أدت التطورات التقانية المتلاحقة في عالمي الصناعة والخدمات في جعل السياسات التربوية العربية التقليدية والمتمثلة في تخريج أفواج من المهنيين الفنيين والمهندسين الجامعيين الذين يلمون إلماماً عاماً بالمناهج الفنية والهندسية الأساسية، مع بعض المقاربة العملية الضعيفة للتجارب المخبرية، تضاف إليها في أفضل الأحوال زيارات اطلاعيه إلى بعض المؤسسات الصناعية، غير قادرة على التصدي المباشر للتحديات التقنية التي تواجهها الصناعات الحديثة الصغيرة منها والكبيرة. الأمر الذي وضع المؤسسات الصناعية والخدمية الناشئة في بلدنا أمام تحديات إعادة التأهيل والتدريب، التي هي أصلاً من غير وظيفتها الأساسية، فأصبحت العملية التأهيلية، عملية مكلفة وبأداء غير مضمون أو متكامل.
وثمة مفاهيم خاطئة لا تزال سائدة في عالمنا العربي اليوم، تتعلق بعدم حاجتنا أصلاً لطاقة بشرية عالية التأهيل والتدريب، لأن مثل تلك الطاقة، إنما يطلب في بيئة صناعية متطورة تطبق مفاهيم الأتمتة الصناعية حيث يتسم الواقع العربي ( في الدول غير النفطية ) بانخفاض كلفة اليد العاملة، وبالتالي فإن أتمتة أقل ستعني تشغيلاً لأعداد أكبر من العاملين وبكلفة أقل الشكل (2).
قد يبدو هذا الكلام صحيحاً بصورة سطحية، ولكنه ليس صحيحاً في إطار الواقع الفعلي للأمور، وللتطورات التكنولوجية المتلاحقة التي شهدتها الساحة العالمية، وللسرعة الكبيرة في انتشار نظام العولمة وزيادة أعداد الدول المنضمة إلى اتفاقية التجارة العالمية، حيث لم يبق من الدول العربية غير المنضمة، والتي قدمت طلب للانضمام إلى هذه الاتفاقية سوى سورية وثلاث أو أربع دول أخرى، وهذ يعني أن صناعتنا المحلية ستنافس صناعات الدول المتطورة نوعاً وكلفة، وأن مواردنا البشرية ستتنافس مع الخبرات البشرية العالمية. والخبير بالصناعة الإنتاجية أو الخدمية يعرف تماماً أنه لم يعد بمقدور أي أحد أن ينتج بتقانة تقليدية يدوية منتج ينافس منتج ينتج بتقانة مؤتمتة تصميماً وتصنيعاً لا من حيث الجودة ولا من حيث الكلفة، وليس بمقدور خبير بالممارسة أن ينافس خبير ماسك بزمام التقانة الحديثة من نظم معلوماتية وتنظيمية وإنتاجية وإدارية خبيرة وعالية الأداء.
أمام هذه التحديات لابد لنا من إعادة النظر، فيما نحن عليه ودراسة الواقع وتحليله وتحديد متطلبات المرحلة القادمة من الموارد البشرية، وصياغة أهداف واضحة واستراتيجيات واقعية طموحة في هذا المجال.