كتب ماكس فيبر عن الكاريزما، ودور الشخصية الكاريزمية في تغيير مسار السياسة. الشخصية الكاريزمية هي شخصية تتميز بعيب خلقي أو بصفات خارقة أو ما يستدر العطف ومن ثم الالتفاف حولها، حسب رؤية فيبر، يرى فيه التابعون علامة. ويأتي البطل الكاريزمي بشخصيته الطاغية في لحظة فراغ سياسي ليملأ هذا الفراغ ويصحح مسار التاريخ، حسب ما يتخيل تابعوه. وقد قسم علماء السياسة الشخصية الكاريزمية إلى أنواع مختلفة. وإضافتي هنا إلى ما كتبه أستاذنا فيبر حول هذا الموضوع، هو أن اللحظة ذاتها وليس الشخص فقط، قد تكون لحظة كاريزمية، أي أن اللحظة قد تساعد على ظهور الشخصية الكاريزمية. ففي العالم المتقدم بلحظاته المتقدمة يمكن الحديث عن كاريزما التقدم التي تنتج قيادة راشدة تملأ الفراغ السياسي. أما في العالم المتخلف بلحظاته المتخلفة يصبح الحديث مناسبا عن «كاريزما التفاهة». وهذا هو الحال في عالمنا العربي.. وتلك هي الأمثلة.

واضح للعيان أن في البيت العربي ثلاث مشاكل على مستوى قمة الهرم السياسي. ففي لبنان وبعد أن شغرَ مقعد الرئاسة بانتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، والتي كانت أصلا ولاية مثيرة للجدل والتناحر اللبناني، لم ينجح اللبنانيون حتى اليوم في انتخاب رئيس. وفي فلسطين شق (الإخوة الأعداء) صفهم، وبدلا من أن تكون لهم دولة فقد أصبحت لديهم اليوم دولتان تتوسطهما دولة إسرائيل. وفي العراق حكومة أخفقت في التوصل إلى توافق وطني ترضى عنه كافة الأطياف العراقية والتي يبدو رضاها صعب المنال. وبالطبع لم تنجح الدول العربية، لا بهيئتها الرسمية متمثلة بالجامعة العربية ولا بمبادرات فردية للدول في أن تحل عقد واحدة من هذه المشاكل. ولنا أن نتخيل فقط لو أن دولة الكويت لم تطلب وتسعى للتدخل الخارجي في أزمة الغزو العراقي، ولو أنها اعتمدت فقط على البيت العربي الموحد المتماسك في أن يحررها ويبوس المتخاصمون شوارب بعضهم لأنه لا خلاف بين الأشقاء، فهل من المستبعد في تلك الحالة أن يكون الكويتيون إلى اليوم ينتظرون الحل العربي وهم في الشتات أو تحت الاحتلال الصدامي؟
التدخل الأجنبي في أي منطقة من العالم يأتي عندما يفشل أهل المنطقة في إدارة شؤونهم. بالطبع يحمل التدخل الخارجي أجندته ومصالحه الاستراتيجية، ولكن إن لم يجد ثغرة لما نفذ منها. فمن المؤكد أنه كان يحلو للأميركيين مثلا أن يلعبوا دورا في روسيا الغنية بثرواتها، وهم فعلوا ذلك عندما كانت روسيا دولة ضعيفة تنهشها عصابات المافيا الدولية والمخدرات، ولكن روسيا فلاديمير بوتين التي رتبت بيتها الداخلي واستعادت مركزها كدولة كبرى ذات ثقل ووزن، قطعت الطريق على الأميركيين وسواهم. لبنان تحول اليوم بأكمله إلى ثغرة للتدخل الخارجي الأميركي والأوروبي، لأن اللبنانيين أولا، ومن بعدهم العرب، لم يستطيعوا أن يغلقوا هذه الثغرة ولو من باب (سد الذرائع). ويظن الزعماء السياسيون اللبنانيون أنهم بعنترياتهم استطاعوا أن يستقطبوا كل هذا الاهتمام من البيت الأبيض. والحقيقة أن ما جعل الشأن اللبناني في أولويات الإدارة الأميركية هو القلق على أمن إسرائيل لا اللوبي اللبناني الذي (يتكزدر) بين واشنطن وباريس. إن القيادات السياسية العقيمة التي نراها في لبنان اليوم هي نتاج لحظة تاريخية تافهة، وبالتالي نحن أمام مثال ناصع لكاريزما التفاهة.
لا بد أن نعي أن المشكلة موجودة في مجتمعاتنا، وأن علينا التحدث عنها بجرأة وصراحة دونما الخوف من التخوين وجلد الذات إلى آخر هذه المقولات التي لم تقدم لنا شيئا. فواضح أنه كلما رفع الغطاء، سواء كان احتلالا أو ديكتاتورية، عن مجتمع عربي تفوح منه رائحة العفن السياسي والاجتماعي. رفعت إسرائيل يديها عن غزة عندما انسحبت من القطاع، فذبح (الأخ أخاه) وألقاه من الطابق الرابع ممزق الأشلاء. ويكفي أن نطلع على التقرير الأخير للمجموعة الدولية للأزمات International Crisis Group، والمعنون بـ «من داخل غزة»Inside Gaza ، حتى ندرك، وللأسف، حجم الفساد والتخلف في القطاع.
