عنيد هو هذا الانسان، يتمسك برأيه وبأفكاره وبمعتقداته وكأنها سلاحه الوحيد للبقاء في هذه الدنيا، يتشبث برأيه ويرفض ان يناقش هذا الرأي ولو على سبيل تبادل وجهات النظر، فرأيه مخلد وفكره متفرد ومعتقده هو صلب حياته، كلنا نتعامل من منطق ان آراءنا هي مصدر قوتنا وليس ما نضيفه اليها، اللسان دائما يسبق الأذن فلا الأذن تسمع ولا اللسان ينتصر، هذه هي الدائرة المفرغة التي نحيا فيها فلا نتعلم شيئا ولا نبرح مكاننا.
تعجبت اناسا ارائهم كالصخور لا تتزحزح ولا تتحرك ويبقى اي نقاش او جدال مهما بدا فيه من منطق خارج نطاق رؤيتهم وللأسف فهم كثر، وما دونهم لا يتنازلون عن ارائهم إلا بعد معارك كلامية ضارية، وقد يكون اقتناعه هي لحظة انكسار وقتي ما تلبث ان تذهب بلا عودة، تشبث الانسان برأيه هي فطرة شيطانية تحقق للإنسان انتصارا وهميا على الأخرين، لكنها في الحقيقة هزيمة قاسية له لو أدرك ما خسره جراء تمسكه برأيه.
ان العناد أية من ايات البشر، وهو ما جعل الانسان يكفر حينما اتاه النور بين كلمات الله على مر التاريخ، وهو نفسه السبب في فشله ان يحقق شيئا يذكر على مدار تاريخه لأنه لا يسمع إلا ما يريد ان يسمعه ولا يقتنع إلا بما هو مقتنع به في الأساس، اما النقاش والجدال بالنسبة له فهي ساحة المعركة التي يعلن فيها عن الصخور التي تقبع في رأسه والتي لا يقبل ان يتنازل عنها مهما حدث، حتى من يتصورون انفسهم من المرونة والعقل المفتوح فهم سذج لأنهم يفتحون عقولهم ويمارسون فعل المرونة في اشياء هم في الأساس لا يكترثون لها وانما هي تنازلات وهمية تحقق خضوعا غير حقيقيا بهدف توفير المناخ المناسب للتمسك بما هو اهم عندهم من معتقدات وآراء وأفكار.
لكني ومع كل هذا التيه استطيع وبكل ثقة ان اضع يدي على لحظة التنازل الحقيقية، هي اللحظة التي يكون الانسان فيها مستعدا لأن يبيع كل أفكاره ولأن يفني فيها عقله وان يفترش التراب ممرمغا رأسه نافضا كل ما فيها حتى يعود صفحة بيضاء يخط سطورها من جديد، انها اللحظة التي يتنازل فيها الانسان عن روحه وعن نفسه طواعية دون تفكير او تفاوض، هي اللحظة التي يرفع فيها الانسان بقلبه قبل عقله رايته البيضاء، انها لحظة حب، ولكن عن أي حب اتحدث، اني اسطر هنا سطرا عن بحر يعج بالأمواج فلا أنا استطيع الخوض فيه ولا استطيع ان ابارح مكاني واتركه، انه الحب حيث المشاعر الصادقة التي تؤلف القلوب مهما تباعدت المسافات، انه الحب الذي يجمع الأفكار مهما بعدت الأمصار والأقطار، حب بلا وصل إلا الحب نفسه لا بالكلمات ولا باللمسات ولا بالهمسات، الحب الذي يذيب الفوارق ويحني الجباه، ماذا أقول أنا عن الحب وقد سبقني الشعراء والأدباء وحتى العباد والزهاد، لا مكان لي جانبهم ولا فرصة لي في وصف هذا الحب بعدهم.
جل ما أقوله ان هذه اللحظة النادرة والتي لا تولد إلا بين ثنايا هذا الحب النادر هي لحظة الاستسلام ولحظة التنازل الحقيقي، هي اللحظة التي يفكر فيها الانسان بعقل وقلب محبوبه فيرضخ لما يرضى فلا تمثل له تنازلا على قدر ما تمثل له من رضاء ورغبة محمومة في ري شجرة الحب هذه حتى تظل أوراقها خضراء تظلل على هذه المشاعر الفياضة.
أتراني قصرت في حديثي عن هذه اللحظة الفريدة ام اني قصرت في وصف احساس كهذا الإحساس، لكني أدرأ بنفسي ان اخوض في حديث الحب وانا لا أملك من مفاتيح الأدب ما يعينني عليه، فالحب أحساس غريب وفريد ومعقد اذا كان حبا في الأساس وليس شيئا أخر.