمامًا، وهرع إلى ذلك الشاب ليساعده في حمل والده إلى سيارته، بعد أن اطمأن على صحته، ورحل وهو يؤنب نفسه فقد كاد أن يكسر زجاج السيارة بغير داعٍ.
ما الذي حدث حتى يتغير موقف الرجل من شدة الحنق إلى شدة الأسف؟ إنه ببساطة ما يطلقون عليه (الإدراك).
إن تغيير الإدراك، هو بداية الطريق الحقيقي لتغيير الذات؛ لأن الإدراك هو الذي ينتج الأفعال والسلوكيات؛ فإذا غيَّرت إدراكك تغيرت أفعالك وسلوكياتك تلقائيًا [قوة المبادرة، د. محمد العطار].
الخريطة والمنطقة:
(الخريطة ليست هي المنطقة) [البرمجة اللغوية العصبية وفن الاتصال اللامحدود، د.إبراهيم الفقي، ص(23)]، من خلال فهم هذه الجملة ستفهم مبدأ مهمًا يوضح لنا حقيقة مهمة من حقائق الحياة، وهي أن رأينا في الأمور المختلفة لا يعبر عنها وإنما يعبر عن إدراكنا لها، فمثلًا مدينة الرياض تحوي آلاف الشوارع والأزقة والمباني والحدائق... إلخ، لكن إذا نظرت إلى الخريطة فوجدت أحد الشوارع، فهل يعني ذلك أن ما رأيته هو الشارع ذاته أو المبنى نفسه؟ بالطبع لا؛ لأن ما تراه في الخريطة هو تصورك لها فحسب؟
وهكذا إدراكنا عن الأمور، لا يعدو كونه تصورات ذهنية لها، فحينما تنظر إلى نفسك وتظن أنها في مشكلة كبرى، فهذا تصورك وإدراكك لما أنت فيه، وهذا التصور قد يجعلك أسير هذه المشكلة، بينما إن نجعت في تغيير إدراكك لربما تحولت المشكلة إلى فرصة كبيرة تدفعك إلى مزيد من النجاح والتقدم.
(فمثلاً، قد يرى بعض الأزواج في المشاكل الأسرية مصدرًا عظيمًا للآلام، فيدفعهم ذلك للابتعاد عن أسرهم وعائلاتهم تجنبًا للخسائر النفسية، مما يزيد المشكلة احتدامًا، ويزداد الخلاف ويتصعد وقد ينتهي بتفكك الحياة الزوجية.
بينما يرى الأزواج المبادرون في المشكلات فرصة عظيمة للجلوس مرة أخرى مع زوجاتهم، وتجديد عهد المحبة وميثاق الألفة وعقد المودة) [قوة المبادرة، د. محمد العطار].
إن المشكلة الحقيقية لا تكمن في المصاعب والمشكلات التي تمر بنا، وإنما في طريقة نظرنا لها .. المشكلة تكمن بالأساس في تصورنا لها، ومن هنا يصف لنا ستيفن كوفي المخرج فيقول: (إذا أردنا أن نغير الوضع فإنه يجب علينا أن نغير من أنفسنا أولًا, ومن أجل التغير الفعال لأنفسنا, يتوجب علينا أولًا تغير مفاهيمنا) [العادات السبع للناس الأكثر فعالية، ستيفن كوفي، ص(21)].
إننا حين نغير هذا الإدراك وتلك التصورات الذهنية تأتي التغييرات الجذرية، (وهكذا يبدو بجلاء أنه إذا رغبنا في إجراء تغيرات طفيفة نسبيًّا في حياتنا ، فلربما استطعنا التركيز بطريقة ملائمة على توجهاتنا وسلوكياتنا، أما إذا رغبنا في إجراء تغيير جوهري وكمي، فإنه يتعين أن تنصب جهودنا على تصوراتنا الذهنية الأساسية، ووفقا لكلمات ثورو: "مقابل ألف ضربة على أوراق الشجر، تأتي ضربة واحدة على الجذور") [العادات السبع للناس الأكثر فعالية، ستيفن كوفي، ص(41)].
