تمثل هذه الأيام, أيام حصاد وجني ثمار لسنوات من العناء والمشقة والعمل الجاد, الذي بذله ويبذله الطلاب في سنوات الدراسة, ومع الطلاب يحمل أولياء الأمور الهم أيضاً, إذ إن الجميع يتطلع إلى نتائج مشرفة, فالجميع يتطلع إلى النجاح وإلى نسب عالية تمكنهم من القبول في الجامعات, وتمكنهم من اختيار التخصصات التي يرغبون فيها وتحتاج إليها سوق العمل. وكم هو مبهج أن تفتح صحيفة وتقرأ خبر تخرج شاب بدرجة علمية عالية وفي تخصص تحتاج إليه سوق العمل,
والبهجة تزيد حين ترى خبر تخرج دفعة جديدة في جامعات الوطن المعطاء. خلال الفترة الماضية زفت إلينا جامعاتنا أفواجاً من الخريجين في جميع المجالات, فجامعة الملك سعود أقامت حفل تخريجها للدفعة السادسة والأربعين, وزفت من خلال هذه الدفعة, أربعة آلاف خريج وخريجة, كما أن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن, قدمت هي الأخرى الدفعة السابعة والثلاثين من الخريجين, وجامعة الملك فيصل خرجت دفعتها الثامنة والعشرين, هذه الأعداد مضافة إلى الأعداد المتخرجة في جامعات المملكة الأخرى تمثل مخرجات تضاف لما سبقها من مخرجات, كان لها دور في مشوار التنمية الذي مرت به المملكة خلال هذه العقود, وأسهمت في نقل البلاد من بلد معتمد اعتماداً كلياً على الكفاءات الأجنبية إلى بلد بدأ يكتفي بأبنائه في بعض المجالات, ولا نقول كل المجالات, لكن المسيرة مستمرة, والهدف واضح ومحدد للوصول إلى ما يشبه الاكتفاء التام ولا نقول الاكتفاء التام، لأن المعرفة متجددة والخبرات تتنوع وتتطور, وهذا يستدعي الاستفادة مما لدى الآخرين في أي مجال برزوا فيه وتأخرنا عنهم فيه, ولنا مبرر قوي ولا لبس فيه من الدين, إذ إن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها. وحتى لا ننغمس في نشوة كثرة الأعداد المتخرجة لابد لنا أن نتساءل وبصراحة هدفها الأول والأخير خدمة الوطن: هل قومنا مخرجاتنا السابقة, ومناسبة هذه المخرجات في أعدادها ومجالات تخصصاتها لاحتياجات سوق العمل؟! ما نقرأه في الصحافة وما نسمعه في المجالس والمنتديات والندوات العلمية يؤكد أن جزءاً من هذه المخرجات لا حاجة لسوق العمل بها وذلك لاكتفاء السوق في بعض المجالات, وعدم حاجته إلى مخرجات جديدة. لقد قرأت على صفحات صحفنا الكثير من الشكاوى من أفراد مر عليهم سنوات بعد التخرج وهم يحلمون بالعمل, ولم يتركوا باباً منذ تخرجهم إلا وطرقوه بحثاً عن عمل شريف يساعدهم على مشوار حياتهم ويحفظ لهم ماء الوجه بدءاً من سؤال الأهل والأقارب، كما أن مخاوف صعوبة الحصول على وظيفة تجثم على صدور متخرجين جدد، حيث إن الصورة ليست واضحة بالنسبة لهم في شأن المستقبل الوظيفي وسرعة الحصول على عمل، أياً كانت طبيعته، وسواء اتفق مع التخصص أو لم يتفق، ونظراً لأن العلاقة بين سوق العمل ومخرجات مؤسسات التعليم العالي علاقة مهمة، لذا لابد من أن نسأل أنفسنا، ما سبب وجود أعداد كبيرة من خريجي الجامعات والكليات المتخصصة في المجالات الفنية لم توفق في الحصول على أعمال تتناسب مع تخصصاتهم؟ لو تأملنا في سوق العمل لوجدنا أنه مليء بالكفاءات الوافدة، وما من شك أن هذه الكفاءات الوافدة أسهمت في مسيرة التنمية وكان لها بصمات لا تنكر، لكن أبناء الوطن جاء دورهم لتسلم المهمة والقيام بالدور خاصة أنهم يحملون المؤهلات لهذا الدور. لو تأملنا في سوق العمل السعودي لوجدنا أن مجالات عدة يفترض أن تركز على الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، ومن بينها كليات ومعاهد التقنية، هذه المجالات هي الطب والعلوم الصحية، ومجال المال والاقتصاد، ومجال الهندسة والتقنية، ومجال البترول والبتروكيماويات، وميدان التعليم العام، هذه