هجرة جماعية تهز «مصفوفة الأمان والرضا»

مصفوفة الأمان والرضا وعلاقتها بالهجرة الجماعية للموظفين

بندر بن عبد العزيز الضبعان


بداية العام الهجري 1434هـ، يتوقع أن يتم اعتماد لائحة الرواتب الجديدة (اللائحة الموحدة) التي ستطبق على موظفي الهيئات والمؤسسات العامة في السعودية، الأمر الذي سيؤثر في مدى شعورهم بالأمان الوظيفي job security، والرضا الوظيفي job satisfaction، وينذر بـ ''هجرة جماعية'' لأكثر من 150 ألف موظف منهم إلى عوالم جديدة!

لكن قبل الخوض في الهجرة الجماعية، يجب أن نميز بين الشعورين، فالأمان الوظيفي هو شعور الموظف بأن وظيفته محمية بموجب الأنظمة واللوائح والعقود، ومأمونة من قرارات إنهاء الخدمة التعسفية أو الفجائية. أما الرضا الوظيفي، فهو شعور الموظف بالسعادة تجاه العمل الذي يؤديه وتجاه التعويضات والمنافع التي يتلقاها نظير ذلك العمل.
ولأن الإحساس بالأمان والرضا يتفاعل بدرجات نسبية وفي صور مختلفة من جراء عوامل خارجية وداخلية تؤثر في بيئة العمل، فقد وضعت مصفوفة matrix توضح مدى شعور الموظفين بذلك، سميتها بـ ''مصفوفة الأمان والرضا''، يتفاوت فيها هذان العنصران بين ارتفاع وانخفاض داخل أربعة أرباع (الشكل). وحرصت عند إعداد هذه المصفوفة على الاعتماد على مصادر عديدة، هي: مقارنة لأنظمة الخدمة والتقاعد في القطاعين، ونتائج قائمة ''الاقتصادية'' لأفضل بيئة عمل سعودية خلال السنوات الماضية، وبعض الدراسات التي أجريت لسوق العمل السعودية، والرصد المباشر لممارسات الموارد البشرية في كثير من الجهات السعودية، ومقابلات مع موظفين يعملون في تلك الجهات. وقد جاء توزيع الأرباع في المصفوفة، كالتالي:
• الربع (1): يضم الجهات التي يشعر فيها الموظف بارتفاع في الأمان الوظيفي وارتفاع في الرضا الوظيفي، وهي الهيئات والمؤسسات العامة والشركات المملوكة للحكومة (أرامكو، وسابك، وشركة الاتصالات السعودية، والشركة السعودية الكهرباء)، وهي جهات تجمع بين خصائص القطاعين العام والخاص. فالموظف هنا يرى أن وظيفته مضمونة – طالما أنه لم يخل بواجباته الأساسية – ويشعر بالسعادة تجاه العمل الذي يؤديه والتعويضات والمنافع (الرواتب، والبدلات، والترقيات، والابتعاث والتدريب والتطوير الوظيفي، والتأمين الطبي... إلخ) التي يحصل عليها مقابل العمل الذي يمارسه.
• الربع (2) : يتضمن الجهات التي يشعر فيها الموظفون بارتفاع الأمان الوظيفي وانخفاض الرضا الوظيفي، وهي الوزارات. إذ رغم أن موظفيها يرون أن الوظيفة مضمونة إلا أنهم لا يشعرون بالسعادة تجاه العمل الذي يؤدونه أو التعويضات والمنافع التي يحصلون عليها (أحد الوزراء اعترف علنا أن 40 في المائة من موظفي وزارته غير راضين وظيفيا!).
• الربع (3): يشمل الجهات التي يشعر فيها الموظفون بانخفاض الأمان الوظيفي وارتفاع الرضا الوظيفي، وهي الشركات عموما. فهذه المنشآت تحاول سد فجوة ''الأمان الوظيفي'' من خلال تعزيز جانب الرضا الوظيفي لدى الموظفين، لأنها تملك المرونة الإدارية والمالية لاستقطابهم واستبقائهم لفترات طويلة عن طريق التعويضات والمنافع والتطوير الوظيفي.
• الربع (4): يحوي الجهات التي يشعر فيها الموظفون بانخفاض في الأمان الوظيفي والرضا الوظيفي، وهي المؤسسات الفردية التي يزيد عددها على 600 ألف في السعودية، وهي بالمناسبة أكثر الجهات معاناة من انخفاض نسب التوطين، لعدم قدرتها على جذب الشباب السعوديين وتوفير بيئة عمل ''تنافسية'' تعزز شعورهم بالأمان والرضا الوظيفيين، كما أن شعور العاملين بعدم الأمان والرضا ينعكس سلبا على مستوى خدماتها للعملاء!
كانت تلك ''المصفوفة'' التي أبتكرتها، ولم يعكر صفوها سوى خبر اعتماد اللائحة الموحدة مطلع العام القادم، ما سيدفع بموظفي الهيئات والمؤسسات العامة إلى النزوح من الربع (1) إلى الربع (2)، ليصبح حالهم حال موظفي الوزارات. ورغم أن وزارة الخدمة المدنية بشرت بمزايا لتلك اللائحة (الخضوع لنظامي الخدمة المدنية والتقاعد المدني، ومساواة موظفي الهيئات والمؤسسات بالوزارات من حيث عدد ساعات العمل الرسمي والإضافي وسلم الرواتب)، إلا أن اللائحة تلقى معارضة من قبل موظفي الهيئات والمؤسسات العامة الذين كانوا يحظون بلوائح وسلالم رواتب خاصة بهم، ويرون أن اللائحة الوشيكة تمثل بترا وإجحافا لحقوقهم ستؤدي إلى القضاء على روح العمل التنافسي في جهات عملهم.

ولذلك، أمامنا ثلاثة سيناريوهات لـ ''الهجرة'': إما الاستماتة والبقاء في الربع (1) أي أن بعض موظفي الهيئات والمؤسسات - حتى لو خرج منها - سيظل في ذلك الربع عن طريق الانتقال إلى الشركات المملوكة للحكومة.. أو انتقال البعض إلى الربع (3) والعمل في الشركات لمواصلة الخدمة في ظل نظام التأمينات الاجتماعية..أو تفضيل البعض التقاعد المبكر من نظام التأمينات الاجتماعية قبل إخضاع الهيئات والمؤسسات العامة لنظام التقاعد المدني.

حين أفكر في هذه ''الهجرة الجماعية'' أتحسر على سنوات البناء التي استغرقتها الحكومة لتأسيس أجهزة تتمتع بالمرونة الإدارية والمالية نجحت في استقطاب كفاءات وطنية، وفجأة تأتي لائحة لتنفرهم وتسبب الإحباط لهم. ترى .. هل كان صائغوها يفكرون في مدى شعور الموظفين بالأمان والرضا؟ أخشى أن يؤدي تطبيق ''اللائحة الموحدة'' إلى تحول الهيئات والمؤسسات العامة ذات الأداء العالي إلى ''نسخ مصغرة'' من الوزارات.. بيئات عمل بيروقراطية لا يهمها الموظفون ولا العملاء!