لم يكن هناك يوم اسعد من ذلك اليوم الذي استلم فيه حسنين محمد الحسين خبر قبوله في احدى الدول العربية للعمل مهندسا فيها , وهو المهندس الذي هيأته درجاته العلمية وخبراته الكبيرة في ان يكون على رأس قائمة العدد القليل ممن تم اختيارهم وتنقيتهم للعمل في تلك الدولة , وسارع حسنين الى استكمال الاوراق وجواز السفر له ولعائلته الكبيرة , واتصل بمن يعرفهم من ابناء بلده في تلك البلاد من اجل تامين وضع سكني مناسب له ولعائلته ومتناسبا مع الدخل الشهري الذي سيدخل جيبه , ولم ينس ابدا الوليمة الكبيرة التي اعدها احتفالا بهذه المناسبة حيث وعد من حوله ان عهده بزمن الضنك قد ولى والى غير رجعة , ولم ينس ان يهدي بعض ممتلكاته من فرش قديم لبعض اصحاب الحاجات , وحينها طلب منه سماره ان يحلي السهرة العامرة بصوته الشجي وزاد عليهم ان دقه شيء من الحماس لينهض راقصا وسط سماره ليقضي الجميع امسية مشهودة , وبالفعل فقد جهز حسنين نفسه واستدان مبلغا لاباس به من المال من اجل استكمال معاملة العائلة وشراء الكثير من الحاجيات والتي من المفروض ان يقتنيها تناسبا مع وضعه المالي الجديد, وحينما وصل الى الدولة العربية صاحبة عقد العمل كاد ان يقبل ارض تلك البلاد حبا لها واعدا الله مخلصا في دعائه ان يكون مخلصا ومتفانيا في عمله , وكان له ان استلم عمله الذي اخلص له , وتأقلم اولاده في ثانويات البلدة واعدادياتها وكانت درجاتهم العلمية المرتفعة سببا في ملء المزيد من البهجة على الحياة الجديدة التي قدموا لها , واستمرت هذه الفرحة العامرة الى ان كانت الازمة المالية العالمية والتي لامست بشّرها اكثر شعوب الارض .
فوجيء حسنين في الشهر الرابع من بدء العمل ان المدير الاداري في العمل يطلب مقابلته , وعندما ذهب اليه ابلغه المدير الاداري عن اسفه الشديد لاضطرار الشركة التي جاء للعمل فيها الى انهاء عقده وتفنيشه من العمل , وهو الخبر الصادم لرجل استدان الكثير من اجل الوصول الى شاطيء الامان , وعندما وصل اليه واطمأنت نفسه جاءته امواج المد الكاسح لتلقيه وتعيده الى لجج الغرق واتون بحر الديون , وهكذا تسارعت دوامة العذاب الشديد والتفكير القاسي, وبلحظة داخ الرجل واصفر وجهه وامتقع ووقع على ارض الغرفة امام دهشة المدير الاداري , والذي اصابته نوبة خوف حادة , حمل بعدها المسكين اياما الى المشفى, وبسبب الديون الكثيفة التي استدانها فقد اضطر بعدها المسكين الى البقاء في نفس البلد محاولا الحصول على عمل اخر , وبشق الانفس حصل على عمل هو اقل بعشر مرات عن عمله الاول , واشد انهاكا للعقل والبدن , وفقد في هذا العمل الجديد مستواه الاجتماعي في بلدان يقاس فيها الانسان بما يملك لابما وهبه الله من عقل وبالفلوس لا بقيمة النفوس, وانقلب حال العائلة السعيدة الى حال هو اشد شرا بكثير عما كان فيه .
