في ظل اقتصاد فلسطيني استهلاكي قائم في معدلات نموه على منظومة من المساعدات والقروض ومصادر التمويل الخارجي، ومن واقع الإحصاءات الرسمية، بلغت معدلات النمو بالأراضي الفلسطينية نسب 8.7% و9.8% و12.2% و6% في أعوام 2009 و2010 و2011 و2012 على التوالي.


وهي معدلات مقبولة نسبياً إذا ما أخذنا بالاعتبار حصارا خانقا على قطاع غزة، وتذبذباً في حجم المساعدات الأجنبية، وتسرباً كبيراً في مستحقاتنا من المقاصة مع الجانب الإسرائيلي، لكن تلك النسب تفقد أهميتها إذا ما سلطنا الضوء على عدالة توزيع مخرجات تلك النسب وذلك النمو بين عناصر الإنتاج وقطاعات الاقتصاد المختلفة.


في هذا الإطار سأتناول بشيء من التفصيل المبسط حقيقة ذلك النمو الاقتصادي الموجه من قبل طبقة من المتنفذين وأصحاب المصالح على شكل نمو في الأرباح والفوائد الاستثمارية وتضخم في الثروات، فيما يتراجع معه (وبشكل حاد) متوسط أجر العامل الفلسطيني لدرجة بات فيها 60% من الأسر التي تعيلها طبقة العمال يقبعون دون خط الفقر على امتداد الفترة ما بين عامي2000 و2012.




وحسب إحصاءات عام 2012 بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 1615 دولارا فيما يناهز متوسط إنفاق الفرد للعام نفسه 2600 دولار، ما يعكس انتشار ثقافة الاستهلاك المعتمدة بالمقام الأول على استجداء المساعدات التي شكلت 37% من مجموع الإنفاق العام، وعلى العوائد الضريبية المتشكلة غالبا من عمليات استهلاكية ضمن بند المقاصة مع الجانب الإسرائيلي، والتي شكلت 44% من مجموع الإنفاق العام للعام ذاته.


كما شكل معدل استهلاك الفلسطينيين 125% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي، أي أن الادخار يساوي ناقص 25%، في حين يستهلك الصينيون مثلاً 35% من مجموع ناتجهم المحلي، وهذا يعطينا مؤشرا على تحول الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد مستهلك أكثر منه اقتصاد منتج، وهو يعطي مؤشرا أيضا على اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على مصادر التمويل الخارجي لسد الفجوة بين كل من مجموع الناتج ومجموع الاستهلاك الكلي، الأمر الذي يقلل من أهمية النمو الاقتصادي بفلسطين وقدرته على خلق فرص عمل أو التقليل من معدلات الفقر.


الحد الأدنى للأجور وخط الفقر
تم تقدير الحد الأدنى للأجور خلال العام 2012 بنحو 1450 شيكلاً (411 دولارا) للعامل شهرياً، واحتسب ذلك الرقم عن طريق تقدير متوسط عدد العاملين في الأسرة الفلسطينية المرجعية المكونة من خمسة أفراد، حيث بلغ المتوسط 1.6 فرد عامل، وإذا ما تم ضرب ذلك المتوسط بالحد الأدنى المقترح نحصل على 2320 شيكلا (658 دولارا) متوسط دخل الأسرة المرجعية، علما بأن خط الفقر الوطني لهذه الأسرة المرجعية يبلغ 2300 شيكل (652 دولارا).


وبالتالي ليس لدي أي تحفظ على مقدار الحد الأدنى للأجور أو الآلية التي تم اعتمادها لتقديره، لكن تحفظي على المماطلة والتقصير في تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور الذي أقر في أكتوبر/تشرين الأول 2012، مع العلم أن 67% من العمالة الفلسطينية هم من فئة العمال المأجورين في القطاع الخاص، و60% من أسرهم يقبعون دون خط الفقر وفقا لمعيار مستوى الدخل المتاح للأسرة.


من الواضح أن فئة المستثمرين وأصحاب المصالح والاحتكارات وبعض قوى الضغط داخل السلطة الفلسطينية تضغط باتجاه المماطلة في تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور، تحت ذريعة أن هذا القانون سيعمل على رفع تكلفة الإنتاج، وبالتالي تقليل القدرة التنافسية للمنتجات الفلسطينية، الأمر الذي يلاقي آذانا صاغية لدى مؤسسات القرار الاقتصادي لدينا. وهنا وجدت أنه لزاما علي توضيح اللبس والجدل القائم من وجهة نظر أرقام وحقائق اقتصادية من واقع الإحصاءات الفلسطينية.