إن السعـادة منـك، لا تأتـيـك من خـلف الـحـدود
هي بنـت قلبـك بنـت عقلك ليـس تـشرى بالنـقود
فاسـعد بـذاتـك أو فـدع أمـر السـعادة للسـعيـد
بالمثال يتضح المقال:
هي أمثلة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تحدث تغييرًا كبيرًا في النفس البشرية عبر تغيير الإدراك، فيتغير السلوك وتتغير الأفعال.
بقيت كلها غير كتفها:
تأمل كيف يغرس النبي صلى الله عليه وسلم في ذهن زوجه عائشة معنى الإنفاق في سبيل الله وأهميته، فعن عائشة أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بقي منها؟)، قالت: (ما بقي منها إلا كتفها)، قال: (بقي كلها غير كتفها) [رواه الترمذي وصححه الألباني].
فقد كان إدراك عائشة رضي الله عنها أن ما بقي من الشاة هو ما ينتفعون بها فيأكلونه وهي الكتف، وهنا يربي النبي صلى الله عليه وسلم زوجته ومن بعدها الأمة، أن ما يبقى للإنسان حقًا هو ما ينفقه في سبيل الله عز وجل، فتصبح النفس تواقة للإنفاق؛ لأنها أدركت أن ما تنفقه في سبيل الله هو الذي يبقى عند الله، وهو النفع الحقيقي لها في الدنيا والآخرة [قوة المبادرة، د. محمد العطار].

  1. كرار أم فرار؟!

المكان: طرقات المدينة المنورة.
الزمان: السنة 8 من الهجرة.
الحدث: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يقدمون المدينة عائدين من غزوة مؤتة، على رأسهم قائد الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه.
الإدراك الأولي للصحابة: يصفه أبو سعيد الخدري، فيقول: (أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزمًا ـ حسب إدراك الصحابة ـ فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار أفررتم في سبيل الله؟!).
النبي صلى الله عليه وسلم يغير الإدراك: فيقول رسول الله: (ليسوا بفرار ولكنهم كرار إن شاء الله) [المغازي، الواقدي، (1/765)].
فقد كان إدراك الصحابة أن انسحاب خالد رضي الله عنه بالجيش فرار من الجهاد وجبن عند اللقاء، ولكن واقع الغزوة قد فرض على ذلك القائد الفذ أن ينسحب بالجيش، وبالفعل انسحب بأقل الخسائر الممكنة، وهنا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الصحابة كيف يتعاملون بواقعية، ومرونة ويتكيفون مع كل جديد.
وتخيل نفسك واحدًا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت عائد من غزوة قطعت فيها المسافات وقد أتعبك الغزو، وغلبك الشعور بالتقصير في الجهاد، وسيطر عليك الحزن وخيبة الأمل، ثم يبلغ الأمر ذروته حينما ترى أناسًا تحبهم وأقارب تعيش بينهم وهم يحثون عليك التراب، ويصفونك بالجبان الفار من أرض المعركة.
وفجأة يتغير حالك من النقيض إلى النقيض، بكلمات قليلة الحروف عظيمة الأثر، تصف انسحابك بالكر، وليس الفر، بالتكتيك العسكري الفذ، وليس بالتولي يوم الزحف.
إنه تغيير الإدراك الذي يفعل في النفس الإنسانية فعل السحر، ويحولها من حال إلى حال في لحظات قليلة.
وبعد هذا الموقف الرائع، أرأيت؟
أرأيت كيف يمكن أن نحول نظرتنا تجاه الأمور إلى نظرة إيجابية، من خلال تغيير الإدراك وتصحيح المفاهيم، إن تصحيح الإدارك، هو العملية الرائعة التي تعينك على التخلص من الإدراك السلبي والانطلاق بعقل مليء بالإدراك الإيجابي الذي يدفع في اتجاه النجاح والإنجاز... نعم لقد وقفنا في هذا المقال على حقيقة مهمة، وهي: (أهمية الإدراك الفعال) وخطورة الإدراك السلبي.