أثار الفوز الكبير الذي حققه حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات التشريعية التركية الأخيرة موجة من القلق وجدد كثيرًا من المخاوف الغربية بشأن ماهية الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في الشرق الأوسط ، وما إذا كان رئيس الوزراء التركي وزعيم الحزب "رجب طيب أردوغان" يطمح لبعث الإمبراطورية العثمانية الإسلامية من جديد.
وقد سلط المؤرخ والمحلل البريطاني "نيال فيرغسون" الضوء على تلك المخاوف في مقال له نشرته مجلة "نيوزويك"؛ حيث اعتبر فيرغسون أنه من استمرار صعود أسهم تركيا في العالم الإسلامي، فإن انبعاث العثمانيين من جديد أمرًا ليس مستبعدًا.
ونعرض فيما يلي نص المقال الذي كتبه فيرغسون تحت عنوان "معضلة الشرق الأوسط القادمة":
لا يتفق الجمهوريون والرئيس الأمريكي الذي يرغبون في استبداله إلا على قضية واحدة وهي: أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تقلص من تواجدها العسكري في منطقة الشرق الأوسط الكبير. والمبررات الأكثر تفضيلاً هي أنه ليس في وسع أمريكا الارتباط بعمليات قتالية في بلدان بعيدة وأن مثل هذه العمليات لا طائل منها على أي حال.
غير أن السؤال الذي لا يريد أحد الجواب عليه هو ما الذي سيعقب رحيل الولايات المتحدة عن المنطقة. إن السيناريو "الأكثر سعادة على الإطلاق" هو تبني دولة تلو الأخرى مباديء الديموقراطية الغربية. أما السيناريو الكابوسي سيكون إما حربًا أهلية أو ثورة إسلامية. لكن هناك نتيجة ثالثة محتملة أخرى وهي بزوغ الإمبراطورية العثمانية من جديد.
ومن سلالة أناضولية قامت على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية، كان العثمانيون هم حاملي لواء الإسلام بعد فتحهم لـ القسطنطينية (إسطنبول حاليًا) عام 1453. وقد توسعت إمبراطوريتهم بعمق في أوروبا الوسطى، متضمنة بلغاريا وصربيا والمجر.
وبعد أن أقام السلطان "سليمان القانوني"- سليمان المهيب- الحكم العثماني من بغداد إلى البصرة، ومن القوقاز إلى مدخل البحر الأحمر، وعلى طول الساحل البربري (المناطق الساحلية الوسطى والغربية من شمال إفريقيا)، كان حري بسليمان المهيب أن يقول: "أنا سلطان السلاطين، وملك ملوك الأرض". ولقد شهد القرن السابع عشر مزيدًا من التوسع العثماني في كريت بل وحتى غرب أوكرانيا.
بالرغم من ذلك، أصبحت الإمبراطورية خلال القرنين التاليين "رجل أوروبا المريض"؛ حيث فقدت معظم ممتلكاتها في البلقان وشمال إفريقيا. وكانت الحرب العالمية الأولى مدمرة؛ حتى أنه تم إعلان معقل الأناضول القديمة فقط جمهورية تركية. أما الباقي فقد تم اقتسامه بين بريطانيا وفرنسا.
وقد كان ذلك على ما يبدو نهاية للعصر العثماني. وحتى وقت قريب جدًا، كان السؤال الذي يتردد بين الناس بشأن تركيا هو ما إذا كانت (أو ربما متى) يمكنها أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي؟ وكحلفاء أوفياء للولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة، فكان من الواضح أن الأتراك قد ركزوا وجهتهم بثبات لا يتزعزع صوب الغرب، تمامًا كما أراد من قبل مؤسس جمهوريتهم "كمال أتاتورك".
غير أنه ومنذ عام 2003، عندما انتخب "رجب طيب أردوغان" رئيسًَا للحكومة التركية، وقد تغير ذلك. فأردوغان، مؤسس حزب "العدالة والتنمية"، شخصية تتمتع بجاذبية كبيرة. فهو بالنسبة للكثيرين يمثل تجسيدًا لـ "الإسلام المعتدل". وقد اشرف على فترة شهدت نموًا اقتصاديًا غير مسبوق، كما سعى من أجل تقليص سلطات الجيش. ولم يكن من قبيل المصادفة أن واحدة من أوائل رحلات الرئيس أوباما الخارجية كانت إلى إسطنبول. كما لم يكن الأمر مفاجأة عندما فاز حزب "العدالة والتنمية" في وقت سابق من هذا الشهر في الانتخابات العامة للمرة الثالثة على التوالي.
والآن يتعين علينا أن ننظر عن كثب اكبر إلى أردوغان. حيث هناك سبب وجيه ليراودك الشك في أنه يحلم بتحويل تركيا بوسائل كان يمكن أن يعجب بها "سليمان القانوني".
وفي أثناء عمله سابقًا كعمدة لمدينة إسطنبول، تعرض أردوغان للسجن لالقائه علنًا هذه الأبيات التي تعود إلى شاعر تركي ظهر في مطلع القرن العشرين؛ قال فيها: "إن المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا". ويبدو واضحًا أن طموحه هو العودة إلى عصر ما قبل أتاتورك، عندما كانت تركيا ليست فقط إسلامية ولكن قوة إقليمية عظمى.
يفسر هذا حملته الدءوبة لتغيير الدستور التركي بأساليب ربما من شأنها أن تزيد من سلطاته على حساب السلطة القضائية والصحافة وكذلك الجيش، وجميعها معاقل للعلمانية. كما يفسر انتقاداته الحادة المتصاعدة لـ "إرهاب الدولة" الإسرائيلي في قطاع غزة، الذي أرسل إليه نشطاء مؤيدين للفلسطينيين أسطولاً للمساعدات تصدّر عناوين الصحف العام الماضي. كما يفسر قبل كل شيء، مناوراته البارعة في استغلال الفرص التي قدمها ربيع العرب، حيث تأنيب سوريا والسعي لملاحظة إيران، وتقديمه لنفسه كنموذج يحتذى به.
لقد قال أردوغان في خطاب فوزه أن: "سراييفو انتصرت اليوم كإسطنبول وبيروت كإزمير ودمشق كأنقرة، ورام الله ونابلس وجنين والضفة الغربية والقدس انتصرت كما انتصرت ديار بكر".
إن الزعيم التركي قد شبّه ذات مرة الديموقراطية بالترام وقال: "عندما تأتي محطتك، فإنك تنزل منه". إننا في انتظار حدوث مفاجأة إذا ما تحولت الوجهة التركية تحت قيادته لتكون إمبراطورية إسلامية جديدة في الشرق الأوسط.

نيال فيرغسون - مجلة نيوزويك

ترجمة/ شيماء نعمان