كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات



إن نهوض بيئة العمل في ما يتعلق بإدارة الموارد البشرية في الأمم المتقدمة يقوم في المقام الأول على البحث العلمي والاستثمار الأمثل لنقاط القوة والتميز والتقليل من نقاط الضعف للموارد البشرية المبني على إدارة المعرفة.هذا النهوض يقوم على التمكين مع توفير كل مقومات العمل الخلاق في بيئات العمل، ووجود متخصصين في الحافزية، وتشكيل فرق العمل الفعالة وفرق وضع الحلول وإدارة الديناميكية الجمعية لأداء المؤسسات، وفن إدارة العاملين المهرة الموهوبين مع وجود مساحة واسعة للإبداع خارج نطاق الوصف الوظيفي، الذي أصبح بتطبيقاته الحالية من الممارسات التي تعيق العمل بدلاً من تطويره، حتى أصبح الموظف سجين هذا الوصف الوظيفي الذي يستمر مع المؤسسة إلى ما شاء الله، وكأنه إنجاز غير مسبوق، وهو كل ما تحتاجه المؤسسة لتعمل بطريقة علمية منظمة، ويقيم الأداء على ضوئه وفق أساليب تقييم عفى عليها الدهر تركز على الفردية وليست على جماعية الأداء، وعلى ساعات العمل والإنتاج، بدلاً من ساعات العمل النوعية والمحصلات المؤثرة ذات القيمة والأثر العالي، فيتم التركيز على الحضور لمكان العمل بدلاً من الحضور الفعال وضرورة العمل أمام عين المسؤول بدلاً من نظام وآلية لا تعتمد على الرقابة بل على ما هو المطلوب إنجازه بكفاءة وتفرد وغياب تام للعمل عن بعد من أي بقعة في العالم.
التقييم الحالي في الكثير من الدوائر والمؤسسات لا يتناسب مع عالم إدارة المعرفة، ولا تزال تمارس الشللية بطريقة حديثة بتصنيف خمسة نجوم في بعض المؤسسات ولا يزال الموظف النجم صانع العجائب، والذي تتوقف عجلة الإنتاج النوعي في غيابه أو مروره بمرحلة هبوط في المستوى، موجود تحت مسمى وظيفي يحميه أو مدير يهمه الإنجاز أو الدخل الإضافي والمجد الشخصي فقط.
فلا يجوز التركيز على الأعمال والنتائج التي تصمم لإرضاء وإبهار شخصي، وتقييم أهمية وجدوى المشاريع والمهام في كثير من الأحيان وفق المزاجية، وطريقة عرض المشروع في غياب تام لجهة ثالثة محايدة لتقييم جدوى المشروع، والاعتماد على الشركات الاستشارية، التي باتت تعمل كخياط الملابس الفاخرة، لتفصيل المشروع وجدواه حسب الطلب والرغبة، فهو نظام بعيد عن المحاسبية وتحمل المسؤولية المربوط بالغايات العليا للدولة أو الإمارة تماشياً مع استراتيجيات القطاع العام.
وهناك ندرة بل شح وفقر في كل الوطن العربي في المتخصصين بإدارة استراتيجيات القطاع العام (معادلات خاصة وأولويات تختلف عن النموذج الحالي في الكثير من المؤسسات)، فنعم تنتج المؤسسات العامة وهناك محصلات ممتازة، ولكن السؤال هل هي مستدامة؟ وهل المستفيد الأول والأخير منها الوطن والمواطن؟
إن العلم في تجدد يومي، ودراسة موضوع إعادة هيكلة منظومة إدارة الأداء وتطوير الموارد البشرية تماشياً مع أحدث نظريات إدارة التمكين والمعرفة، أصبح ضرورة وطنية. فتوجه الدولة المدروس والعقلاني نحو اقتصاد المعرفة هو محور رئيسي لنصبح من أفضل الحكومات بالعالم، وهو ليس بطموح فقط، بل حسب التجارب وما نشاهده أمامنا سيصبح واقعاً ملموساً، وبالتالي يجب أن تصبح مواردنا البشرية ضمن الأفضل عالمياً. وهنا يقع الواجب والمسؤولية الأكبر علينا كموظفين للعمل بجد وإخلاص لمواكبة عجلة التطور، فالوطنية والمواطنة الحقيقية تكمن في ماذا قدمت وفعلت لوطنك، وليس ماذا قدم وفعل وطنك لك؟
ثورة ممارسات الجودة والتميز في عالم الموارد البشرية في السنوات القليلة الماضية لا تقل أهمية عن الثورة الصناعية أو الثورة التقنية والعلمية الحالية، وتبدأ برسم المؤسسة لخريطة طريق واستراتيجية قائمة خاصة بتطوير مواردها البشرية بصور مستدامة يتم فيها جرد المؤسسة وظيفياً وخلق مخزون وقائمة المهارات التي يجب أن تتوافر، والمواهب والخبرات المطلوبة لتحقيق مهام واستراتيجية المؤسسة من خلال تحديد الفجوة بين المواهب والمهارات الحالية، والتي تحتاجها المؤسسة، وبالتالي تصميم وظائف بمهام محددة جداً لتعويض غياب تلك المواهب وتحديد مهام المؤسسة لتعهيد المهام الأقل أهمية والأقل خدمةً للغايات والأهداف الاستراتيجية الرئيسية لمؤسسات القطاع الخاص مقابل ربط عقودها بنسبة محددة بالتوطين، وحد أدنى لرواتب المواطنين في القطاع الخاص.