المجالات مليئة بالفرص الوظيفية، فالمدارس تفتح كل عام، والمستشفيات القائمة، عدا التي قد تفتح مستقبلاً وتحتاج إلى أعداد كبيرة من الأطباء، والصيادلة، والممرضين، وبقية التخصصات الصحية الأخرى. أما المدن الاقتصادية التي وضع خادم الحرمين الشريفين حجر الأساس لها أثناء زياراته المناطق، فهي أيضاً في حاجة إلى كفاءات عدة تديرها وتعمل فيها، وأما المجال الهندسي والتقني، فالأمر لا يحتاج إلى إبانة بشأن حاجة البلاد إلى كفاءات في هذا المجال. أما مجال البترول والبتروكيماويات فلا نحتاج للتذكير بحاجته الماسة إلى الكفاءات الوطنية المتخصصة فاقتصاد البلد يقوم على هذه الصناعات ويكفي أن نشير إلى شركات عملاقة مثل "أرامكو"، و"سابك" والشركات التابعة لها. لقد حزنت كثيراً حين قرأت معاناة شاب سعودي كتب معاناته في إحدى الصحف، حيث تخرج في جامعة الملك سعود في تخصص هندسة النفط بتقدير جيد، ومضى على تخرجه تسع سنوات دون أن يحصل على عمل طوال هذه الفترة، ومصدر الحزن يكمن في أن بلداًَ مثل بلدنا الصناعة النفطية تمثل أساس التنمية ومصدرها الرئيس ويوجد فيها شاب أراد أن يخدم بلاده في هذا المجال المهم ولم يتمكن من الحصول على عمل في مجاله، وهذا أمر غريب لم أجد ما يبرر مثل هذا الوضع. وحتى لا تتكرر أخطاء السنوات الماضية التي قبلت فيها الجامعات الطلاب في مجالات لا تحتاج إليها سوق العمل ما ترتب عليه زيادة العاطلين, والمتذمرين، لذا فإن الحاجة ماسة إلى مراجعة أنفسنا في الجامعات، ووضع آليات جديدة للقبول نتمكن خلالها من توجيه المقبولين قدر الإمكان حسب التخصصات المطلوبة في سوق العمل مع مراعاة قدرات الطلاب, وميولهم، التي لا شك أنها عامل أساس في نجاح مؤسسات التعليم العالي في تقديم مخرجات على مستوى عالٍ من المهارات, والمعرفة, والدراية في أداء الأعمال والمهمات الموكلة لهؤلاء الخريجين. إن توجيه المخرجات لخدمة سوق العمل سواء من حيث العدد, أو النوعية ينطلق من معرفة دقيقة بسوق العمل ومجالات العمل المتوافرة فيه, والمستويات المطلوبة من الكفاءات ونوع المهارات، وهذا لا يتحقق إلا بإيجاد علاقة وثيقة بين سوق العمل والجامعات، ولعله من المناسب الاستشهاد بإجراءات تقوم بها جامعة أوكلاند في نيوزيلندا، حيث قُدِّر لي أن أعمل دراسة حول إجراءات الجودة والاعتماد الأكاديمي المعمول بها في هذه الجامعة وتبيَّن لي من خلال هذه الدراسة أن مؤسسات المجتمع المدني في نيوزيلندا من تجار, وصناعيين, ورجال أعمال ممثلين في مجالس الأقسام, والكليات, وفي مجلس الجامعة، وفي اللجان ذات العلاقة بإقرار البرامج الأكاديمية، وذلك بهدف إبداء رأيهم في حاجة سوق العمل للبرنامج الأكاديمي ومدى قدرة البرنامج في تحقيق احتياجات سوق العمل، ويكفي أن نعلم أن إقرار البرامج الأكاديمية يتم من قبل لجنة وطنية عليا، وذلك تجنباً لازدواجية البرامج. ومن حرص جامعة أوكلاند على خدمة مجتمعها تقوم كل ستة أشهر بمسح وطني شامل لمعرفة ما إذا عمل خريجوها, وأين يعملون, وماذا يعملون, وذلك بهدف معرفة كفاية خريجيها وتلبيتها لاحتياجات سوق العمل نوعاً وعدداً. وحيث أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أثناء زيارته منطقة الحدود الشمالية عن قيام الجامعة العشرين في المملكة، لذا لا بد لنا أن نسأل هل جامعاتنا قادرة على تلمس احتياجات سوق العمل، وهل لديها القدرة على تلبية هذه الاحتياجات، أرجو أن تكون على مستوى التوقعات حتى لا تكون مخرجاتنا بعيدة كل البعد عن احتياجات سوق العمل كما, وكيفاً, ومن ثم تتحول هذه المخرجات إلى قنابل موقوتة تؤذي نفسها وتؤذي المجتمع. د. عبد الرحمن سليمان الطريري - كلية التربية ـ جامعة الملك سعود