سؤال أخذ يطاردني لسنوات طويلة حول السبب الرئيسي لتقدم وتأخر الشعوب والدول والمنظمات والأفراد، لمعرفة ما هو الفرق بين كل منهما؟ وعبر فترة ليست بالقصيرة قضيتها بتعليم وتدريب آلاف المتدربين بالعديد من الجهات لأكثر من جنسية عربية وأجنبية تمكنت من الوصول إلى إجابة أراحتني للسؤال الذي حيرني وشغل المهتمين بالتنمية والتطوير.
وقبل أن أطلعكم على السبب الذي توصلت إليه بعد تلك الخبرة المتواضعة، علينا أن نتفق أن هناك العديد من الأسباب والعوامل التي أدت لتلك الفروق ولكن سؤالي كان عن السبب الرئيسي لتلك الفروق. إن السبب يكمن في التدريب الذي عالج أهدافًا ثلاثة لا يكل ولا يمل المدربون من ذكرها وترسيخها مفادها هو توصيل المعارف وتغيير القناعات وإكساب المهارات.
وقد يتهم هذا الرأي بعض غير المتخصصين بالتدريب، بأنه تحيز لموضوع التخصص.
وللرد على هذا الاتهام علينا أن نعلم جيدًا أن التنمية والتطوير لن تحدث بدون قناعات راسخة ومعارف صحيحة ودقيقة ومهارات متمكنة، وهي ما تم تجميعها بالتدريب الذي عالج غيره من الأسباب التي قد يذهب إليها الغير. إن المتقدمين من الأفراد والشعوب والمنظمات والدول تعدوا مرحلة القناعة بأهمية التدريب ومروا بتجويد العملية التدريبية، بل ووصلوا إلى شيوع الرغبة العارمة بين أفرادها بالتدريب حتى في غياب المدربين، دون الحاجة المرهقة لجهود المدربين في تغيير القناعات السلبية لدى المشاركين بالعملية التدريبية.
إن هذه الرغبة من المتدربين في التدريب حتى ولو بدون مدرب، هي تدريب من نوع خاص يسمى «التدريب الذاتي».


تنفيذ العملية التدريبية من خلال المتدرب نفسه..
يجب أن ندرك الفرق الدقيق بين القراءة أو التعلم الذاتي وبين التدريب الذاتي، حيث يذهب التدريب الذاتي إلى أشمل وأبعد من مجرد الحصول الذاتي على المعلومات كما يتم بالتعليم الذاتي. إن التدريب الذاتي كما سبقت الإشارة يتناول - كغيره من أساليب التدريب - ثلاثة أهداف رئيسية أحدها التعلم واكتساب المعلومات والمعارف، كما أن التدريب الذاتي يذهب فيه المتدرب إلى تغيير قناعاته الذاتية واكتسابه للمهارات. إن التدريب الذاتي يشير إلى ذلك الأسلوب التدريبي الذي يعتمد على تنفيذ العملية التدريبية من خلال المتدربين أنفسهم بالاستعانة بمادة تدريبية خاصة. وتجدر الإشارة هنا إلى إن التدريب الذاتي سيقوم فيه المتدرب بدور أكبر من مجرد تقديم العملية التدريبية بالطريقة التقليدية من خلال المدرب عن طريق القاعات التدريبية بالشكل التقليدي، وإنما يتم من خلال تعامله مع مادة تدريبية من نوع خاص كما يحدث على سبيل المثال في الكتب الإرشادية التي تشرح بعض التمارين الرياضية أو التي تشرح تفصيليًا طرق إعداد بعض الوجبات الغذائية بطريقة ذاتية.
