سبائك العهد القديم

فهد عامر الأحمدي

هناك ظاهرة غريبة رافقت اكتشاف الحلي الذهبية للفراعنة وبلاد مابين النهرين
. فتماثيل الفراعنة وحلي بابل لم تكن في الحقيقة مصنوعة من الذهب الخالص، بل من
معادن رخيصة لُبِّست بقشرة ذهبية.. والغريب هنا أن الغطاء الذهبي لتلك التحف
كان من الرقة وقوة التلاحم بحيث يستحيل معه حتى خدشها بمشرط حاد!!

وهذه المعضلة على بساطتها ليس لها حل إلا أن يكون صاغة العصر القديم قد اكتشفوا
طريقة الطلاء بالكهرباء . ولكن هذا الاحتمال استُبعد في البداية لأن أول بطارية
جافة ابتكرها العالم الايطالي جلفن بعد واحد وعشرين قرناً (أو على الأقل هذا ما
كنا نعتقده) .. ولكن فرضية استعمال الطلاء الكهربائي تعززت بعد اكتشاف أول
بطارية جافة في إحدى مقابر بغداد عام 1936 اتضح أن تاريخها يعود إلى 255 قبل
الميلاد (وتعرف حاليا باسم بطارية بغداد)..

واليوم يعتقد أن البطاريات الجافة صنعت لأول مرة في فترة حكم البارثيين الذين
عاشوا في العراق قبل ألفي عام. وكانت تلك البطاريات مصنوعة من جرار فخارية
بداخلها أسطوانات نحاسية وقضبان حديدية مثبتة بالإسفلت . وكانت "الأقطاب" يبدو
عليها آثار التآكل بسبب الأحماض التي كانت تُملأ بها (وغالبا الخل والليمون
المتوفران في ذلك الحين).. وفي تجربتين منفصلتين في الولايات المتحدة تمتا على
نسخ مطابقة للبطاريات التي وجدت في بغداد أمكن توليد تيار شدته 2/1 فولت دام
لمدة 18 يوماً ...

وحالياً لم يعد هناك مجال للشك بأن تلك البطاريات استعملت للطلاء بالترسيب
الكهربائي، وأن الكهرباء ظاهرة اكتشفت أولاً في بلاد مابين النهرين ...

وفي الواقع فإن تفوق الشعوب القديمة في صنع السبائك يتجاوز تلبيس الحلي وصنع
التماثيل .. فالمراجع لسورة سبأ يتملكه شعور بأن مملكة داود كانت عبارة عن
"ورشة عمل" متقدمة كدليل آخر على تفوق الشعوب القديمة في صب وسبك المعادن {ولقد
آتينا داود منا فضلاً ياجبال أوِّبي معه والطير وألنا له الحديد* أن اعمل
سابغاتٍ وقدِّر في السَّردِ واعْمَلُوا صالحاً إِنِّي بما تعملون بصير*
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل
بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير* يعملون له
مايشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسياتٍ اعْملوا آل داود شكراً
وقليل من عبادي الشكور...

أيضا ؛ من المتعارف عليه أن الألمنيوم النقي أنتج لأول مرة عام 1854 ولكن بعد
مائة عام اكتشفت أدوات مصنوعة من الألمنيوم الخالص بدون معرفة الطريقة التي
أنتج بها (في مدافن منطقة كوان الصينية التي تعود إلى 313 قبل الميلاد)..

أما في الهند فيوجد حتى يومنا هذا عمود حديدي مقدس مازال منتصباً (في بومبي)
منذ أربعة آلاف عام بدون أن يتآكل أو يصاب بالصدأ . وهذا الأمر يعيدنا إلى
المخطوطات القديمة التي تشير إلى إمكانية صنع حديد غير قابل للتحات، ولايتأثر
بالحمض الملكي (القادر على إذابة جميع المعادن) !!

... وبطبيعة الحال ليست كل المعادن والسبائك القديمة لغزاً خارقاً يصعب حلّه أو
معرفة طريقة إنتاجه. فبعض الأساليب القديمة (هي فقط) تثير فينا الدهشة
والاستغراب كونها ظهرت في غير عصرنا الحاضر.. ولكن الحقيقة هي أن الفراعنة
توصلوا مثلا لتقسية النحاس بطريقة عصرية متقدمة .. كما اشتهر سكان سورية
القدماء بصنع سيوف صلبة من خلال طعن السلاح المحمى في أجساد الحيوانات أو أسرى
الحروب (فالعامل المؤثر هنا هو تقوية الحديد الساخن بامتصاص ثاني أوكسيد
الكربون الموجود في أجسام المخلوقات).. وقد مرت قرون طويلة قبل أن يكتشف هنري
بسمر أهمية إضافة ثاني أوكسيد الكربون إلى أفران الحديد لإنتاج الصلب بهذه
الطريقة...

وبالطبع لايختلف اثنان على أن طريقة بسمر أفضل من غرس قضبان الحديد المحمى في
أجساد بعضنا البعض !
*