في واحدة من القضايا المهمة والمرتبطة بعدالة توزيع الثروة في المجتمع المصري أتت مطالب ثورة 25 يناير لتنادي بوجوب تطبيق الحدين الأدنى والأقصى لأجور موظفي الحكومة، ووجوب تطبيق الحد الأدنى بالقطاع الخاص، ولكن الممارسة العملية كانت بخلاف ذلك بعد الإطاحة بالرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.


فالمرسوم بقانون الصادر من المجلس العسكري في الفترة الانتقالية الأولى نظم هذه العلاقة للعاملين بالحكومة فقط، على أن يفوق الحد الأقصى للأجر الحد الأدنى بخمس وثلاثين مرة، ولكن المشكلة أن الحد الأدنى داخل المؤسسات الحكومية غير موحد، وبالتالي ظل الفارق والتمايز بين قطاعات الحكومة قائما، وفي الوقت نفسه لم يقترب المرسوم بقانون من تحديد الحد الأدنى، كما لم يشهد تطبيق الحد الأقصى وفقا للمرسوم بقانون تطبيقا حازما، ناهيك عن استثناء قطاعات مهمة تخضع لملكية الدولة مثل شركات قطاع الأعمال العام والمؤسسات المالية (البنوك وشركات التأمين وشركات التمويل العقاري) من نطاق سريان المرسوم.


وظل مطلب تحديد الحدين الأدنى والأقصى قائما إلى أن حدث الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز الماضي، وقد اضطرب أداء حكومة حازم الببلاوي تجاه هذا المطلب بين عدم إمكانية تطبيق الحد الأدنى كما جاء على لسان رئيس الوزراء في حواره مع جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2013 وإمكانية تحديده بنحو 850 جنيها (123 دولارا)، وما أعلن عقب اجتماع مجلس الوزراء في 18 سبتمبر/أيلول 2013 بتحديد الحد الأدنى بـ1200 جنيه (174 دولارا) على أن يطبق في يناير/كانون الثاني 2014.


فاتورة كتلة الأجور
ويوضح البيان المالي عن السنة المالية 2013/2014 أن مخصصات بند الأجور تبلغ 172.2 مليار جنيه (25 مليار دولار)، مقارنة بـ142.7 مليار جنيه (20.7 مليار دولار) في العام المالي 2012/2013، وبذلك يكون بند الأجور قد زاد بنحو 29.6 مليار جنيه (4.2 مليارات دولار)، وبنسبة نمو 20.7% بين العامين. ويستخلص من هذه الأرقام أن كتلة الأجور للعام المالي 2013/2014 استحوذت على 24.8% من إجمالي الإنفاق العام البالغ قيمته 692.4 مليار جنيه (100 مليار دولار).


وإذا ما أخذنا في الاعتبار التقديرات المختلفة لتكلفة تطبيق الحد الأدنى للأجور ما بين 12 مليار جنيه (1.7 مليار دولار) و67 مليار جنيه (9.7 مليارات دولار) فإننا بصدد زيادة مخصصات الأجور بنسبة كبيرة، سوف تجعل صانع السياسة المالية في مأزق، بسبب تأثير هذه الزيادة على عجز الموازنة العامة، الذي بلغ نحو 14% في نهاية يونيو/حزيران 2013.


ومن المرجح أن يزيد عن هذه المعدل بنهاية يونيو/حزيران 2014، إلا أن وزير المالية الحالي أحمد جلال عادة يصرح بأن عجز الموازنة سيكون بحدود 9.5%، وهو تحد كبير في ظل استمرار ارتفاع النفقات العامة للحكومة، فقد أظهرت بيانات الحساب الختامي لشهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضيين وجود عجز بنحو 40 مليار جنيه (5.8 مليارات دولار)، وإذا ما استمر الوضع الحالي على ما هو عليه فسيكون إجمالي العجز بنهاية هذا العام 240 مليار جنيه (60.9 مليار دولار).


