فريد مناع
{وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة: ١٤٣]، هكذا وصف الله U هذه الأمة، وبهذه الوسطية والتوازن ميَّزها، فهذا الدين وهذه الشريعة دائمًا ما تكون وسطًا بين طرفين، وكما قيل قديمًا: (وكلا طرفي قصد الأمور ذميم). ولذا فلابد من إنسان متوازن بين فرديته من جهة، وميله إلى الجماعة وتعاونه معها من جهة أخرى، وحينئذ يصبح المجتمع مكونًا من أشخاص حقيقين، لا أصفار ونكرات، أشخاص لهم وجود واقعي فعَّال، وفي الوقت نفسه متعاونون، كما وصفهم الله تعالى في كتابه بكونهم {كأنهم بنيان مرصوص}[الصف: ٤]. وهذه هي فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، فرد داخل المجموع (ففي كل نفس سويِّة ميل للشعور بالفردية المتميزة, بالكيان الذاتي, وميل مقابل للاندماج في الجماعة والحياة معها وفي داخلها, ومن هذين الميلين معًا تتكون الحياة؛ ومن ثمَّ لا يكون الإنسان فردًا خالصًا، ولا يكون أيضًا جزءًا مبهمًا في كيان المجموع). إذا فنستطيع استخلاص صورة توازن الفرد بين الفردية والجماعية بأن الفرد يشعر بأنه كيان إيجابي في المجموع، له دوره ورأيه الذي يشارك به في إطار تعاونه واتحاده مع الآخرين؛ للوصول إلى هدفهم الموحد. فريق كرة القدم: لو أحرز أحد لاعبي فريق كرة القدم ثلاثة أهداف، ولكنه فريقه خسر بأربعة أهداف مقابل تلك الأهداف الثلاثة، فهل يمكننا القول بأن ذلك اللاعب قد فاز بالمباراة؟ بالطبع لا، لم يفز بأيِّ شيء سوى أن زاد في رصيده الفردي ثلاثة أهداف، ولكن النتيجة النهائية هزيمته كفرد في فريقه المهزوم، وكذلك كل من رام كل فوائد الجماعية التي ذكرناها في المقال السابق تحت عنوان "الجماعية لماذا"، فلابد أن يعلم أن نجاح المجموع نجاح الفرد. إنه ذلك القانون الذي يصفه رويارد كبلينج بقانون الوجود فيقول: (إليك قانون الوجود، مصيره الصدق والخلود، قوة المجموعة للفرد، وقوة الفرد للمجموعة، ومن التزم بالقانون فسينجح، ومن خالفه فسيموت). أولًا ـ الآثار الإيجابية: · الفردية: 1. مضاعفة النشاط والجهود: وذلك لأن الإنسان بفرديته يدرك أن عليه أن يجتهد ويسعى بنفسه لتحقيق الأهداف، وللوصول إلى النتائج، وأنه لا يصح أن يعتمد على الآخرين فقط لتحقيق ما يريد؛ بل عليه أن يسعى ويتعب ويجتهد في ظل مساعدة الآخرين له حتى يصل إلى ما يريد. وبالفردية يستشعر الفرد أن الهدف الذي يسعى إليه المجموع هو هدفه أيضًا في المقام الأول، وأن عليه أن يسعى بكل قوته لتحقيق هذا الهدف، بل عليه أن يبدع ويبتكر ويأتي بالأفكار الجديدة التي تساعد الفريق للوصول إلى هدفه. وبالتالي تكون الفردية بمثابة بذور تلقى على أرض طيبة، فتثمر شجار الإيجابية في النفوس؛ فتجعلها تنطلق من ذاتها نحو أهداف الفريق، دون الحاجة إلى التحميس؛ لأنها ببساطة نفوس تنطلق ذاتيًّا نحو الهدف. ومن أوضح الأمثلة على تلك الفردية المتزنة التي أدت إلى نتائج إيجابية؛ قصة صاحب النقب ذلك الجندي المسلم الذي لم يُعرَف اسمه إلى الآن. فقد كان مسلمة بن عبد الملك أميرًا على جيش من جيوش الدولة الأموية، وكان مسلمة يحاصر بجيشه حصنًا من حصون الأعداء، واستعصى هذا الحصن على الجيش، فلم يستطع له فتحًا ولا اقتحامًا. فحرَّض الأمير مسلمة جنده على التضحية والإقدام؛ حتى يحدث بعضهم في ذلك الحصن ثغرًا أو نقبًا، فتقدم من وسط الجيش جندي ملثم غير معروف، وقذف بنفسه إلى جهة الحصن غير مبالٍ بسهام الأعداء، ولا خائف من الموت، حتى أحدث فيه نقبًا كان سببًا في سقوط الحصن ودخول الجيش فيه، وهكذا انتصر المسلمون في هذه المعركة ـ بعد فضل الله ـ بسبب هذا الرجل. وفرح مسلمة بذلك كثيرًا، وأراد أن يكافئ ذلك الرجل فنادى في الجيش بعد المعركة: أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحد. فقال مسلمة: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي فعزمت عليه بما لي عليه من الحق ـ أي بما لي عليه من حق الطاعة ـ إلا جاء، وكان يريد أن يخصه بجزء من الغنائم ويمجده. وبعد فترة، جاء الرجل إلى حاجب مسلمة، وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال له الحاجب: أأنت صاحب النقب؟ فأجاب أنا أخبركم عنه. واستأذن له الحاجب على الأمير، فلما صار بين يديه قال له: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط هي: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء، فقال مسلمة: فذلك له. فقال الرجل في استحياء: أنا صاحب النقب، ثم ولَّى مسرعًا، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها قائلًا: اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة). فإذا تأملت في هذا الموقف عرفت ما الذي جعل بداية صاحب النقب يسارع إلى إحداث النقب في سور الحصن؛ لأنه يشعر أنه مسؤول بنفسه عن تحقيق النصر للمسلمين. لأنه يشعر أنه فرد إيجابي عليه أن يقدم شيئًا، لأن عنده فردية متزنة مع الجماعية تجعله ينطلق من ذاته لتحقيق هدف المجموع. والأعجب من ذلك أنه لم يطلب أي مكافأة، بل لم يرد أن يعرف أنه هو الذي قام بهذا العمل؛ لأنه يخلص العمل لله؛ لأن عنده دافع ذاتي كبير جعله ينطلق نحو هذا العمل فلا يحتاج إلى المحفزات الخارجية. 2. الانضباط والالتزام: وذلك لأن الإنسان بفطرته يعلم أن وجود قائد أو مدير ضرورة لا بد منها؛ نظرًا لأنه يساعد على وضع الأمور في نصابها، والقضاء على الفوضى في حياة الناس فيسهل الانتفاع واستغلال الجهد والوقت والمال. ولكن علينا أن ندرك أن قضية الالتزام والانضباط بين أي فريق عمل في إطار جماعيٍّ، إنما هي قضية فردية ذاتية في المقام الأول، وأنها تنبع من ذات الشخص ومن قناعاته بمدى أهمية الالتزام، لا من الضغط الخارجي عليه. ومن أعظم الأمثال في الالتزام والانضباط كان في غزوة الأحزاب، حين أمر النبي r حذيفة فقال: (قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم)، ولكنه كلفه بمهمة واضحة، عبَّر عنها r بقوله: (اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ). يقول حذيفة: (فلما وليت من عنده جعلت، كأنما أمشى في حمام، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يَصْلِي ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله r: (ولا تذعرهم عليَّ)، ولو رميته لأصبته [أصل القصة صحيح مسلم]. فالانضباط والالتزام الذي ملأ الكيان الفردي لحذيفة t كان ذا أثر عظيم في ذلك الموضع. 3. المشاركة الفعالة بالرأي: وكما أن فردية الشخص تجعله منضبطًا وملتزمًا؛ فإنها أيضًا تجعله يعمل فكره ويشارك برأيه مع الآخرين؛ لتحديد أفضل طريقة ممكنة للوصول إلى الهدف، فيصبح شخصًا منضبطًا انضباطًا ذاتيًّا واعيًا عن بصيرة وقناعة وفكر، لا انضباطًا وتقليدًا أعمىً كالأنعام تساق بلا وعي ولا فهم. ولعل من أبرز المواقف التي توضح لنا مثل هذا النموذج الراقي المتوازن، بين الفردية والجماعية في إبداء الرأي هو موقف الحباب بن المنذر t يوم غزوة بدر. يوم أن قام الحباب بن المنذر t، وقال: (يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامضِ بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله r: (لقد أشرت بالرأي). فانظر كيف كيف كان الحباب بن المنذر متوازنًا بين فرديته وجماعيته، فهو t جندي في الجيش المسلم، الذي قائده رسول الله r المؤيد بالوحي، ولم يمنعه كل ذلك من إبداء رأيه الخاص به؛ لأنه فرد إيجابي في الجيش يشعر بمسؤوليته الخاصة عن انتصار جيشه يومئذ.