إن للمواد التدريبية أشكالًا متعددة، فمنها ما هو معد لتقديمه إلى المتدربين أثناء العملية التدريبية ومنها ما هو معد للتدريب الذاتي وهو على رأس المواد التدريبية من حيث المتطلبات ومهارات إعداد تلك المواد لما يحتاج من تغطية ومعالجة العديد من الجوانب التي تفوق بكثير المواد التدريبية التقليدية. حيث ستتناول تلك المواد المعدة للتدريب الذاتي ما يضمن تحقيق الأهداف التدريبية الثلاث وليس فقط توصيل المعلومات والمعارف وإنما أيضًا تغيير قناعات المتدربين ومساعدتهم في اكتساب المهارات، بالإضافة إلى ضوابط تنفيذية دقيقة تساعدهم على التقييم الذاتي لما أنجزوه بالتدريب الذاتي وإرشادات إعادة التدريب لعلاج الفجوات التدريبية وقصور الأداء. والمواد التدريبية المعدة للتدريب الذاتي ليس بالضرورة أن تكون مكتوبة وإنما قد تكون مسموعة أو مرئية بالصور الثابتة أو المتحركة.


تحديد الأهداف وتوافر المواد التدريبية أولى خطوات التدريب الذاتي..
يختلف التدريب الذاتي عن غيره من الأساليب في طريقة تطبيقه باختلاف أنماط المتدربين وظروفهم وإدراكاتهم وغير ذلك من عوامل التباين والاختلاف بين كل منهم. يرى خبراء التدريب أن التدريب الذاتي يأخذ صورتين رئيسيتين، الأولى هي التدريب الذاتي عن طريق الصواب والخطأ الذي يعرف بأسلوب الأطفال، والثانية هي التدريب الذاتي المنهجي وهو الذي يعتمد على مواد تدريبية سابقة وخطط تدريبية للتدريب الذاتي ومعايير وضوابط للتقييم والتقويم، والذي يكون له مجموعة من الخطوات الرئيسية كما يلي:
• تحديد أهداف التدريب الذاتي المعرفية والوجدانية والمهارية.
• التأكد من توافر المواد التدريبية المناسبة للمتدرب والتي قد تكون مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، كما قد تكون من إعداد المتدرب نفسه نقلًا عن خبير تدريبي سبق أن التقى به.
• التأكد من احتواء المواد التدريبية على ضوابط للأداء والتقييم مع ضوابط التقويم والتصحيح المحتملة والمتوقعة.
• الابتداء بالأهداف الوجدانية بشكل محفز، والأهداف المعرفية بشكل واضح وصحيح.
• بداية تطبيق البرنامج العملي والتنفيذي المهاري، مع الاسترشاد بضوابط الأداء وإعادته لو لزم الأمر بحالات التطبيق غير المرضية.
• التقييم الختامي للأداء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المتدرب يمكنه في ختام أعمال التدريب الذاتي قيامه بعرض ما قدمه أو آخر ما توصل إليه من اكتساب للمعارف والمهارات والقناعات على خبير تدريب محترف لتقييم جودة عملية التدريب الذاتي التي تمت ولا يخرج ذلك عن نطاق كونه تدريبًا ذاتيًا.


التدريب الذاتي يحتاج إلى مدرب!
يظن غير المتخصصين بالتدريب أن التدريب الذاتي لا يحتاج إلى مدرب، غير أن الصحيح أنه لا يحتاج فقط إلى مدرب بل إنه من الضروري أن يكون مدربًا بمواصفات ومهارات خاصة. والمدرب هنا سيكون دوره في إعداد المواد التدريبية بأشكالها المختلفة سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية. أما هذا النوع من التدريب الذاتي الذي لا يعتم فيه المتدرب على دليل إرشادي فهو أقرب إلى التعلم الذاتي عن طريق الصواب والخطأ وليس إلى التدريب وإن كان التدريب قد يشمل كما سبق القول إلى ما هو أبعد من مجرد تلقي المعلومة.
وتوجد مجموعة من الإرشادات للمدرب الذي يستهدف إعداد مواد للتدريب الذاتي، لعل من أهمها ما يلي:
• يجب أن تكون المادة التدريبية قابلة للتطبيق وإلا تحولت إلى مادة تعليمية فقط.