وظاهرة التفنيش العربي ظاهرة ليست جديدة في عالمنا العربي , ومع ان كلمة فنّش الانكليزية والتي تعني انهاء, تصرّف فيها علماء التفنيش في مجمعات اللغة العربية ودوروها لتتحول الى كلمة عربية هي التفنيش, و تستخدم كالسوط على رقاب اصحاب عقود العمل في الدول العربية , هؤلاء العمال واصحاب العقود والذين يطردون من عملهم وفي غالب الاحيان ودون سابق تصور او اعلام , لتاتي كالموت على رؤوس هؤلاء البسطاء والذين اضطرتهم حاجة العمل لترك بلدانهم واسرهم وقنعوا بالفتات الذي تقدمه لهم هذه الدول مع مافيها من المن والاذى , وهذه الفئة العاملة والتي يتهددها سوط التفنيش وسوط الاقليمية البغيضة والتي سيطرت على عقول امتنا التي وحدها الله وقسمتها مشاريع التجزئة الاستعمارية , وصار المواطن العربي يترحم على ايام حكم الدولة العثمانية والتي كانت فيها البلاد موحدة ولايحتاج فيها المواطن العربي ليزور اقربائه واخوانه العرب الى فيزا او كيميا او رياضيات , وانما كان المسافر يحتاج الى راحلة بأربع ارجل وبعض القطع النقدية , والقليل من الطعام لا كثيره , حيث ان عادات الكرم العربية والتي اشاد بها الخالق ونبيه الامين كانت تسمح بأن يكون في البيوت متسعا للمسافرين والضيوف , ولكن وبعد ان رمينا كتاب الله وراء ظهورنا ورضينا بما قسّمه الاستعمار الغربي من اراض وممالك على بعضنا, ورفعنا اعلاما ورايات ملونةعلى كل شبر ومتر وشير من الارض الواحدة ,وصار فيكل منها حاكمٌ وشرطيٌ وسجن , وصار فيها المواطن العربي القادم من بلد او اقليم اخر يحتاج الى معاملات وجوازات سفر وكفلاء , واصبح سكان بعض الدول ممن انعم الله عليهم من بعض فضله يصفون اخوانهم الذين لهم عظيم الشرف بالسعي امام عيالهم واهلهم لطلب الرزق والذي هو فريضة في الاسلام , يصفونهم بأقذع الاوصاف الدونية ويرمونهم بأفحش الاعمال , ناسين ان هؤلاء هم اهلهم وابناء عمومتهم , ويجمعهم رابطة الدم والوطن والدين , وكم سمعنا عن اكل حقوق البعض ورميهم خارج حدود البلد المضيف وكانهم كلاب نجسة , درجة ان اصحاب القلوب الرحيمة في الغرب بدأت تتسائل عن هذا الظلم والحيف والجور , ونسي اهل هذه البلدان المضيفة انهم كانوا والى مدة قريبة جدا قبائل يهاجم بعضها بعضا , وعندما رجعت الى كتاب الله وقرأته ووجدت فيه نور العلم الرباني والذي يقول :ووجدك عائلا فاغنى , ثم يقول سبحانه :واما بنعمة ربك فحدث , وهذا النص القرآني الخالد قيل في احب البشر الى رب البشر , وكنت اتسائل عندما اقرأ هذا النص وامر عليه متحسرا على الجهل العظيم والاقليمية المفرطة التي يعيشها ابناء امتنا واقارب جلدتنا ,............., ولقد حاولت ان اعرف اصول هؤلاء الذين قدموا للعمل في بلاد العمل العربية فوجدتهم انهم من ابناء الصحابة الذين خرجوا مجاهدين في سبيل الله والذين فتحوا البلدان العربية والامصار الاسلامية , وبقوا في تلك البلدان من اجل نشر رسالة النور الرباني المحمدي فيها , ورجوعهم للعمل في بلدان كانت لهم ولآبائهم هو حق لهم وليس مكرمة من غيرهم , ورحم الله الحكومات السابقة والتي كان اغلب وزرائها من نخب الامة العربية ودون تمييز بين الدول بل وكان ممثل المملكة العربية السعودية في الامم المتحدة فلسطيني , ورئيس وزاراء سوريا لبناني ورئيس تونس السابق ليبي وملك الاردن هاشمي , ولكن الاقليمية العربية اصبحت اصلا والوحدة عارا , والدعوة الى طرد العمالة العربية واستقدام عمال اجانب واوروبيين وتفضيلهم على العمال العرب والمسلمين هو خيانة لقول الله الذي يقول : ولأمة مسلمة خير من مشركة ولو اعجبتكم . فهل يقرأ اهل التفنيش هذا , ام ان علماء التفنيش لايرحموا حتى الاسر والاطفال الذين ارتبطت لقمة عيشهم بعائل يجد ويعمل في بلدان اقاربه واخوانه من العرب , وخاصة تلك العوائل التي مازالت تعيش في بلدان التفنيش العربي , واكثر ماصدمني ان البعض من هذه العائلات والتي فنشوها لم يكن لديها فضل مال لتعود الى بلدانها , وذلك بعد ان صرفت مدخراتها من اجل البحث عن عمل اخر كصاحبنا حسنين , وقضت ايامها جوعا , والى جانبها تقام الولائم العامرة, يشم قتارها الاطفال الجياع ويرفض شيوخ تلك المساجد صرف جزء من فائض الماكولات لهذه الاسر , والاغرب ان تصلني هذه القصص وانا اعيش في اقاصي الارض في السويد , ولاتصل هذه القصص الى الكتاب والاعلاميين والمسؤولين في تلك البلدان , وهم الذين تراهم اسودا في الخطابات , سباعا في المديح , طبولا في العدوان , اما عندما تصل الامور الى التراحم والتعاون فاننا نجدهم من القواعد والخوالف , وكم يطول لسانهم عندما عندما نطالبهم بالحق .