وهو ما يجعل توقعات وزير المالية بخفض العجز أمرا مستحيلا، ناهيك عن إضافة تكلفة تمويل الحد الأدنى للأجور التي من المفترض أن تطبق في يناير/كانون الثاني المقبل، أي لمدة ستة أشهر من العام المالي الحالي، وأياً كانت قيمتها فسيكون ذلك دون أدنى شك عبئا على الموازنة العامة وتفاقم عجزها.


تهرب القطاع الخاص
رغم استمرار نهج حكومة الانقلاب العسكري للسياسات الاقتصادية نفسها التي اعتمدها نظام مبارك، وإعطاء مساحة كبيرة للقطاع الخاص لريادة النشاط الاقتصادي فإن مؤسسات هذا القطاع أعلنت عبر ممثليها اعتراضها على تطبيق الحد الأدنى للأجور.


فرئيس اتحاد الصناعات محمد السويدي صرح لوسائل الإعلام باعتراض الاتحاد على قرار الحكومة بتحديد الحد الأدنى بقيمة 1200 جنيه (174 دولارا) بينما ما زال العديد من المصانع مغلقة، وأعرب عن أمله بأن يكون الحد الأدنى في الوقت الحالي 800 جنيه (116 دولارا) ويتدرج ليصل إلى 1200 جنيه (174 دولارا) فيما بعد.


كما قال رئيس اتحاد الغرف التجارية أحمد الوكيل لوسائل الإعلام إنه خاطب رئيس الحكومة المؤقتة حازم الببلاوي وطالبه بضرورة وجود حوار مجتمعي قبل تعديل قانون العمل أو مناقشة الحد الأدنى للأجور.


وإذا كنا نتحدث عن العاملين في الحكومة والبالغ عددهم نحو ستة ملايين عامل، والعاملين بالقطاع الخاص المنظم والبالغ عددهم سبعة ملايين عامل، فإننا أمام معضلة أكبر وهي القطاع الخاص غير المنظم، الذي تقدر نسبته بعض الدراسات بنحو 41.4% من إجمالي العاملين بشكل منتظم في مصر البالغ عددهم نحو 24 مليون عامل.


إننا أمام مشكلة معقدة في سوق العمل وحقوق العمال في مصر، فقطاع مثل قطاع النسيج -الذي يعمل جزء كبير منه في مجال التصدير- لا يزال معظم العاملين به دون أجر 900 جنيه (130 دولارا) شهريا، فضلا عن كثير من الأعمال التي يعتمد الأجر فيها على الإكراميات، وليس الأجور الأساسية التي يقدمها صاحب العمل.


غياب الرؤية والتخطيط
أعلن مجلس الوزراء عقب اجتماعه في 18 سبتمبر/أيلول الماضي عن تحديد قيمة الحد الأدنى للعاملين بالحكومة فقط بـ1200 جنيه (174 دولارا)، وعلى أن يبدأ التطبيق في يناير/كانون الثاني المقبل، وبذلك ترك المجتمع أمام حالة من اللبس والغموض، فماذا يفعل العاملون بالقطاع الخاص؟


فعقب تطبيق الحد الأدنى للأجور بالحكومة سوف تشهد السوق المصرية حالة من التضخم لا محالة، خاصة في ظل معدلات النمو في الناتج المحلي التي لن تزيد بأحسن الأحوال عن 2.5%، وبالتالي فالزيادة في رواتب العاملين بالحكومة ستكون زيادة نقدية لا يقابلها إنتاج سلع وخدمات في المجتمع.


ومن المتابعة لما ينشر بوسائل الإعلام من الوزراء والمسؤولين الحكوميين يتبين أن القرار اتخذ دون وجود رؤية أو دراسة، فوزارة المالية طلبت من وزارة التنمية الإدارية تحديد المستحقين للحد الأدنى للأجور بالقطاع الحكومي، أما عن تكلفة تطبيق الحد الأدنى فوزير التخطيط تنصل من تصريحاته التي أدلى بها لوسائل الإعلام من أن التكلفة ستكون بحدود مليار جنيه (145 مليون دولار) شهريا، وأن المستفيدين قرابة مليوني عامل، وعاد ليقول إن وزارة المالية هي المعنية بتحديد تكلفة الحد الأدنى.