يعمل الجزء الأكبر من العمالة الفلسطينية (76.4%) في قطاعات الخدمات والبناء والإنشاءات والمالية والتأمين وتجارة الجملة والتجزئة والمطاعم والفنادق والمقاهي والمواصلات والاتصالات، وتظهر أرقام الحسابات القومية ارتفاع نسبة القيمة المضافة إلى حجم الإنتاج النهائي لتلك الأنشطة بشكل ملحوظ، ما يعكس ارتفاع ربحية تلك القطاعات وارتفاع قدرتها التنافسية، وعدم قابلية معظم أنشطتها للمنافسة من قبل المنتجات الأجنبية، واستحواذ أرباب العمل فيها على الجزء الأكبر من فائض القيمة على شكل أرباح وفوائد استثمارية.


فإذا ما قمنا باحتساب مجموع القيم المضافة لأنشطة القطاع الخاص الخدمية وإزالة أجور العاملين والاهتلاكات السنوية فإننا سنحصل على نتيجة مفادها أن هامش الربح الذي تحققه تلك الأنشطة يساوي بالمتوسط 67% من مجموع الإنتاج النهائي (قبل الضريبة). ويعني هذا بشكل أبسط أن كل مائة دولار منتجة يتولد عنها 67 دولارا أرباح. وفي السياق نفسه نجد أن أجور العمال في تلك الأنشطة لا تتجاوز 37% من هيكل تكاليف الإنتاج.


بمعنى آخر، فإن تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور لن يكون على حساب القدرة التنافسية لقطاعات الإنتاج الفلسطيني، بقدر ما سيكون على حساب فائض الأرباح المتضخمة أصلا لدى قطاعات الاستثمار الخدمي الاستهلاكي.


ماذا عن الاستثمارات الصناعية؟
يشغل قطاع الصناعات التحويلية (وهو القطاع الذي يُخشى عليه عادة من ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة ارتفاع الأجور) أقل من 10% من مجموع العمالة الفلسطينية، علما أن أجور العاملين في ذلك القطاع تشكل أقل من 20% من هيكل تكاليف الإنتاج الصناعي، أي أن ارتفاع أجور العاملين بنسبة 10% تعمل على رفع تكلفة الإنتاج بنسبة 2% فقط، علما أن إنتاجية الدولار المنفق على العامل في الصناعات الفلسطينية لا تتجاوز 2.25 دولار، أي أن الدولار الذي يُنفق على العامل الصناعي على شكل أجر يُولّد 2.25 دولار قيمة مضافة.


في حين يرتفع ذلك الرقم إلى 6.5 دولارات للعامل الصناعي التركي، الأمر الذي يفسر بكل بساطة سبب انخفاض تكلفة الحصول على منتجات تركيا، في حين أن أجر العامل الصناعي فيها يفوق أجر العامل الصناعي الفلسطيني بأكثر من الضعف.


بكل بساطة لا بد لمؤسسات القرار الاقتصادي الفلسطيني من العمل على رفع وتحسين إنتاجية العامل الصناعي الفلسطيني لتتمكن تلك المنشآت الصناعية من تحمل أعباء تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور، وقد يكون ذلك من خلال تفعيل دور مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية وتعزيز دورها الرقابي على المنتجات الفلسطينية، أو من خلال تشريعات وتسهيلات تحفّز عمليات نقل تكنولوجيا الإنتاج الصناعي الحديث.


رفع المهارات والقدرات الإنتاجية
ولا بد في هذا الإطار من الإشارة إلى أهمية رفع المهارات والقدرات الإنتاجية للعامل الصناعي الفلسطيني من خلال دورات تدريب وتأهيل داخل الوطن أو خارجه تمكن العمال والفنيين الصناعيين من استيعاب تكنولوجيا الإنتاج الحديثة، وهنا يكمن دور مؤسساتنا الاقتصادية المختصة كوزارة الاقتصاد الوطني وغرف التجارة والصناعة وهيئة المدن الصناعية.


فتكاليف الحصول على دورات تدريب وتأهيل للعاملين تعتبر مرتفعة نسبيا للمنتِج الصناعي الفلسطيني، خاصة إذا ما علمنا أن 90% من الصناعات الفلسطينية تعتبر صناعات صغيرة، و7% منها متوسطة، أي أن قدرتها على تحمل أعباء تكليف التدريب والتأهيل منخفضة نسبيا. في هذا السياق من المعلوم أن جزءا لا يستهان به من المساعدات المقدمة من المانحين تأتينا على شكل دورات تدريبية توزعها السلطة الفلسطينية على وزاراتها بما لم يحقق أي قيمة مضافة ملموسة على الأرض.