ومع ازمات التفنيش فان هناك ازمات اخرى وهي ازمة طرد اصحاب الخدمات الطويلة , فقد كفل النظام الدولي حقوق العمل والعمالة وحقوق التعويض , واريد هنا ان انوه الى ان الاستغناء عن اصحاب الخبرات الطويلة في اي بلد هو نوع من اشد انواع الجهل , وهذه الدول الغربية نراها تشتري شراءً اصحاب الخبرات وتصرف عليهم المال الوفيرلتغويهم ولتستفيد من خبراتهم الطويلة , يضاف الى ذلك ان اصحاب الخبرات الذين التزموا بالوطن الجديد هم اكثر التصاقا بوطنهم الجديد حيث لافرق في قيمنا الاسلامية والعربية بين مغربي وشامي الا بالتقوى الذي لايحدده سلطان او عالم وانما هو سر بين العبد وربه , وحاجة دول التفنيش المتحدة الى هذه الخامات العلمية هي كحاجة الشجر للماء , والدعوات الاقليمية المسعورة هي دعوات الجهل التي تطالب بطرد العلم واحلال الجهل مكانه ,ولو حافظت كل دولة على كل الخبرات التي جاءتها لكانت الان من اعظم الدول تقدما وعلما وصناعة ولخلت بلدانها من البطالة المحلية ولكن هناك في بلداننا من هو عدو نفسه وعدو غيره , وهي سياسة غبية جدا اثبتتها الدول الاوروبية علميا , وهي الدول التي وضعت القاعدة المعرفية اساسا لتقدمها , فسعت في بلدان العالم تطوفها من اجل البحث عن اصحاب العقول , وهذا طبع البشر المتعلم والمثقف , اما العقول الفارغة فهي التي تبحث عن سياسة التفنيش ولهذا فان التقدم لن يدخل ديارها والبركة لن تلازم مقارها حتى ولو امتلكت اموال الامم كلها مادام الحسد طبعها والتكبر خاصيتها وهي صفات الشياطين والاباليس كما ورد في الاثر,يضاف لهم نعمة الجهل في السياسة , والتمييز والعنصرية محركها , والبخل اهم مكوناتها , وكم سعدت بالاخبار التي تتحدث عن امارة الشارقة والتي يبحث شيخها عن افضل الخامات العلمية فيرسل الوفود لاستقدامها , وهذا ديدن الحاكم الذي ينير الله قلبه فيوجهه لطريق النور والخير والهداية , واسال الله ان يهديه فيحول امارة الشارقة الى دولة عربية اسلامية تعدادها عشرين مليونا من افضل رجال الامة يحمي بهم جزيرة العرب و خليج اتباع الرسالة المحمدية من اطماع الطامعين , ويبني بهم دولة عظمى في تلك الارض الطيبة التي ملأها مدارس وجامعات ومساجد ومراكز ثقافية , والذي اثار في نفس البعض من جيرانه نار الحسد البغيض, وبعمله ذلك فانه سينهي والى الابد ان شاء الله ظاهرة التفنيش والتطنيش وسيكسرظاهرة الاقليمية البغيضة والتي هي عمل من اعمال الشيطان وجنده.