والأجمل من ذلك هو استعداد الحباب التام للانضباط والتضحية في حالة عدم الأخذ برأيه. · الجماعية: 1. تصحيح المسار: وذلك لأن الفرد في ظل العمل مع الآخرين، إن أخطأ، فسيكون وجوده كفرد في وسط الآخرين عاملًا شديد الأهمية في سبيل توجيهه وتصحيح أخطائه بوسائل شتى، فتارة بممارسة الصورة الصحيحة والنموذج الأمثل أمامه ليتعلم منه، وتارة بتوجيه النصيحة والإرشاد للشخص. ولنا في ذلك مثال الثلاثة الذين خلِّفوا y، وبالأخص ما حدث مع كعب بن مالك t، فقد كان هجر الصحابة y له بأمر من النبي r عاملًا من أهم العوامل التي ساعدت في تصحيح المسار، والعودة مرة أخرى بعد توبة الله U عليه. 2. توظيف الطاقات: أي توظيف سائر طاقات الفرد، بما يؤدي إلى التوازن والتكامل في شخصيته؛ فكون الإنسان في بيئة جماعية يعد المجال الوحيد الذي يوظف سائر طاقاته، ويجعل كل الغرائز تعمل بدرجات متساوية ومتوازية في نفس الوقت، الأمر الذي يؤدي إلى تكوين الشخصية السوية المتزنة المتكاملة. ولعل مجتمع الصحابة من أروع الأمثلة في تكامل الطاقات وتوظيف النبي r لها، فمن الملاحظ أن (النبي r حرص على أن يضع لكل واحد من صحابته هدفًا خاصًّا به؛ ليكون جزءًا من الرؤية الكلية لأمة الإسلام، بحيث يتحقق حلم الأمة بتحقق مجموع أحلام أفراد الصحابة y. فنجد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص y في المجال العسكري، ونلحظ معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس y نوابغ وفلتات في المجال العلمي، ونبصر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يستبقيهما رسول الله r بجانبه وزراء حتى يُعدَّهم للخلافة من بعده). 3. اكتساب الخبرات والتجارب: فليس هناك مجال أرحب ولا أوسع يستطيع الإنسان أن يكتسب فيه العديد من الخبرات والتجارب من إطار العمل الجماعي والتعاوني مع الآخرين، فكما يقول إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية الأرضية: (إذا كنت قد استطعت رؤية ما هو أبعد من أن يراه الآخرون؛ فذلك لأنني وقفت على أكتاف عمالقة سبقوني). فالانطلاق مما توقف عنده الآخرون من خبرات ومعارف، يوفر عليك سنوات كثيرة من التعلم والجهد، وكما تقول الحكمة: (العاقل من اتعظ بخطأ غيره). فبدلًا من أن تخطئ وتتعلم من خطأك؛ تعلم من خطأ غيرك واستفد من خبرته، تتعلم الكثير في وقت قصير، وتتمكن من الوصول إلى نفس الخبرة والمهارة التي وصل إليها الآخرون، في وقت أقل منهم.