أما وزير المالية أحمد جلال فقد رفض أن يفصح لجريدة الأهرام الخميس الماضي 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري عن قيمة التكلفة المالية لتطبيق الحد الأدنى، وقال إنه سيعرضها أولا على رئيس الوزراء.


إن اتخاذ قرار يمس شريحة كبيرة من العاملين بالمجتمع المصري كان يتطلب توفير دراسة جادة وافية أولا قبل الإعلان عن تطبيق القرار، فمن حق العاملين بالقطاع الخاص والقطاع غير المنظم معرفة مصير رواتبهم، وما سيفرض عليهم من تبعات قرار الحكومة.


كما أنه من حق المجتمع أن يعرف التكلفة المالية التي ستتحملها الموازنة؟ وهل سيتحمل هذه الزيادة دافعو الضرائب؟ هل ستأخذ الدولة بالشمال ما أعطته للعاملين بها باليمين من خلال فرض ضرائب؟ أم أنها ستتجه للمزيد من الديون المحلية والأجنبية؟ أو ستعمد لطبع نقود أو ما يعرف باسم التمويل بالعجز؟


استبعاد الحد الأقصى
رغم أن للقضية طرفين، الحد الأدنى والحد الأقصى صرح رئيس الحكومة المصرية لوسائل الإعلام بأن هناك صعوبات كبيرة في تطبيق الحد الأقصى في مصر، كما أن إعلان مجلس الوزراء لم يشر من قريب ولا من بعيد إلى مسألة الحد الأقصى للأجور لموظفي القطاع الحكومي.


وتتوقع بعض التقديرات أنه في حال اتخذت الحكومة قرارا بتحديد الحد الأقصى للعاملين لديها (سواء في القطاع الحكومي أو شركات قطاع الأعمال العام أو الهيئات الاقتصادية والمؤسسات المالية) بنحو 30 ألف جنيه (4353 دولارا) شهريا فإن التكلفة على الموازنة العامة لتطبيق الحد الأدنى ستكون صفرا.


ولكن عدم تطبيق الحد الأقصى للأجور هو الجزرة التي يقدمها الانقلاب لمن هم على رأس مؤسسات الدولة لينفذوا سياساتها، وكذا ترسيخا للمبدأ السائد في مصر منذ الخمسينيات وهو "الولاء مقابل العطاء".


إذا كان الحد الأدنى يمثل تحسينا لحياة الطبقة الدنيا من العاملين في السوق المصرية فإن تطبيق الحد الأقصى يمثل أفضل صور عدالة توزيع الثروة داخل المجتمع، فرغم تجاوز رواتب بعض العاملين لحاجز مئات الآلاف من الجنيهات، ما زال أداء المؤسسات الحكومية دون المستوى، ولا يعكس مردودا إيجابيا لحصول القائمين على رأس هذه المؤسسات على رواتب خيالية.


المجتمع يدفع الثمن
إن المجتمع المصري يدفع الآن ثمنا اجتماعيا وسياسيا، بل واقتصاديا لتأخر حكومات الرئيس المخلوع والمجلس العسكري في تنفيذ ما لديهم من دراسات تخص إصلاح هيكل الأجور بمصر، خاصة داخل أروقة المؤسسات الحكومية، فالقضية ليست حدا أدنى وأقصى، بقدر ما هي قضية عدالة بين العاملين المتساوين في المؤهلات والإمكانيات.


وتظل مؤسسات بعينها تتميز عن غيرها داخل الدولة من حيث حجم الأجور مثل القضاء والبترول والمؤسسات المالية، في حين أن الإدارة المحلية والتعليم والصحة وغيرها من المؤسسات تعاني ضعفا في الدخول واختلالا واضحا في مستويات الأجور والحوافز.


ختاما، ففي ظل حالة الضبابية وعدم الشفافية التي تكتنف تطبيق الحد الأدنى للأجر وكذلك غياب الحديث عن الحد الأقصى للعاملين بالقطاع الحكومي، فإن حلم المصريين في إحدى قضايا العدالة الاجتماعية أصبح بعيد المنال، فقد يكون هناك تطبيق معيب أو مماطلة سياسية بمزيد من التأجيل حينما يحل يناير/كانون الثاني 2014 كموعد لتطبيق الحد الأدنى.