انسحب السوريون من لبنان، فإذا بنا وجها لوجه مع مجتمع نخر فيه سوس التخلف حتى القاع، بعد أن صدعونا لزمن طويل بتحضره ورقيه وتعايش طوائفه المذهبية والسياسية (التي ما زالت تتناحر منذ تأسيس لبنان كدولة). أنا من جيل تربى على أن لبنان هو سويسرا الشرق، فهل ما نسمعه من ميشيل عون أو حسن نصر الله أو وليد جنبلاط هو انعكاس لرقي سويسرا الشرق؟
العراق وبعد أن انزاحت عنه صخرة صدام الديكتاتورية، ظهر منه العجب! ويقول قائل إن الاحتلال هو السبب. الأميركيون أتوا بجنودهم وطائراتهم ودباباتهم وهم باعترافهم قوة احتلال ولا شك أن لديهم أجندتهم الخاصة، لكنهم، كما قلت في مقال سابق، لم يخترعوا العراقيين. فالذين يفجرون أنفسهم في المساجد والمواكب الحسينية ومراكز الشرطة والحافلات والأسواق الشعبية ليسوا أميركيين، والذين يقتلون ويهجرون بعضهم بعضا وفق الانتماء المذهبي ليسوا أميركيين، والذين يلقون رسائل التهديد بالقتل تحت أبواب المنازل وينفذون تهديداتهم ليسوا أميركيين. العراقيون (دوشونا)، كاللبنانيين، بأنهم أبناء حضارة بلاد الرافدين وأن الكتب تطبع في بيروت وتقرأ في بغداد. إذن من هؤلاء الذين نراهم على شاشات التلفزة، يهتفون للميليشيات والقتل ويعيدون صياغة ديكتاتوريين جدد بأسماء جديدة تحت غطاءات فكرية متخلفة؟ أين هي الحضارة التي يتحدثون عنها وإن لم تستطع اليوم أن تجمعهم وتقودهم إلى وعي عال بمسؤولية بناء مجتمعهم ودولتهم، كما حدث في اليابان أو روسيا مثلا، فكيف لنا أن نقتنع أن حضارة ما بين النهرين هي حضارة مستمرة غير منقطعة؟ وأستحضر هنا ما قاله الباحث والاختصاصي في علم الاجتماع، العراقي الدكتور علي الوردي بأنه حتى مجتمع الحضر في العراق هو مجتمع يعيش بمعظمه بعقلية البداوة.
كشف الغطاء عن تلك اللحظات التافهة في تاريخ الشعوب هو ما يمنحنا قيادات تافهة أنتجتها كاريزما التفاهة. تقرير اليونيسيف الأخير يحكي لنا عن مأساة أكثر من مليوني طفل عراقي يموتون جوعا، فأين هي الشخصيات التافهة التي كانت تنظم الرحلات المكوكية من أجل أطفال العراق زمن صدام؟ أم أن أطفال العراق اليوم أقل طفولة من أطفال الأمس؟
يرفض العرب التدخل الدولي بدعوى أن خلاف (الأشقاء) لا بد أن يحل داخل البيت العربي، ولا داعي «لنشر غسيلنا القذر أمام العالم». وبالطبع المقصود هنا بالبيت عند معظم الشارع العربي، هو السعودية ومصر. أي لماذا لا تقوم السعودية بدور لحل هذه المشاكل، ولماذا لا تتدخل مصر من أجل الخروج من هذه الأزمات؟
السعودية استضافت هذا العام رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، وإسماعيل هنية، في «لقاء مكة». اتفق الطرفان يومها بمباركة الدولة العربية الكبرى المضيفة. وما أن عادا إلى الديار، حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وتجاهلا الاتفاق الذي تم في مكة المكرمة.
فهل المطلوب أن تلدغ السعودية من الجحر مرتين؟ أم المطلوب أن يسلم السعوديون نفطهم لشخصيات أوجدتها كاريزما التفاهة لإشعال المنطقة بحريق الفوضى؟
المشكلة الأساسية في اللحظات التافهة من تاريخ الشعوب هي اختلاط الأمور عند الناس واختلاط القضايا والأوراق. وأولى علامات كاريزما التفاهة في العالم العربي اليوم هي الجهاد بما ليس لك. فالمصريون يطالبون باستخدام نفط السعودية لتحرير فلسطين، والخليجيون الثوريون يطالبون بتفعيل دور الجيش المصري لتحرير فلسطين. ولا المصري لديه النفط، ولا الخليجي لديه الجيش.. وعلى رأي المثل المصري «القرعة بتتباهى بشعر بنت أختها». المشاعر القومية الجميلة التي تجعل المصري (له عشم) في جيب ونفط السعودية، وتجعل الخليجي (يمون، على رأي أهل الشام) على أرواح الجيش المصري، فهذه هي قمة التفاهة!