لعقود طويلة من الزمن والإنسان يعتقد أن تطوره وارتقاء حياته وتحقيق سعادته مرهون فقط بالأمور المادية وبما يستطيع أن يراكمه من أموال وثروات, وبهذا الفهم ونتيجة هذا الاعتقاد كان للنظام الرأسمالي كل هذا النجاح في بناء حضارة اليوم وما أنتجته لنا من ترف اقتصادي وازدهار في وسائل الحياة.

فكل شيء وظفه الإنسان من أجل المال ولتكثير ما عنده من أموال, فالعلوم المادية من بين كل العلوم الأخرى هي التي يجب أن يهتم بها, والأخلاق تتغير بتغير مصالحه المادية والسياسة صارت وسيلته للاستقواء على الآخرين وأخذ ما عندهم ليزيد ما عنده, والبيئة في نظره فقط مخزون هائل من الموارد يمده بما يريد لتحقيق رغباته, ومستودع لا يضيق بما يلفظه من مخلفاته.

هذه النظرة أدت إلى أن يغتر الإنسان بما حققه من نجاحات مادية وصار لا يرى لرغباته من سقف ولا لأطماعه من نهاية, فأصبحت عقيدته أن النمو بلا حدود وأن فهمه المادي لرأس المال هو سر كل هذا الوجود. وما إن انهزمت الاشتراكية وانهارت النظم السياسية التي تؤمن بها وتخلت عنها الشعوب بعد أن رفع الظلم عنها سارع دعاة الرأسمالية بالإعلان عن نهاية التاريخ بنهاية المعركة بفوز الرأسمالية, وأنه النظام الذي سيبقى مع الإنسان إلى أبد الآبدين.

ولكن سرعان ما اكتشفت الرأسمالية أنها هي الأخرى سينتهي بها المطاف إلى الزوال إن لم تراجع نفسها وتعدل من فكرها وتصحح الكثير والكثير من معتقداتها. فليس هناك نمو بلا حدود وإنما هناك إمكانية لتنمية مستدامة بشرط أن يوظف الإنسان كل نفسه, عقله وفكره وروحه ونفسه وبدنه, وأن يحترم الآخرين, كل الآخرين, الإنسان الآخر والنبات والحيوان والجماد وكل ما تحويه البيئة الطبيعية, فوقه وتحته وجنبه وحوله, من كائنات حية وغير حية. فلقد أدرك الإنسان, نخبته المفكرة على الأقل, أن التنمية الحقيقية هي التي تبدأ بتنمية الإنسان لنفسه ولا تستديم هذه التنمية إلا أن تكون تنمية شاملة وعادلة.

فالتنمية الشاملة والمستدامة هي التي فرضت على الإنسان, الإنسان المشغول بتنظيم حاضره وصناعة مستقبله, أن يعدد من فهمه لرأس المال, ففي عقله رأسمال وفي روحه رأسمال وفي نفسه رأسمال وفي بدنه رأسمال وفي علاقاته مع الآخرين رأسمال وفي بيئته الطبيعية رأسمال وحتى في أحلامه وخيالاته رأسمال.

وما إن اكتشف ما لرأسماله العقلي والفكري من طاقة وإمكانات هائلة حتى اندفع يستثمر ما عنده من أموال من أجل تنمية قدراته العقلية والفكرية. فصار همه أن يزيد ما عنده من عقول, وأن يضاعف ما عنده من أفكار, فصارت عنده المدارس والجامعات أهم من المصانع, وأصبحت عنده الملكية الفكرية هي الملكية التي تستحق الدفاع عنها والتضحية من أجلها.

وعندما نظر الإنسان إلى روحه وإلى ما تحويه من طاقة لا يرى لها من حدود ولا لمددها من نهاية, ولكن اكتشف أن هذه الطاقة لا تنفجر بين يدي الإنسان إلا بعودته إلى الدين والإيمان والتقرب إلى الله, وهذا يفسر لنا الإقبال المتزايد عند الشعوب المتقدمة على الروحانيات ودعوة الكثير من مفكريهم إلى تلمس الطريق نحو الله.

وهذه العودة إلى الدين هي التي جعلت البعض من مفكريهم يتنبأ بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن الدين. ولما التفتوا إلى الإنسان نفسه ووجدوا ما في داخلها من قدرات رهيبة يستطيع بها الإنسان أن يتحدى الزمن وكل الظروف والمعوقات التي تعترض طريقه, ولكن هذه القدرات لا تقاد ولا تستسلم لمن يريد الانتفاع بها إلا باحترام الإنسان لنفسه واحترام الآخرين له, فالاهتمام بثقافة حقوق الإنسان والتأكيد على تشريع القوانين لحمايتها وأنسنة الإدارة كلها قضايا تأتي في إطار كسب هذا الإنسان ليتيح لعقله وفكره أن يبدع ولعمله أن ينتج.