فالقيام بمسح ممنهج للمواهب والخبرات الأكثر تميزاً أو لديها قدر أكبر من القابلية لصنع الفارق، بداية التصحيح، ومن ثم هدم الفجوة في المستويات ونقل بعض مهام الموظفين الأكثر تميزاً للموظفين الآخرين الأقل تميزاً، وعدم الالتزام بما يسمى بوصف وظيفي وربطه بوصف المهام لإنتاج استراتيجية المؤسسة، والخطوة الثانية معرفة أهم الخدمات التي تقدم، وتكوين فرق تحليل الخدمات لمعرفة متغيرات المجتمع وديموغرافية الخدمة، وتغيير طبيعة وبيئة وشخصية ونمط حياة المستهلك للخدمة، وما هي الخدمات التي من الأفضل أن تدار عن بعد أو باستخدام التقنيات الحديثة مثل برامج الهواتف المتحركة، ومن جانب آخر تقييم الموظفين يجب أن يرتبط بالكفاءات والمهارات التي اكتسبها وطبقها خلال العام بل اليوم بدلاً من عدد المهام التي أنجزها فقط، والاعتماد على فرق العمل «السوبر» بدلاً من «الموظف السوبر» لحل المعضلات والمهام وتدريب تلك المواهب بالعمل مع فريق (عدة فرق) من الموظفين المبدعين أصحاب الإنتاجية العالية جداً، بعد تحديد أهم نقاط القوة في كل شخص فيهم وتحملهم للمهام الأكثر حيوية في المؤسسة، بعد تقسيمها لمشاريع منفردة.
ولا يجب إخضاع جميع الموظفين في القسم أو الإدارة لنفس التأهيل والدورات التدريبية، بل تحليل احتياجات ومقدرات كل شخص على حده، لخلق مئات المهارات في المؤسسة بأعداد محدودة من الموظفين، والتقليل من الاعتماد على الشركات الاستشارية، وتخفيض التكلفة وزيادة الإنتاجية والربحية على المدى الطويل، بدايةً من استراتيجية الشهر أو المشروع الواحد التي تخدم أولويات عليا تماشياً مع متطلبات سرعة وحداثة العصر.
فالمعوقات والتحديات كثيرة وكذلك الحلول والممارسات النموذجية المبنية على آخر ما توصل إليه العلم، فالمهام والواجبات ليست كتاباً مقدساً يجب أن لا يتغير، وبدلاً من أن يكون الشعار «الزبون أو المستهلك أولاً»، يجب أن يكون «الموظف أولاً»، ففاقد الشيء لا يعطيه، والرضى الوظيفي، يولد رضى خدماتي نوعياً.
ونحن في دولة تمُارس فيها الجودة من أعلى الهرم لأصغر موظف بالدولة، فيوجد لدينا أفضل نظام مراقبة عام للأداء لخدمة الصالح العام في الشرق الأوسط، وضمن الأفضل عالمياً، وهناك لا يقل عن 20 ألف متسوق سري لضمان تقديم خدمات عالمية للمواطن والمقيم لا تقل عن أي دولة متقدمة في العالم.
نعم أصبحنا ننظر إلى دولتنا وقياداتنا بفخر شديد، ونجدها صعبة على أنفسنا أن نقول إننا لسنا في مصاف الدول المتقدمة، فبكل أمانه نحن كذلك ولذلك يجب أن يعاد النظر في إدارة الموارد البشرية، وفق أفضل الممارسات وتعميم المعمول به كأفضل نموذج بغض النظر عن الجهة سواء كانت حكومية، أو شبه حكومية وجعلها معيارية.