الفن أحد المواهب التي يتميز بها الإنسان، و هو مهارة ينفرد بها مثل الكلام و التفكير و حرية الاختيار، فهو المخلوق الوحيد الذي يتكلم و يفكر و يبدع.

و الفن هو تجلي أحكام الأسماء الحسنى الإلهية (( الخالق و البديع و الحكيم و العليم )) في النفس الإنسانية التي جعلها الله بحكم كرمه قابلة لعطاء الحكمة و العلم و الخلق و الإبداع.. فكما تجلى (( السميع )) في سمع الإنسان، و (( البصير )) في بصره.. كذلك تجلى (( البديع )) في إبداعه.. و تجلى (( الخالق )) فيما يخلق الإنسان من فنون، فالفنون كلها مهارات طبيعية نولد بها.. و هي بعض عطايا الله و نعمه.

و لكن الإنسان الذي ولد حرا و مختارا و خطاء و متمردا لم يوظف تلك المهارة دائما في الخير، و إنما انحرف بها أحيانا إلى الهوى و الغرض و الغواية، و إلى مجرد جلب الشهرة و الجاه و التأثير.. أحيانا بالنفع، و أحيانا بالضرر في الآخرين.

فالفن الذي يربي العواطف رأيناه في أكثر أفلام السينما يلعب بالعواطف و يلهو بالعقول، و الشعر الذي يسمو بالوجدان رأيناه في أكثر الأغاني يهبط بالوجدان و يسفل بالمشاعر، و الموسيقى التي ترتفع بنا إلى آفاق الجمال و التأمل رأيناها تهبط بنا إلى الترقيص و حركات النسانيس..! و قل أكثر من هذا في هزليات المسارح، و في الحوار البذيء و في المشاهد المسفة.. و في عروض أقرب إلى الأفعال الفاضحة في الطريق العام !

و لأن الفن يدخل إلينا الآن خلسة من تحت الباب في الصحيفة اليومية و الكتاب، و يتسلل إلينا في غرفات النوم في التليفزيون و الكاسيت.. فقد تحول إلى وسيلة جهنمية في تشكيل الأجيال و في تربيتها أو إتلافها و غسل مخها.
و بهذا أصبح الفنان قادرا على أن يقتل و أن يضيع و أن يميت أمة، كما أنه قادر على أن يحييها و يبعثها.

و لأن الفن سلاح قاتل، فلا يصح أن يكون حرا حرية مطلقة و حرية الفنان و حرية الفن دعاوى غير صحيحة، فالفنان حر مسئول محاسب، و كحامل أي سلاح يمكن أن تسحب منه رخصة استعماله إذا أساء هذا الاستعمال.

و إذا كان الفنان يطالبنا بأن نحميه، فالجمهور القارئ و المشاهد – و هم بالملايين – لهم هم الآخرون حق الحماية من الإسفاف الذي يعرض عليهم.

و كلمة فنان لا تعني العصمة من المساءلة، و لا تعني الحصانة، بل على العكس تعني المسئولية.. و محكمة النقد و سيف الرقابة حماية ضرورية للمواطنين.

و التليفزيون في حاجة إلى مجلس حكماء يمنع هذا السيل الهابط من الأفلام و العروض المبتذلة و الأغاني الساقطة و الحوار المسف و الرقص البذيء.

و ليس هذا كلاما في الدين.. و إنما في أوليات علم الاجتماع.
أما الفنان الذي يسألني: هل ما أفعله حلال أم حرام؟
فأقول له: أنا لا أفتيك.. و لكن يفتيك قلبك.
اسأل نفسك: هل ما تفعله نافع و مفيد للناس ؟ أم تراه ضارا بهم ؟!
و ستعرف أين أنت.

و لا مانع من أن يكسب الفنان و يزداد غنى، و لكن من طريق يجعل مشاهديه و قراءه يكسبون هم الآخرون و يزدادون به ثراء و غنى.
أما الفنان الذي يهبط بقرائه و ينزل بمشاهديه، فإن ما يأخذه من مال لا يدخل في باب الكسب.. لكن في باب النشل !

و الذي يسأل: هل هناك فن رديء ؟.. و كيف يمكن أن يسمى فنا برغم رداءته ؟.. أقول: بل هو فن.. و لا يمتنع على الفن أن يكون رديئا.. لأن الفن مهارة و موهبة، و الموهبة يمكن أن يوظفها صاحبها في الخير و يمكن أن يوظفها في الشر.. و هي كالقوة العضلية و كحدة البصر و حدة السمع و سرعة البديهة و الذكاء.. و كلها مواهب أحيانا توظف للخير و أحيانا للجريمة.

و الفنان يمكن أن يكون شريرا، فيعبر عن شره في فنه.. و من الأعمال الفنية العلمية ما يقطر تشاؤما، و منها ما يسيل حقدا، و منها ما ينبض بالعدوانية، و منها ما يحض على الفوضى، و منها ما يدعو إلى المادية و الإلحاد و الرفض و العدمية.. و أصحاب هذه الأعمال فنانون عالميون من حملة النياشين و الجوائز.. و لهم جاه و شهرة و جمهور.. و لهم يخوت و قصور.

و لكن هذا الفن السالب يدخل عند الله في باب الذنب.. و إن كان في ناموس الدنيا يدخل في باب الحسنات و يدخل أصحابه في باب العظماء !
و مقاييس الدنيا تخطئ أحيانا، و هي تتغير دائما و في جميع الأحوال.. فكم من ملايين المشيعين ساروا يبكون خلف جنازة ستالين..! و كم كتابا مجده و كم مقالة عظمته ! و كم تمثالا ارتفع له ! و كم عملة ذهبية صكت باسمه !
ثم تغيرت المقاييس، فأصبح الممجد ملعونا، و المعظم مطرودا ! و لا ندري ماذا يجري غدا في العالم الذي يتغير فيه كل شيء !

و ما يجري في بورصة العظمة الفنية أعجب !
بالأمس بيعت لوحة للفنان فان جوخ بأربعين مليون دولار.. و في حياته كان يحاول أن يبيعها برغيفين فلا يجد مشتريا !
و بيكاسو مات في قمة مجد فني، و لا ندري بعد مائة سنة ماذا يقول الفنانون أنفسهم في تراثه الفني !
أغلب الظن أن معظم أعماله سوف تدخل في باب العبث و التجارب العبثية.

و يظل هناك مقياس لا يخطئ و لا يخيب لكل أعمال الإنسان – فنية كانت أو فكرية أو فلسفية أو سياسية أو اجتماعية – هو المقياس الذي جاء به القرآن.
(( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.. (17) )) [ الرعد ]
فالفن الخير البناء هو الذي سيبقى لصاحبه، و هو الذي سيغدو له حسنة في الدنيا و حسنة في الآخرة.
أما الفن الضار و الهدام و الهابط، فهو الخسارة و البوار، مهما جلب لصاحبه من ثراء و مال و مجد دنيوي، و مهما حمل له في قبره من جوائز و أوسمة و نياشين.

و كم من فنون هي في النهاية مجرد لهو و قتل للوقت و مضيعة للعمر !
و كم من أشعار عظيمة السبك و هي مع ذلك غزل في المذكر، أو مدح لحاكم، أو هجاء موتور، أو زهو مغرور، أو تأله فارغ !
و هي فن متألق، و كلمات تخلب اللب.. و لكنها في الآخرة أوزار يتمنى صاحبها لو لم ينطق بها، و وصمة يتمنى لو يبرأ منها !




المصدر: كتاب (( تأملات في دنيا الله ))
للدكتور مصطفى محمود