قال ربنا (( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) )) [ الأحزاب ]

فماذا فعل الإنسان في ذلك الذي أشفقت منه السماوات و الأرض ؟!
ماذا فعل الخليفة في الخلافة التي آلت إليه..؟!
و ماذا فعل في الأمانة التي أخذها على عاتقه..؟!

لقد رفضت السماوات و الأرض و الجبال أن تحمل مسئولية تلك الأمانة.. و قالت: لا نريد أن يكون لنا الأمر، و لا تصريف في شئوننا معك يا رب.. أنت يا رب حسبنا.. تصرفنا كيف تشاء.. نعمل بأمرك و لا نستخلف على شيء..

أما الإنسان فقد قبل الخلافة و قبل مقتضياتها.. أن تكون له حرية و تصريف، و أن يكون له عمل، و أن يكون له رأي و أن تكون له استقلالية في مملكته.

و أعانه الله فأعطاه العقل و الحرية و سخر له ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه.. و مد له في الأسباب.. فماذا حدث ؟

لقد تنبأ له القرآن بأنه كان ظلوما جهولا بنفسه في قبوله لتك المسئولية.. فقد تعهد بما لا يستطيع، و حمل ما لا يقدر.
و قد صادقت الحوادث على تلك النبوءة.

لقد أطلق الإنسان يده في الأرض فأفسدها.. لوث البحار و الأنهار بالنفط و المبيدات و مخلفات المصانع و سموم المعادن الثقيلة.. لوث الجو بغازات الكبريت و أكاسيد الأزوت و الكربون و الرصاص.. و اتخذ من قلب الأرض و البحر مخازن للموت النووي و الرعب الذري يدفن فيه النفايات القاتلة لصناعاته المهلكة.. فأتلف الميراث الذي تسلمه من سيده و مولاه.

و أرسل له الله الرسل يهدونه إلى الشرائع فخرق الشرائع و طلب اللذة من وجوهها الشاذة باللواط و السحاق !! و خرجت قبائل من الشواذ تطالب بشرعية الفسق و تقنن زواج الرجال بالرجال، و زواج النساء بالنساء، و تسير في مظاهرات علنية تطالب بحقوقها و تتخذ لها النوادي المرخصة.. و رأينا في زماننا العجيب تقنين هذه المخالفات يحدث أمام عيوننا، و مراسيم الكونجرس تقرر المساواة بين الشواذ و الأسوياء في جميع الوظائف حتى وظائف الجيش.

و تفنن الإنسان فجعل من الحرية الجنسية شريعة مملكته، و أقام للزنا مؤسسات و أقمارا فضائية تنشره، و أبدع في إخراجه بجميع أوضاعه في أبهة من الألوان و مواكب من الزخرف و استأجر له الجميلات و الفاتنات من كل جنس و عرضهن عاريات، و بث العهر مباحا لكل من يشتري (( طبقا )) و لكل من يوجه (( هوائي استقباله )) إلى الفضاء.. و قامت دول كبرى بحماية هذه الصناعة الجديدة و نشرها و تنافست شركات السينما في السبق إلى الموضة الجديدة و جرى المسرح وراءها.

و قرأنا آخر خبر جاء من أمريكا.. حكاية الممثلة الأمريكية كيم باسنجر التي رفضت تنفيذ بعض المشاهد العارية في فيلمها الذي تعاقدت عليه ( فيلم هيلينا ).. فرفعت عليها الشركة قضية تعويض و جاء حكم القاضي بغرامة 8 ملايين دولار تدفعها الممثلة لأنها رفضت خلع ملابسها الداخلية و امتنعت عن تنفيذ السيناريو كما أراده المخرج.

انقلبت الأوضاع و أصبحت التي تدفع الغرامة هي التي تتمسك بالعفة و ترفض الفجور.. و أصبح (( الشرف )) هو الجريمة التي تستدعي توقيع أقصى العقاب !
و أصبح الحجاب هو الذي يدعو إلى المساءلة.. حتى في بعض بلاد الإسلام !
و في تركيا عوقبت نائبة البرلمان بالحرمان من الجنسية لأنها رفضت خلع الحجاب.

و في السياسة أصبح الظلم شريعة اسمها الحركي (( حقوق الإنسان )) ! و اصطنعت الدول العظمى نظاما جديدا للعالم يكون للعدالة فيه أكثر من مكيال.. للدول النامية مكيال، و للدول العظمى مكيال.. و لا تكون حقوق الإنسان لكل إنسان.. و إنما على حسب موقف هذا الإنسان.. معهم أم عليهم.. و على مقتضى المصلحة العاجلة للدول العظمى ذات الشأن ساعتها.. و المصالح تتغير من ساعة لساعة.