• يجب أن تتناول المادة التدريبية المعدة للتدريب الذاتي ضوابط للمتدرب ليقيس بها مدى نجاحه في التطبيق ويتمكن من تقييم أدائه، وإلا سيترك التنفيذ في غياب المدرب وغياب الضوابط دون معرفة مؤشرات النجاح وبالتالي غياب الهدف التدريبي الرئيسي.
• يجب أن تراعي المادة التدريبية مستويات المتدربين المختلفة والمتفاوتة أحيانًا من البعد الثقافي وغيره لضمان حد أدنى من استيعاب المادة التدريبية والقدرة على تطبيقها، وإلا تحولت للبعض من المتدربين ذاتيًا إلى مادة تدريسية للحصول على معلومات فقط وليس للتطبيق.
• يجب أن تتناسب المادة التدريبية مع الهدف التدريبي، من حيث تنوع المادة بحسب الغاية والموضوع الذي يتم تناوله ومدى التفصيل والإجمال، فما يتم إعداده لمادة تدريبية في الحاسب الآلي على سبيل المثال قد تحتاج لكتابات تفصيلية وصيغ الأوامر الإلكترونية وصور الشاشات الرئيسية والفرعية وهكذا.
• يجب أن يتناول المدرب مواد معرفية ووجدانية ومهارية بأوزان نسبية متناسبة مع الشريحة المستهدفة من المتدربين، فنجد مادة معدة كمقدمة تختلف عن مادة تدريبية متقدمة، ويمكن تصنيف المواد في هذا الصدد إلى ثلاثة مستويات متتالية تبدأ بالمقدمة ثم المتقدمة ثم عالية التخصص.


إرشادات لمتدربي التدريب الذاتي
يقوم المتدرب في أسلوب التدريب الذاتي بدور أكبر من ذلك الذي يقوم به غيره من المتدربين بأي أسلوب آخر، حيث سينوب عن المدرب في بعض أدواره التنفيذية. ومن الجيد والأكثر فعالية أن يكون لدى المتدرب هنا خلفية عن التدريب أو التعلم الذاتي أو حتى عن الموضوع الذي سيتم تناوله ولو بدرجة مبسطة وسطحية.
والمتدرب هنا يحتاج إلى نوعين من المهارات، الأولى خاصة بمهارة التعامل مع التدريب الذاتي بشكل عام ليتمكن من إدارة تدريبه ذاته والارتقاء بها بينما الثاني حول المهارة التي يستهدف تعلمها واكتسابها من خلال التدريب الذاتي. وقد يوجد المتدرب الذي لديه قدر من بعض هذه المهارات أو كليهما أو قد يوجد المتدرب الذي ليس لديه أي منهما، وبالتالي يتضح سبب الاهتمام بإرشاد المدرب بأن تتناول مادته التدريبية المستويات المختلفة للمتدربين. ومن أهم ما يمكن تقديمه من إرشادات للمتدرب الذي يستهدف التدريب الذاتي ما يلي:
• يجب على المتدرب التأكد من توافر المادة التدريبية الصحيحة والمناسبة من حيث المكونات والعناصر والحداثة وغير ذلك من أبعاد ومعايير تقييم المواد التدريبية المعدة لغرض التدريب الذاتي، مع التأكد من توافر الأدوات المطلوبة بحسب إرشادات المادة التدريبية قبل البداية في عملية التدريب الذاتي.
• يجب على المتدرب تغطية الهدف الوجداني والمعرفي في البداية بصورة كافية قبل الدخول مباشرة إلى تحقيق الهدف المهاري، حتى لا يتعرض لإحباطات ومحاولات فاشلة.
• يجب على المتدرب أن يضع لنفسه خطة تدريبية يتم فيها تقسيم الأهداف التدريبية على فترة من الزمن.
• يجب على المتدرب أن يتعلم جيدًا كيف سيقوم بتقييم وتقويم الأداء وتصحيح مساره وتقويمه وفقًا لإرشادات الضبط المفترض وجودها بالمادة التدريبية.