إذن ما المانع أن يتم توجيه جزء من تلك الدورات التي يتكفل بها المانحون للقطاع الخاص الصناعي من أجل رفع إنتاجية العمالة فيه، وبالتالي تعزيز قدرة الصناعات الفلسطينية على توطين تكنولوجيا إنتاج أكثر تطورا تساعد في رفع القدرة التنافسية لمنتجاتها، وتقلل من متوسط تكلفة أجور العمال في الوحدات المنتجة.


أرقام صادمة للأجر الحقيقي
في هذا الجزء من التقرير اعتمدت على تثبيت العام 2000 كسنة أساس مرجعية لحسابات معدلات النمو في الأجر الاسمي والأجر الحقيقي للعاملين في القطاعين العام والخاص، معتمدا بذلك على معالجة بيانات الأجور والأرقام القياسية لأسعار المستهلك من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. حيث قمت بعزل آثار التضخم عن متوسط الأجر الاسمي للأعوام من 2000 إلى 2012 للوصول لمعدل الأجر الحقيقي، أو ما يمكن اعتباره تغيراً في القوة الشرائية للتدفقات النقدية للعامل أو الموظف.


فقد بلغ معدل النمو التراكمي للناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة للعام 2012 على أساس العام 2000 نسبة 65%، في حين انخفضت القوة الشرائية للأجر الحقيقي للعاملين في القطاع الخاص خلال الفترة نفسها بنسبة 28%. في الوقت الذي لم تنخفض فيه القوة الشرائية لرواتب موظفي القطاع العام، حيث عادلت الزيادة السنوية في رواتبهم معدلات التضخم السائدة، ما أدى لثبات القوة الشرائية لتدفقاتهم النقدية.


مع ملاحظة أن الفترة المذكورة صاحبها تغييرات ملموسة في أنماط استهلاك الموظف الفلسطيني باتجاه المزيد من السلع الكمالية والاستهلاكية لأغراض الرفاه ومحاكاة أنماط استهلاك الوسط المحيط، الأمر الذي أدى بموظفي القطاع العام لاتخاذ سلسلة من الإجراءات النقابية الاحتجاجية بهدف رفع أكبر للرواتب، لا ليتناسب مع المستوى العام للأسعار، ولكن ليتناسب مع التغييرات الجوهرية على أنماط استهلاكهم.


وفي السياق نفسه نلاحظ أن متوسط الأجر الاسمي للعامل الفلسطيني للعام 2012 ناهز 74.1 شيكلا (21 دولارا) بعدما كان أجره يصل إلى 66.8 شيكلا (19 دولارا تقريبا) خلال عام 2000، ومع معدل تضخم تراكمي بلغ 54.6% للعام 2012 مقارنة مع العام 2000، نجد أن العامل الفلسطيني يحتاج أن يصل متوسط أجره الحالي إلى 105 شياكل (29 دولارا) تقريبا ليحتفظ بالقوة الشرائية نفسها لمتوسط أجره السائد في العام 2000.


دور المنظمات النقابية
يلاحظ في الحالة الفلسطينية ارتفاع القوة التفاوضية لنقابات موظفي القطاع العام الذين لا يشكلون سوى 22.7% من مجموع العمالة الفلسطينية، ويرجع ذلك لكونهم أكثر تنظيماً من عمالة القطاع الخاص الذي يغلب عليه الأنشطة الاقتصادية غير المنظمة، وأيضا لكونهم يمثلون شرائح وأنشطة اقتصادية وخدمية حساسة كالتعليم والصحة وكافة أنشطة القطاع العام، كما أنه ينطوي في عضوية وإدارة نقابة الموظفين العموميين العديد من الشخصيات المتنفذة سياسياً وإدارياً ومالياً.


وتفتقد نقابة العمال لكل تلك المقومات المذكورة آنفا (رغم أن عمال القطاع الخاص يشكلون أكثر من 67.6% من مجموع العمالة)، ما أدى لانخفاض القوة التفاوضية لتلك النقابة، وعدم مقدرتها على تحقيق زيادة عادلة في متوسطات الأجور المدفوعة لعمالها، بل إنها حتى الآن لم تتمكن من الضغط باتجاه تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور الذي أقر منذ أكثر من عام.


من كل ما سبق، نجد لزاما على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية الفلسطينية الإسراع في تطبيق قانون الحد الأدنى للأجور، الأمر الذي سيساعد في التقليل من التفاوت الكبير في توزيع الدخل، وزيادة حجم الطبقة الوسطى الفاعلة اقتصاديا، وصولا لجني مكاسب تراكمات النمو على شكل تنمية اقتصادية حقيقية، تضمن نوعية حياة كريمة لكافة شرائح المجتمع الفلسطيني.


ــــــــــــ
بكر ياسين اشتية
رئيس قسم الاقتصاد سابقا ومحاضر بقسم الاقتصاد جامعة النجاح الوطنية في فلسطين