سقط مبارك وسقطت معه كل نظرياته في الحكم الأبدي للشعب المصري، لقد تفرد مبارك دون رؤساء مصر السابقين برغبته المحمومة في اي يعيش دور الآله، فلا يستطيع احد ان يرد له كلمة او يثنيه عن قرار إلا أسياده من الأمريكان والإسرائيلين، لقد أدلى جميع المنقلبين على مبارك من المقربين له بتصريحات تحمل ذات المعنى، أنه كان رئيسا ذا فكر محدود ولكنه لا يقبل النقاش ولا الجدال وكان عناده السمة الأكبر التي اتصف بها مبارك طوال ثلث قرن حكم فيها مصر.
إن مسألة عناد مبارك وتمسكه الشديد برأيه لم تكن سمة مميزة له فلم يستطيع مبارك طوال فترة حكمه ان يقف امام اي رغبة امريكية او اسرائيلية فكان جنودنا البواسل على الحدود الشرقية يقتلون يوما بعد يوم، ولم نرى مبارك يغضب او حتى يعبر عن غضبه ولم يستطع ان يمارس عناده مع الصهاينة كما مارسه مع خصومه السياسيين في الداخل، ويبدو أن مبارك كان يطمع في ان يقدم تنازلاته تلك ثمنا لكي يجد العون والمساندة الدائمة من الغرب كي يحافظ على كرسي الحكم للأبد ولإبنه من بعده طبعا.
لقد فوجئنا جميعا بشلل الغرب حيال الثورة المصرية، فقد تجمدت جميع القيادات الغربية والتي كانت معنية بأمور الشرق الأوسط، فلم يستطع احدا منهم ان يكون له موقفا واضحا منذ اللحظة الأولى، أنا أكاد أجزم ان هناك أياما تخللت الثورة المصرية عاش فيها العالم لحظات تصلب وتجمد وتخبط لم يشهدها من قبل، فمصر أقوى وأكبر دولة في المنطقة مهما أفسد الفاسدون، ودور مصر هو رهان تاريخي لا يمت بصلة لحالتها الاقتصادية او الاجتماعية، والعالم يدرك جيدا ان منطقة الشرق الأوسط هي المبتدى وهي المنتهى فمنها تبدأ الأحداث الجلل وإليها تعود، ولا يمكن اهمال هذه المنطقة مهما حدث، فما كان زرع اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط من قبيل المصادفة، ولم يكن بلفور ثملا حينما وعد الصهاينة بهذه الأرض، فالديانات كلها تجل هذه الأرض وتتحدث عن مكانتها في الكرة الأرضية، ولما كانت مصر هي زعيمة هذه الرقعة من العالم فكان لابد من اضعافها وازلالها، وقد حدث .. أو هم تصورا ذلك، لكن يفاجئ الانسان المصري نفسه قبل غيره من شعوب العالم على قدراته الخلاقة في ان يصنع ثورة من لا ثورة، فلا مقدمات ولا تنسيقات ولا ترتيبات ولا قيادة، فقط اشتعل الغضب المصري مقترنا بيوم عظيم هو خير يوما طلعت فيه الشمس هو يوم الجمعة، فإذا بشرارة الغضب تحرق الجميع.
في ثمانية عشر يوما لم يهدأ زئير الأسد فيها لحظة، ولم يخاف ولم ترهبه السيارات المصفحة ولا الرصاص المطاطي ولا حتى القناصة، فلنحيا أحرارا او نموت شهداء، نعم لم ينزل الشعب كله الى التحرير ولكن لا أحد ينكر ان الدعوات كانت تخرج من المصريين القابعين في بيوتهم لتتسابق حتى تصل الى المناضلين في ميدان التحرير، خرجت الثورة وبهرت العالم وبهرت حتى مبارك نفسه حتى ان نور الثورة قد اعمى بصيرته هو ومن حوله وفشل هو وأعوانه على ادارة الإزمة (هكذا هي من وجهة نظرهم)، وكان النصر الألهي الحتمي لشعب صمد وصبر، لشعب خصه الله في قرآنه وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
مبارك لم يكن رئيسا وانما كان كرسيا للحكم، لم يخرج علينا يوما بفكرا او استراتيجية او توجها وانما كان دائما يقرأ ما يملى عليه من فريق اعداده، كان دائما ممسكا بالورقة التي يقرأ منها حتى لحسبنا انها ملتصقة في كفه، لقد كان مبارك رئيسا لكنه كان رئيسا من ورق. اعلم انها شجاعة متأخرة ان ننتقد مبارك بعد سقوطه، ولكن رداء الجبن لم يكن يغطيني انا وحدي وانما كان وشاحا كبيرا يكبل الشعب كله، واذا كانت الثورة قد أحرقت هذا الوشاح فقد حان الوقت لنتعاهد من الآن ألا نسمح لأحدا بعد اليوم ان يكمم افواهنا او ان يدفننا في الرمال من جديد، انه عهدا جديدا لمصرا جديدة نبني فيه المستقبل على الكرامة التي افتقدناها وعلى الحرية التي ضيعناها وعلى الإيمان الذي تسرب من قلوبنا، هو عزم الثائرين حتى لو لم نكن منهم .. لكنهم منا.