كيف أثرت التقنية الحديثة على التدريب الذاتي
يرتبط تطوير التدريب الذاتي بالتقنيات الحديثة ارتباطًا وثيقًا، فلم يعد التدريب الذاتي مرتبطًا فقط بتلقي المتدرب لمعلومات بطريقة مقروءة ويقوم بتدريب نفسه ذاتيًا، وإنما امتد بالتقنيات الحديثة التي تتطور بصورة كبيرة ومستمرة ومتسارعة ليصبح التدريب الذاتي حاليًا صورة ممتعة للتدريب وعشاق تنمية أنفسهم. وليس من المبالغة أبدًا أن نقول إن التقنيات الحديثة جعلت هناك فرقًا كبيرًا للتنمية الشخصية ومنحنى له دلالة لا يمكن تجاهلها من حيث التعلم الذاتي والتدريب الذاتي. بالاستعانة بالمواد التدريبية المختلفة، على الأقراص المدمجة والإنترنت وعلى شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت المختلفة وملفات الفيديو المتنوعة، كما أنها أصبحت متاحة الآن على مواقع معدة بعناية لأغراض التدريب الذاتي. وما دام التدريب الذاتي تطور بهذه الصورة المميزة مع التقنيات الحديثة، فقد أصبح من المهم بل من الضروري أن يتوفر لدى المتدرب حد أدنى مقبول من مهارات التعامل مع التقنيات الحديثة وخاصة المتعلقة بالكمبيوتر وشبكات الإنترنت.
إن التقنيات الحديثة تخرج علينا بتطور جديد لا أكون مبالغًا إن قلت كل يوم، ولعل من بين الأمثلة ما قدمته تلك التقنيات الحديثة في التدريب الذاتي ما يلي:
• يستخدم بعض الأطباء برامج حاسب آلي للتدريب على شجرة الأسئلة المستخدمة بفحص المرضى ووضع الاختيارات المحتملة والأدوية المقترحة.
• يتاح بالأسواق وشبكات الإنترنت المختلفة برامج إلكترونية لتعلم اللغات المختلفة من حيث تعلم كتابة ونطق الكلمات والجمل باللغات المختلفة، فنجد على سبيل المثال ما يتاح على شبكة Googleرابط «ترجمة» ليضم عشرات اللغات المختلفة من وإلى اللغات وبعضها هجاءً ونطقًا.
• تستخدم السيدات وغيرهن من هواة الطهي المواقع المختلفة للتعرف على الطرق التفصيلية المكتوبة والمصورة للأكلات المختلفة لجميع دول العالم تقريبًا وباللغات المتنوعة.
• تستخدم معاهد الطيران منذ فترة ليست بالقصيرة أجهزة المحاكاة لتدريب الطيارين المبتدئين لتجنب أخطاء الطيران لساعاتهم الأولى.
• تتيح المواقع الإلكترونية لعشاق التدريب الذاتي ميزات كثيرة لم تكن موجودة من قبل في مواد التدريب الذاتي المكتوبة على الأوراق بالطريقة التقليدية، حيث أصبحت تلك المواقع تتيح للمتدرب تحديثًا مستمرًا للمواد التدريبية وخبرات القائمين بتجارب تدريب ذاتي مماثلة.
• يستخدم الطلاب ومتعلمو اللغات المختلفة برامج كمبيوتر متخصصة لاختبارات اللغات بمستويات دولية متعارف عليها قبل إجراء تلك الاختبارات بصورة فعلية ونهائية قد تكون مكلفة.
• تتيح الآن البرامج الإلكترونية ومواقع الإنترنت الترجمة من وإلى كل اللغات تقريبًا، وبالتالي لم يعد هناك صعوبة لغوية تذكر للمتدرب الذي يرغب التدريب الذاتي ولديه مواد تدريبية مناسبة مكتوبة على الكمبيوتر أو مواقع الإنترنت.