هذا الغش العلني في القيم و المعايير، و هذا الغش العلني في المثل و الأخلاقيات أصبح هو القاعدة في عالم اليوم.

و إذا تصورنا لسلوك هذا الخليفة خطا بيانيا.. لرأيناه خطا يسير إلى النازل طول الوقت من بداية آدم إلى الآن.. يسير من انحدار إلى انحدار إلى غور سحيق.

و على العكس من ذلك ننظر إلى الخط البياني الآخر الذي يعبر عن نصيب هذا الإنسان الجاحد من النعمة الإلهية، فنجده صاعدا طول الوقت.. إلى الأغنى و الأقوى و الأكثر حظا في كل شيء.
نصيب هذا الإنسان من المال و الولد، و من ثمار الأرض و من العلم الذي أفاءه الله عليه و على سلالته في جميع فروع المعرفة.. الصناعة.. الزراعة.. الطب.. المواصلات.. الدفاع.. الكيمياء.. الفيزياء.. الفلك.. الفنون.. الثقافة كان في الزيادة دائما.

الواحد ( آدم ) أصبح ببركة الله ستة آلاف مليون آدمي.. مشى على القمر، و أرسل السفن إلى المريخ و الزهرة و أورانوس و المشتري و أرسل الكاميرات الفلكية إلى ما وراء الشمس و أرسل المجسات الفضائية تقيس الأشعات الخفية في أرجاء الكون، و زرع الأرض بالميكنة و ضاعف المحصولات بالهندسة الوراثية و استولد الجديد المبتكر من الفواكه و الثمار، و اخترع السيارة و القطار و الطائرة و الصاروخ و التليفزيون و الفاكس و اخترع الحسابات و الذاكرة الكمبيوترية المذهلة و صنع الأعاجيب في الطب و الجراحة.

زرع قلوب الموتى في الأحياء و زرع الشعر و الجلد و الكبد و الكلية و الأمعاء و الرئتين و زرع أجهزة السمع و البصر في الدماغ و أنشأ بنوكا يحفظ فيها الحيوانات المنوية و البويضات في درجة حرارة تحت الصفر لتعيش سنوات و تكون تحت الطلب حينما يريد أن يستولد منها أجيالا جديدة.

و قضى على الجدري و أوشك أن يقضي على التيفود و التيفوس و شلل الأطفال و الجذام.. و امتد بصره عن طريق المناظير الفلكية العملاقة، فأصبح يرى شموسا على بعد 15 مليون سنة ضوئية، و اخترق بصره العالم الأصغر عن طريق المجهر، فأصبح يرى الميكروبات و الفيروسات و امتد سمعه إلى ما وراء المجرات فالتقط ضوضاء الانفجار الذي بدأ به الكون.. أما قوة ذراعه فقد تعملقت إلى (( ونشات )) و روافع و صواريخ و قنابل ذرية و هيدروجينية و تحولت إلى قوة تدميرية هائلة.. و أخيرا.. شبكة الانترنت.. عجيبة العجائب التي يتصل بها أطراف العالم للتجارة الإلكترونية و نشر العلوم و المعارف.. فماذا فعل بها الإنسان ؟.. استعملها في نشر الدعارة و اللواط و الفسق الفوري عن طريق التخاطب الإلكتروني.

و في نشوة انتصاره ظن أنه الصانع الأوحد لكل هذا، و لم يدرك مصدر كل تلك الإلهامات و العلوم و المعارف.. و قال مثلما قال قارون: (( إنما أوتيته على علم عندي ))

لم ير اليد الإلهية الخفية التي أعطت، و لا الملائكة التي ألهمت و لم يكشف له ربنا ما كشف لنوح حينما قال: (( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا (37) )) [ هود ]

فكان نوح يعلم أنه يتلقى عن ربه علم صناعة السفن.. أما كل هؤلاء المخترعين فكانوا محجوبين و ظنوا أنهم هم الذين أبدعوا و ابتكروا و اخترعوا فامتلأوا غرورا، فكانت النتيجة تلك الغطرسة التي أخذت بتلابيب هذا الإنسان فكان يزداد بطرا كلما ازداد غنى، و يزداد تجبرا كلما ازداد قوة، و يزداد كفرا كلما ازداد علما !.. و كان هذا الرسم البياني العجيب.. خطا صاعدا أبدا يشير إلى امتلاكه المزيد و المزيد من القوة و الثروة و المعرفة طول الوقت يقابله خط نازل في انحدار مستمر يشير إلى سفالته و جحوده و قسوته و كفره.. كلما زاده الله نعمة ازداد جحودا !!