وبفضل الدروس التي تعلمها الإنسان من بيئته الطبيعية وببركة المشكلات والصعوبات التي واجهها الإنسان عندما تعامل معها بأنانية وعدم احترام سننها وقوانينها, أدرك الإنسان ألا تنمية له ولا تطور لحياته بل إن الدمار قد يلحق بكل ما حصل عليه من إنجازات إذا لم يعد إلى أحضان بيئته الطبيعية وألا يحملها أكثر من طاقتها, وأن يهتم بسلامتها وسلامة من يشاركه الحياة فيها.


أما رأس المال الاجتماعي, أو ما قد يسميه البعض رأس المال الأخلاقي فيتمثل في قدرة المجتمع على الارتقاء بنفسه وبتكامل جهود أبنائه وتلاقي عطاء أفراده. لقد أدرك الإنسان أنه كلما استطاع المجتمع أن يراكم من الأخلاق والعدالة والشفافية والتنظيم واحترام الآخر والتعامل والتكافل, فإنه الأقدر على التغلب على مشكلاته, وهو الأكثر حظا في التفوق على غيره من المجتمعات.

فالتبرع بالأموال لأعمال الخير ودعم المؤسسات والجهات التي تتلمس حاجات المجتمع والتطوع بالوقت والجهد للمشاركة في بناء المجتمع هي اليوم أسرع الصناعات نموا وازدهارا في العالم. فذاك بيل جيت يتبرع بأكثر من 30 مليار دولار للقيام بأعمال خيرية في الصحة والتعليم والتدريب ومن ثم يتبرع بنفسه لدعم هذه الأعمال الخيرية ويقرر طواعية التخلي عن مهامه الإدارية لشركته العملاقة ليسخر نفسه وماله ووقته وفكره وعقله لخدمة مجتمعه, وسرعان ما تتكرر نسخة بيل جيت ونرى وارن بوفيه وهلتون وغيرهما في الغرب والشرق يعلنوها بصراحة وفي حياتهم وبكامل سعادتهم بأنهم يعيدون للمجتمع كل ما يملكون من أموال وما جمعوه من ثروات. حتى جامعاتهم اليوم تدرس طلابها وتعمل وتنشط في بحوثها وتصنع العقول المبدعة والمفكرة, وكل ذلك بفضل ما تحصل عليه من تبرعات.

فأوقاف جامعة هارفارد وحدها, التي تبرع لها المجتمع, هي اليوم تقدر بأكثر من 30 مليار دولار, وليست هارفارد وحدها ولكن كل الجامعات الأمريكية مثلها وإن تفاوتت فيما تحصل عليه من تبرعات مادية وعينية. فجامعة تكساس عندها من الأوقاف ما يصل إلى أكثر من عشرة مليارات دولار, ولا يمر أسبوع على جامعة فلوريدا من دون أن نسمع بتبرع أحد المحسنين بمليون دولار أو أكثر أو أقل لدعم نشاط من أنشطتها التعليمية أو البحثية, فهذا يتبرع بخمسة ملايين دولار لدعم بحوث طبية وذاك يتبرع بنصف مليون دولار لدعم بحوث في تدريس وتعليم العلوم والحساب للأطفال وآخر يتبرع ببناء أحد مرافق الجامعة بـ 22 مليون دولار.

فالسؤال المطروح علينا هو: كيف نستطيع أن ننمي رأسمالنا الاجتماعي؟ وهل في ثقافتنا ما يعوقنا في هذا المجال؟ لا شك أننا أكثر من غيرنا حاجة إلى تنمية هذا النوع من رأس المال, لأن حاجتنا ومقدار النقص عندنا لا يسده إلا نحن كمجتمع وبجميع أطيافنا وبكل جهودنا ولكن ما يمنعنا عن ذلك هو الثقافة, والثقافة لا غير.

