[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]



في فيلم "تنحى بعيدًا" سقطت الطائرة التي يستقلها البطل "توم هانكس" في المحيط فوجد نفسه في جزيرة نائية، وبعد صراع دام 4 سنوات مع الطبيعة والبحر والمرض والجوع نجا البطل بنفسه وعاد إلى العالم، معتقدًا أن السعادة بانتظاره. لكنه وجد نفسه على مفترق طرق، وكان عليه أن يعيد النظر في مسلماته وفي أولويات حياته ليختار وجهته من جديد. وسيحدث هذا لعمال المنجم في "تشيلي" بعدما عادوا إلى السطح وعادت لهم الحياة.



شاهدنا العمال يخرجون إلى الأضواء، والرئيس "سباستيان بينيرا" في انتظارهم، ومعه ألف صحفي ومصور، ومليار مشاهد حول العالم يرقبون لحظات الخروج العظيم. وهذا ما حدث أيضًا لـ"توم هانكس" الذي عاد من الجزيرة إلى المدينة ليجد نفسه في صراع أشد ضراوة من صراعه مع الوحدة والجوع.



أجمل ما في الصراع وقصص النجاة، هي الرحلة نفسها، وما يكتنفها من معاناة وإبداع ينتصر فيه الإنسان على نفسه وعلى ضعفه. وعندما تنتهي الرحلة وتخفت الأضواء، يعود الإنسان ليواجه مصيره ويمعن النظر في واقعه، مستعيدًا وعيه؛ محاولاً البحث عن معنى جديد.



أرسلت شركة "أوكلي" 33 نظارة شمسية للعمال، ونصحهم الأطباء أن يضعوا النظارات لعدة أيام حتى لا تعمى أبصارهم بعدما عاشوا في الظلام. ولكن للنظارات قيمة أعظم من مجرد الوقاية. فمن المهم ألا يتخلى العمال عن نظرتهم السوداء للواقع بسرعة، حتى لا تصدمهم نشوة النجاة وبريق الحياة ويفقدوا توازنهم بنفس السرعة التي صعدوا فيها من القاع إلى السطح.



صرح رئيس "تشيلي" بأن دولته أصبحت أكثر تماسكًا وشفافية وديمقراطية بعد نجاح العملية التي أثبتت أن الحكومات قادرة على صناعة المعجزات إذا ما أرادت. لكن شعب "تشيلي" يعيش في فقر مدقع منذ قرون، حتى أن روائيًا تشيليًا يدعى "بالدوميرو ليلو" نشر قبل قرن رواية بعنوان "نفق الشيطان" تروي قصة عمال انهار عليهم المنجم وعاشوا مأساة إنسانية رهيبة، وكأنه كان يقرأ المستقبل البعيد.



انتهى فصل من حياة هؤلاء العمال، لكن الرواية لم تنته. ويقال إن العملية نجحت بسبب الإبداع الهندسي وتقنيات الاتصال والتمسك بالحياة وقوة شكيمة العمال المحاصرين، وبسبب الحظ أيضًا. وهنا يتم التركيز على آليات ومجريات عملية الإنقاذ، ونسيان الظروف والفقر الذي دفع بالعمال إلى الحياة والمعاناة في باطن الأرض؛ لأن المهم هو كيف نمنع تكرار هذه المأساة التي تطال آلاف العمال حول العالم كل عام!



يؤدي تركيز الدول والشركات على تحقيق الأرباح على المدى القصير إلى تدمير البيئة وتشويه الحياة وانتهاك روح الإنسان؛ فالعالم يسير منذ القرن الماضي وحتى اليوم نحو التعمية لا نحو التنمية، وكأنه لا يرى الواقع إلا عبر نظارته السوداء.

نسيم الصمادي