و العاقبة الطبيعية لكل هذا لا شك أنها تدور الآن في أذهانكم.. إننا نقترب الآن من اللحظة الحرجة.. فربنا من أسمائه الحسنى نعلم أنه الصبور، و قد صبر ربنا على هذا الجحود ثلاثة ملايين سنة هي عمر هذا الإنسان من أيام آدم أول البشر إلى الآن.. و هذا رقم فلكي في الصبر لا يقدر عليه إلا رب كريم حليم.. و ما يزال الرب يعطي و ما يزال الإنسان يجحد.. و يكفر..

و قد أمده ربنا بمدد من الأنبياء و الرسل و المعلمين و المؤدبين و المصلحين و الناصحين.. و لم يثمر هذا المدد سوى قلة مستضعفة مهزومة من المؤمنين مضطهدين و مضروبين في كل مكان.. و محل سخرية و استهزاء من كثرة علمانية مفترسة فاجرة تملك السلطة و الأسباب و الجاه و الكلمة.. فلم يبق إذن إلا شيء واحد.. كارثة شاملة تكون وقفة تأديب و إيقاظ لهذا الإنسان السادر في غفلته.. أو إعلام خاتم بنزول المسيح و ظهور المهدي ليكون الرحمة الأخيرة قبل الغضب العام الذي يهدم به ربنا الأرض و يطوي السماوات على من فيها و ما فيها !

و أشعر أنه قد أزفت الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة، و أننا نعيش بالفعل في زمان هذه الأحداث الكبرى.. أو أننا نقترب منها.. و أن الكوارث الصغرى التي نعيش فيها مثل اضطراب الطقس و كثرة الزلازل و تفجر البراكين و كوارث السيول و الفيضانات و الأعاصير و ظهور الأمراض و الفيروسات التي تتحدى العلم البشري هي المقدمات المنذرة. إن عجلة التاريخ تسير الآن بإيقاع متسارع.. و ما كان يحدث في ألوف السنين أصبح يحدث الآن في سنوات قليلة.. الانتقال من عصر الطاقة اليدوية إلى عصر الفحم إلى عصر البخار إلى عصر البترول إلى عصر الكهرباء استغرق ألوف السنين.. الآن يقفز التاريخ من عصر الذرة إلى عصر الإلكترونات إلى عصر الكمبيوتر إلى عصر الفضاء إلى عصر الهندسة الوراثية في بضع سنوات.. و هذا يعني أن ما تبقى من تطور سوف يكون مضغوطا في حيز تاريخي قصير.. و أننا بالفعل نهرول إلى النهاية.

و الاحتمال الآخر أن يستمر التاريخ على ما هو عليه لألوف السنوات و ملايينها.. يمضي في رتابة كما هو، و يزداد الإنسان علما و يزداد كفرا، و يلوث الكون أكثر، و يفسد في الأرض أكثر و أكثر، و يتعملق في قواه و جبروته، و يغزو الكون بحماقات بلا نهاية.. و يتحول البشر إلى ديناصورات جبارة يقاتل بعضها بعضا، و تطارد كل صنوف الحياة في غباء.. و هو احتمال لا يصلح إلا إذا كان الكون بلا مكون، و العزبة بلا بواب، و الأرض بلا صاحب، و الوجود بلا عقل.. و هو أمر مستحيل، فكل شيء في هذا الوجود من الذرة إلى المجرة ينطلق بالهندسة المحكمة و التدبير الملهم و يشهد بأن الله شاخص ماثل حاضر لا يغيب و لا ينام و لا يغفل و لا يسهو و لا يظلم مثقال ذرة.. و قد أهلك ربنا الدناصير الأولى و مسحها من الأرض حينما طغت و سيطرت على كل صنوف الحياة، و ضرب لنا مثلا لا ينكره إلا تفكير علماني غبي أو عناد كافر محجوب.

و الذي بين أيدينا من شواهد ينفي هذا الاحتمال و لا يقول بتلك العبثية المتخبطة العمياء.. فالكون بصير و ليس أعمى.. و عينه هي الذات التي خلقته.. الله الحي الذي لا ينام.. و هناك منطق في التاريخ و في الحوادث يحكم كل شيء في خفاء و استمرار.. و لا شيء يذهب سدى.

ضعوا أيديكم على قلوبكم فقد مضى الكثير و لم يبق إلا القليل يا سادة.. فنحن مقبلون يقينا على أحداث كبرى.

المصدر: كتاب (( سواح في دنيا الله ))
للدكتور مصطفى محمود