فالمفهوم الضيق للخير عندنا هو الذي يجعلنا لا نفكر إلا في بناء مساجد ولا نرى في بناء المدارس والمراكز الصحية ودعم الجامعات على أنها أعمال خيرية لا يقل ثوابها عن بناء المساجد. وسنبقى فقراء وليس عندنا ما يملأ جيوبنا من رأسمالنا الاجتماعي ونحن نعيش هذا الاستقطاب الاجتماعي والمذهبي والطائفي والمناطقي والقبلي, فما دام الواحد منا يعيش في حالة اختلاف دائم مع الآخر بحجج فكرية او مذهبية أو تاريخية, فكيف لنا أن نفكر في الخير لهذا الآخر المختلف عنا وغير المرغوب منا؟ فهذا الاستقطاب المركب عندنا هو الذي جعلنا نضيق من دائرة الخير في مجتمعنا.

وكيف لجامعاتنا أن تنتظر منا الخير والدعم ونحن نقدس الخرافات ونتعلق بالأوهام ونستميت في الدفاع عن عادات بالية وأعراف وتقاليد أكل عليها الزمن وشرب.

صحيح أن حب الخير والدافع للقيام بالأعمال الخيرية هو مكون رئيس في فطرة الإنسان, وصحيح أيضا أن ديننا ومعتقداتنا فيها الكثير والكثير مما يحثنا على التجرد من ذواتنا والتفكير في هموم وحاجات غيرنا, إلا أننا بثقافتنا حجبنا هذا النور الداخلي من أن يشع على حياتنا.

فلنمزق هذه الحجب الثقافية التي أماتت الحب في نفوسنا, ولنزيح هذه الأفكار والأوهام التي ما فتئت تؤجج مشاعر الكراهية والبغضاء للآخر في نفوسنا. لن يكون عندنا رأسمال اجتماعي نعتد به لتطوير حالنا والارتقاء بأوضاعنا ونحن نعيش في أزمة مع أنفسنا وفي حالة عداء مع واقعنا وفي علاقة خصام مع من يختلف عنا.

كيف يتسنى لنا أن ننشئ جيلا يحب الخير لمجتمعه ويجتهد في التطوع لخدمته ونحن لا نحبب إليه هذا المجتمع ولا نقدمه له إلا بعد أن نختصره في الثلة أو المجموعة التي لا ترى إلا برأينا ولا تأخذ إلا بتفسيرنا, فمن خالفنا فهو واهم, ومن احتج علينا وتمسك برأيه فهو كافر, ومن توقف عند رأينا فهو مشكوك في عقيدته. فإذا كان رأس المال المادي مصدره خارج الإنسان, فالأرض وما تحويها من ثروات هي مصدر هذا النوع من رأس المال, وأما رأس المال الفكري فمصدره عقل الإنسان وفكره, وأما رأس المال الاجتماعي فمصدره قلب الإنسان, وإذا لم نستطع أن نعمر قلوبنا بالحب لغيرنا وأن نقتلع مشاعر الكراهية لمن يخالفنا من أنفسنا فسنبقى فقراء في رأسمالنا الاجتماعي, فحب الآخر هو طريقنا لذلك, والعيش في تآلف مع من يخالفنا هو وسيلتنا لتحريك هذا الحب للخير في نفوسنا, وغير ذلك سيبقى الفقر ملازمنا وسنبقى دون غيرنا في تطوير مجتمعاتنا.

وفي أمريكا والدول الغربية والكثير من الدول التي عندها نظام ضرائبي فإن هذا النظام يتيح الفرصة للفرد أن يقتطع نسبة قد تصل إلى 10% من الضريبة المقررة عليه للتبرع بها للجمعيات الخيرية أو تقديمها دعما للمؤسسات الاجتماعية والتعليمية المعتمدة في المجتمع, ونحن ليس عندنا ضرائب ولكننا نستطيع أن نؤسس لثقافة التبرع والتطوع في دعم الأعمال الخيرية, وذلك من خلال الإتاحة للفرد أن يقتطع جزءا من الرسوم المقررة عليه للتبرع بها في هذا المجال, بعد أن نحدد الصناديق الوقفية التي نحن في حاجة إليها, فاقتطاع نسبة بسيطة من بعض الرسوم والتبرع بها لخدمة المجتمع له مردود كبير على الفرد والمجتمع, وإن كثيرا من هؤلاء الأفراد سوف لا يكتفون بهذه النسبة بل قد نراهم يزيدون عليها من عندهم, وفي هذا تدريب للنفس على التبرع وتخفيف من الثقل النفسي للرسوم عليهم. هذه مجرد فكرة, ولعل القراء عندهم أفكار أخرى, ولكن يبقى أيضا من المهم التأكيد على حسن توظيف عوائدها في المجالات الأكثر نفعا لنا ولمجتمعنا.

نقلا عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية.