بيئة أو مكان العمل (Workplace)، من الجوانب والمقومات المهمة لنجاح مؤسسات ومنشآت العمل الحديثة، التي تحظى حاليا باهتمام عالمي متزايد، على اعتبار أن رضا العاملين في المؤسسة عن بيئة العمل، ينعكس على كفاءتهم وأدائهم، وبالتالي نجاح المؤسسة.
وتضم بيئة العمل، العديد من الجوانب والمعايير المطبقة في المنشأة أو المؤسسة، مثل أساليب وممارسات الإدارة والقيادة وتقييم الأداء، وبرامج التدريب والتطوير والسياسات المحفزة للنجاح، ودعم العمل الجماعي، والرواتب والأجور والحوافز والمكافآت والتقدير المادي والمعنوي، والعلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين، وأساليب غرس الانتماء بين الموظفين ومؤسسة العمل، ووسائل الترفيه والجوانب الاجتماعية للموظفين وأسرهم، إلى غير ذلك من معايير وعوامل جاذبة تسهم في سعادة ورضا الموظفين وشعورهم بالأمن والأمان الوظيفي، واجتذاب المزيد من الكفاءات والعناصر البشرية المتميزة للعمل بالمؤسسة.

ويعرف روبرت ليفيرنغ، المؤسس المشارك لمؤسسة «أفضل مكان للعمل»، ومؤلف 7 كتب عن قضايا بيئة العمل وعالم الشركات، أفضل بيئة عمل من خلال خلاصة مقابلات مع مئات الموظفين من 12 أفضل أماكن للعمل حول العالم بالقول إنها حيث تثق في الأفراد الذين تعمل لهم، وأن تفخر وتعتز بما تعمل، وأن تستمتع مع الأفراد الذين تعمل معهم.

ويذكر أن مؤسسة «أفضل مكان للعمل» (Great Place to Work Institute)، مقرها الرئيسي في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية، وهي مؤسسة للأبحاث والاستشارات العالمية، قام بتأسيسها عام 1992، كل من روبرت ليفيرنغ، مع الباحثة إيمي لايمان، وتقوم بتصنيف أفضل أماكن للعمل، في أكثر من 45 دولة حول العالم، كما تقدم المؤسسة مجموعة شاملة ومتكاملة من الخدمات الاستشارية والتجارية، وتتمثل رسالتها في تحسين حياة الأفراد وخلق مجتمعات أفضل، من خلال مساعدة الشركات لتطوير أماكن العمل، وذلك بتقديم أساليب منهجية بسيطة تقوم على البحث، يمكن استخدامها على نطاق واسع لفهم وتقييم المؤسسات. ويشكل استطلاع آراء الموظفين، مع تقييم سياسات الموارد البشرية للشركة، الأساس لخدمات المؤسسة الاستشارية والبحثية، وقد استخدمها عديد من شركات العالم لإيجاد ثقافات قوية لأماكن العمل، قائمة على علاقات الثقة.


وتعتقد المؤسسة أن أفضل أماكن للعمل، هي التي يشعر فيها الموظفون بالاحترام والاعتزاز ويثقون بأن الإدارة تلتزم بفعل الأشياء الصحيحة. وتتعاون المؤسسة مع العديد من الشركات الناجحة والمبتكرة حول العالم لخلق أفضل أماكن للعمل، حيث تعمل مع أكثر من 5500 مؤسسة، تمثل أكثر من 10 ملايين موظف، وتساعد هذه الشراكات في بناء الخبرات الفريدة، بما في ذلك أماكن العمل متعددة الثقافة، وقواعد بيانات مرجعية لأفضل الممارسات.

ولهذا يعد تقييم معايير بيئة العمل باستمرار، من خلال قياس مدى الرضا الوظيفي للعاملين بالمؤسسة، من الأمور المهمة للتعرف على مستوى هذه المعايير، ومن ثم تقديم بيئة العمل الأفضل، التي تمنح الموظفين الرضا عن المؤسسة وبالتالي المساهمة في نجاحها وتميزها.
والرضا الوظيفي، هو جملة من المشاعر والأحاسيس الوجدانية الإيجابية، تشمل السعادة والقبول والاستمتاع، التي يشعر بها الموظف تجاه نفسه ووظيفته ومؤسسة العمل. ويعد قياس الرضا الوظيفي من المؤشرات المهمة لتحديد مجالات التحسين والتطوير في الأنظمة والإجراءات الداخلية في المؤسسة، لتوفير أفضل بيئة داعمة للموظفين، لضمان تطويرهم ونجاح مؤسسة العمل.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا يعد تحسين بيئة العمل من الجوانب المهمة لكل من الأفراد العاملين وللمؤسسات؟


لتحسين وتطوير بيئة العمل دور مهم في انتماء العاملين لمؤسسات عملهم، فعندما يجد العامل أو الموظف في المؤسسة أفضل بيئة للعمل، سيشعر بانتمائه إليها وأنه فرد مرغوب فيه، وبالتالي سوف يقدم كل ما لديه من قدرات وطاقات كامنة، أي إن بيئة العمل المثالية، قد ساهمت في رفع مستوى كفاءة وأداء الموظفين وزيادة إنتاجيتهم، وبالتالي العمل على تطور المؤسسة ورفع مكانتها وتميزها.

وقد يعتقد البعض أن تحسين بيئة العمل يكون فقط من خلال رفع أجور ومرتبات الموظفين، ولكن الاتجاهات والرؤى الإدارية الحديثة أكدت على أهمية وجود مجموعة من القيم والمبادئ والأخلاقيات والإنسانيات والمشاعر التي تعد أكثر أهمية في خلق أفضل مكان للعمل، التي من بينها مراعاة الهموم والمشكلات الشخصية للموظفين، والحرص على الاتصال والتواصل المستمر داخل بيئة العمل، وأهمية العلاقات والمشاعر والجوانب الشخصية بين العاملين في المؤسسة، وبينهم وبين الرؤساء والقادة، التي تسهم في رفع مستويات الإنتاجية، وبالتالي تطور ونمو ونجاح وتميز مؤسسة العمل.

فالظروف السيئة وغير المناسبة لبيئة العمل والضغوط النفسية التي يتعرض لها العامل في بيئة العمل، لها آثار سلبية على دافعية العاملين نحو العمل، كما تؤدي للعديد من المشكلات النفسية والصحية للعاملين، فتؤدي إلى ظهور مشكلات في بيئة العمل وتوتر في العلاقات بين الموظفين وكثرة الغياب، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تدنى مستوى إنتاجية مؤسسة العمل، وتدهور في سمعتها ومكانتها، وقد لا تنحصر النتائج السلبية لضغوط بيئة العمل على العامل فقط في مكان عمله، بل تنتقل معه إلى منزله وأسرته، مسببة توتر في العلاقات الأسرية، وربما يمتد تأثيرها إلى علاقات الموظف داخل المجتمع، فيصبح أكثر ميلا للعزلة وأقل تفاعلا وتواصلا مع المجتمع المحيط به.


في كتاب صادر حديثا، خلال هذا العام، بعنوان: «أفضل مكان للعمل: كيفية بنائه وكيفية الحفاظ عليه ولماذا هو مهم؟»، من تأليف كل من مايكل بورشيل وجنيفر روبن، فيه يجيب المؤلفان عن سؤال أساسي هو: «ما القيمة التجارية لخلق أفضل بيئة للعمل؟»، كما يستكشف المؤلفان مفهوم أفضل مكان للعمل، وإعادة تعريفه من خلال تناولهم أفضل الممارسات والأساليب والاقتباسات من الموظفين الذين يعملون في أفضل أماكن للعمل في الولايات المتحدة، ويقول المؤلفان إن الثقة والاعتزاز والمودة، تحول مؤسسة العمل إلى أفضل مكان للعمل، ويستكشف الكتاب أبعاد نموذج أفضل بيئة للعمل، التي تدفع الموظفين للثقة في قادتهم والاعتزاز والفخر بما يفعلونه، والاستمتاع بالعمل مع الأفراد الذين يعملون معهم.

وتتمثل أبعاد أفضل أماكن للعمل في: الثقة، حيث تعد عنصرا أساسيا في العلاقة بين مكان عمل الموظف وصاحب العمل، وتتألف الثقة من ثلاثة أبعاد، هي: المصداقية، والاحترام، والإنصاف (العدالة). والمصداقية تعني أن يتواصل المديرون بانتظام مع الموظفين، بخصوص توجهات المؤسسة والتماس أفكارهم وخططهم، كما أنها تنطوي على تنسيق بين أفراد المؤسسة والموارد بكفاءة عالية، وأن يعرف الموظفون كيف يتصل عملهم بأهداف المؤسسة، فكي تكون ذا مصداقية، يجب أن تتبع الأقوال والكلمات بالأفعال. والاحترام، يشمل إمداد الموظفين بالمعدات والموارد والتدريب اللازم للقيام بعملهم، كما يعني تقدير العمل الجيد والجهد الإضافي، ويشمل الوصول للموظفين وجعلهم شركاء في أنشطة المؤسسة، وتعزيز روح التعاون بين الإدارات والأقسام وخلق بيئة عمل آمنة وصحية. والإنصاف، يعني أن يكون هناك تقاسم منصف للنجاح الاقتصادي للمؤسسة، من خلال برامج التعويضات والأرباح، وأن يعترف الجميع بالحصول على فرص عادلة، وأن يتم اتخاذ قرارات بشأن التوظيف والترقيات من دون تحيز، وأن يسعى مكان العمل لتحرير نفسه من التمييز، وأن تكون هناك إجراءات واضحة للفصل في المنازعات، ولكي تكون منصفا، يجب أن تكون عادلا.


أما البعدان الآخران، في نموذج أفضل أماكن للعمل، فهما: الاعتزاز أو الفخر، والمودة أو الصداقة الحميمة. والاعتزاز يكون في علاقات العمل بين الموظفين ووظائفهم، وتعني أن يفخر ويعتز الموظف بما يقوم به. أما المودة، فتعني علاقات الصداقة الحميمة بين الموظف والموظفين الآخرين في مؤسسة العمل.