أخذ مفهوم التنمية جوانب عدة، فهناك التنمية الإدارية، وهناك التنمية الاقتصادية، وهناك التنمية المستدامة، ولا نريد أن ندخل في الأدبيات المتباينة والتعاريف المختلفة لمصطلح التنمية وكيف يختلف مصطلح التنمية عن المصطلحات المتقاربة كالنمو مثلا، فهذه موضوعات علمية صلبة قد لا تفيدنا كثيرا. لكننا نريد أن نبسط الأمر ونسلط الضوء على المعنى الحقيقي للتنمية، الذي نراه غائبا أو مغيبا بعض الشيء عن مخططي التنمية ومنظري الاقتصاد في بعض الدول.

عندما أردت أن أبحث عن تعريف بسيط ومفهوم ومفيد وسهل القياس للتنمية لفت نظري تعريف الدكتور جاسم سلطان في كتابه ''خطواتك الأولى نحو فهم الاقتصاد''، فقد قام بإعادة صياغة تعريف التنمية من وجهة نظر اقتصادية بشكل بسيط يمكن أنه يفهمه الدخيل على العلم. وقبل أن ندخل في الموضوع أريد أن أقف قليلا عند هذا الكتاب الذي لا يتعدى عدد صفحاته 99 ورقة من الحجم الصغير، لكنه كبير في محتواه، بسيط في عرضه، شائق في مضمونه، رخيص في ثمنه، غني بما فيه، وأنصح من يرغب في معرفة المصطلحات الاقتصادية المعقدة أن يقتنيه. وسنستعين في هذا المقال بكثير من مفاهيم هذا الكتيب لتوضيح الجانب النظري من عرضنا لموضوع التنمية.

عندما يقال عن مجتمع إنه يشهد حالة من التنمية فإن أفراده يسألون عن العائد عليهم كأفراد، فلا تعني لهم الأرقام المبهرة للتنمية شيئا مذكورا إن تفشت في مجتمعهم البطالة، أو زاد بينهم الفقر، أو كان دخل بعض الأفراد لا يمكنه من شراء أساسياته من طعام وشراب وملبس ومسكن ورعاية صحية جيدة تليق بآدميته وتعليم راق يستفيد منه، إضافة إلى توافر الكماليات التي بها يحس المواطن للحياة طعما آخر. عندما يترقب الناس في أي دولة صدور ميزانية بلدهم يحدوهم الأمل في أن تحمل في ثناياها زيادة لدخولهم حتى تعينهم على التخلص من ديونهم والاستمتاع بحياتهم فتتغير نظرتهم لأنفسهم من مجرد أناس ينامون ويستيقظون ويأكلون ويشربون ويتكاثرون، إلى مجتمع منتج يسهم في بناء بلده ولا يقبل المساومة عليه. عندما تجتاح البلاد الحروب وتنزل بها الكوارث يتخلى عنها كل متملق، ويهرب منها كل مسترزق، ويهاجر منها كل مستثمر، ويبقى المواطن صاحب الأرض صابرا صبورا حتى تنكشف الغُمة وقد يفقد نفسه أو أحد أبنائه .. فأين يذهب وهذا وطنه؟ وأين يهرب وذلك قدره؟ وأين يهاجر وهنا مكتسباته؟ إنها المواطنة الحقيقية الصادقة التي تستحق الإكرام وقت السلم والأمان والرفاهية، فالكل سيتخلى عن الوطن وقت الحروب والنوازل - الكل لن يبقى أحد - إلا المواطن يمكث بصدقه وحبه ووفائه.

وهذا يقودنا إلى المعنى الحقيقي للتنمية، فقد عرّف بعض الاقتصاديين التنمية بأنها ''زيادة الدخل الحقيقي للفرد''، فالتنمية الحقيقية تركز على الفرد وتجعل منه المحور والمحرك الحقيقي لها. عندما يزيد دخل الفرد فإنه سيتخلص من الديون فتتغير حياته من مجرد كونه عددا بين هذه الجموع إلى مورد منتج فاعل فستستقر حياته، ويطمئن قلبه، ويزيد ولاؤه، ويكثر خيره، ويضمحل شره، ويتفاخر بانتمائه.

عندما نضع ''معدل دخل الفرد'' المقياس الحقيقي للتنمية فإنه يسهل قياس تطور الدولة ورفاهيتها وحضارتها. وأدركت هذه الحقيقة أغلبية دول أوروبا الغربية فاحتكرت تقديم الخدمات الأساسية مباشرة ومجانية وببذخ لمواطنيها، ووصلت يد الدولة الرؤوم إلى عابري السبيل من المهاجرين ومن في حكمهم، ولا تسمح حتى للقطاع الخاص بأن يعبث بحقوق المواطنين كما نراه في بعض البلدان، ولا يهمها أيطلق عليها القارة العجوز أو الرأسمالية المقيدة أو الاشتراكية أو غيرها من المفاهيم التي أكل عليها الزمان وشرب، لأنها ترى أن التنمية تقاس بمدى ما تقدمه الدولة لمواطنيها من رفاهية. بل إن بعض الاقتصاديين يرون أن زيادة دخل الفرد قد تزيد من الناتج القومي للدولة.

والآن دعونا نضع المفهوم الحقيقي للتنمية وهو ''زيادة معدل دخل الفرد''، دعونا نضعه تحت المجهر ونفصل فيه أكثر حتى نعرف بالضبط أين نحن وفقا لهذا التعريف. وكي نجيب عن هذا يتعين علينا أولا أن نتعرف على شروط تحقيق التنمية، التي اختصرها الاقتصاديون في نقاط عدة نذكر منها ما يهم الموضوع، وهي:

1 ـ يجب زيادة الإنتاج الذي سيؤدي إلى زيادة الناتج القومي، وهذا يتطلب إعداد موارد بشرية مدربة تدريبا جديا علميا ومهاريا وتقنيا.

2 ـ السعي نحو تحقيق الأمن والاستقرار فكلما زاد الأمن والاستقرار زادت فرص تحقيق التنمية وإمكاناتها.

3 ـ تنمية وعي الشعوب بأهمية المساهمة في التنمية، فالتنمية الحقيقية لا تتعلق بالحكومة فحسب، بل الشعوب أيضا، ولن تتحقق أي تنمية دون أن تكون هناك شراكة حميمية بين الدولة والمواطنين.

4 ـ عندما تتحقق شروط التنمية بالكامل فإن هذا سيزيد من دخل الدولة، وبهذا يجب أن يكون للمواطن نصيب من كل هذا، ويجب أن يزيد دخله بطريقة تراكمية مستمرة وليست موسمية أو لمدة محدودة أو لمعالجة ظاهرة أو لتخميد فتنة قائمة، بل زيادة مستمرة تقيم بين الفترة والأخرى لأنه هو أساس التنمية والمنتج الحقيقي لها.

5 ـ وهناك آليات متعددة لزيادة دخل الفرد من ضمنها توافر الخدمات المجانية للفرد وبصورة تليق بآدميته دون تفضل.

وبعد هذا العرض النظري لمفهوم التنمية الحقيقية وشروط تحقيقها نريد أن نعرف أين نحن من كل هذا؟ نريد أن نسرح بأفكارنا ونقيم مسيرة التنمية في بلادنا وفقا للمفهوم الحقيقي للتنمية والشروط المرافقة لها، ولن يفيدنا في هذا سوى المواطن نفسه.

* نقلا عن "الاقتصادية" السعودية