استراتيجيات التدريب باستخدام التكنولوجيا الموائمة لذوي التحديات البصرية ( قارىء شاشة الكمبيوتر نموذجاً)
مقدم الورقة:
إيهاب الشلبي
باحث / قسم الدراسات والتطوير الاداري
دائرة اللوازم العامة - وزارة المالية
المركز الثقافي الملكي
عمان - الأردن
1-3/ جمادى الآخرة / 1427 هـ
27 – 29 حزيران 2006 م

مقدمة
قال الله تعالى معاتباً رسوله الكريم للبشرية جمعاء:"عبس وتولى*أن جاءه الأعمى*وما يدريك لعله يزكى*أويذكّر فتنفعه الذكرى" صدق الله العظيم ،وفي التراث الإنساني ما يثبت أن في التوجيه الرباني الحكيم رسالة صالحة لكل زمان ومكان في ما يخص تنمية وتمكين ذوي التحديات البصرية من أخذ دور فاعل في عجلة التنمية والإنتاج.وفي الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها أمثلة ناصعة على إدراك أصحاب القرار لحكمة التوجيه الرباني وامتثالهم له مما عاد على البشرية بعظيم النفع ،فقد كان الخلفاء وولاتهم يعيّنون لمن نبغ عقله وكف بصره مرافقاً لماحاً يكون له بمثابة الأداة المطواعة التي تترجم فكره إلى واقع ملموس. وفي التاريخ العربي الإسلامي والعالمي الكثير من الأمثلة.
وفي الآونة الأخيرة بدأ مفهوم التنمية البشرية يبرز في وثائق الأمم المتحدة ويعالج بإسهاب ، ففي تقرير التنمية البشرية لعام 1990 يحدد مفهوم التنمية البشرية بأنها عملية توسيع خيارات الناس،ومن هذه الخيارات أن يحيوا حياة أطول وأكثر صحة، وأن توفر لهم فرص تعليمية، وأن يتمتعوا بمستوى معيشي معقول، وأن توفر الحرية السياسية والاجتماعية بما يتيح لهم أن يكونوا مبدعين ومنتجين، وأن تضمن لهم حقوقهم الإنسانية واحترام ذواتهم. ولم تستثن الشرائع والدساتير والقوانين والمواثيق أحداً من الإنسانية.
وتؤكد تقارير التنمية البشرية على أن البشر هم أساس ثروة الأمم وأن التنمية تتم بالإنسان ، ومن أجل الإنسان، فهو غاية التنمية ووسيلتها الرئيسية.وأن البشر هم منبع الأفكار والريادة والإبداع والابتكار والاختراع، فبغض النظر عن وفرة الموارد المتاحة للتنمية،فإنها قليلة الأهمية إذا لم يتوفر الانسان القادر على تخصيصها واستخدامها على أفضل وجه ممكن، إذ يظل الإنسان ، بجهده العقلاني المنظم العنصر الأهم في كافة مواقع العمل وإنتاج السلع والخدمات، ويظل بالتالي المصدر الأساسي لتوليد القيمة المضافة.
وعلى الرغم مما قد تتيحه التقنية الحديثة للمبدعين والمفكرين والموهوبين من وسائل مساعدة وتسهيلات، إلا أن استخدامات تلك التقنية لا زالت محدودة في العالم الثالث عموماً والوطن العربي جزءٌ منه. وخصوصاً لذوي التحديات البصرية الذين يعدّون أحوج الناس للإفادة من الإمكانات المذهلة التي قد توفرها التقنية الحديثة لهم.

3.التدريب والتكنولوجيا الموائمة
لم يعد خافياً على أحد أن أبرز سمات هذا العصر هي ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، ولم يعد سرّاً ما لهذه السمة من أثر بالغ على مسارات حياة الإنسان الذي يعمر كوكباً باتت تصغر أبعاده المكانيّة والزمانية - اتصالاً- إلى حجم راحة اليد ولمسة إصبعها ،وتكبر أبعاده المعرفية والثقافية والمعلوماتية إلى ما هو أرحب من التصوّر والخيال.
وأمام هذا الواقع أضحى مؤكّداً أن مفتاح العبور إلى المستقبل هو في امتلاك القدرة على التواصل والتفاعل مع التكنولوجيا، وتنمية هذه القدرة إلى حدود مواكبة التطوّر والتحديث ومحاولة جني ثماره وليس مراقبته عن بعد والاكتفاء بالانبهار بنتائجه.
وإذا كان ذلك يعني عموم الناس بدرجة عالية من الأهميّة ، فإن ثمة شريحة واسعة من المجتمع يعنيها الأمر على نحو أكثر أهمية وأشدّ خصوصية، ذلك لأن هذه الفئة وأعني الذين حرموا من نعمة البصر كانوا -إلى وقت قريب- تضيق بهم السُبُل وتتقلّص أمامهم الفرص إلى حدودها الدنيا فينزوون على هامش المجتمع ، تذهب طاقاتهم هباء ، تهدر إمكاناتهم دون جدوى ويتلاشى دورهم في الحياة إلاّ من رحم ربي.هؤلاء صار بمقدورهم ألا يبقوا كذلك ،فقد جلبت تكنولوجيا المعلومات لهم حلاً يبشّر بآفاق رحبة تجعل قدراً عظيماً من معاناتهم جزءاً
من التاريخ. إنه بكل بساطة حلّ يمكّنهم من العمل وراء شاشة الحاسوب كما لو كانوا يبصرونها تماماً ،ويتيح لهم تصفُّح الإنترنيت وقراءة وكتابة ما يشاءون.ويؤهلهم لأداء مهامّ وظائفهم في إطار الحكومة الإلكترونية، فضلاً عن توسيع نطاق فرص العمل أمامهم في القطاع الخاص.
إن ما تقدمه إمكانات البرامج التطبيقية الخاصة بتمكين المكفوفين يأتي في سياق التكنولوجيا الموائمة التي باتت رائجة ويجري عليها تحديث وتطوير دءوب في العالم المتقدم. ونعني بالتكنولوجيا الموائمة كافة الوسائل والوسائط والبرمجيات التي تعمل على تمكين فئات ذوي الاحتياجات الخاصة من التكيف إلى أقصى ما تسمح به طاقاتهم وإمكاناتهم وصولاً إلى نفس مستوى الأداء الذي يستطيعه أندادهم من القادرين.
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بدأت شركات عالمية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات مثل Freedom Scientific و Dolphin بإنتاج وتطوير برمجيات تقوم على أساس تحليل الكلمات وتحويلها إلى مخرجات صوتية فتمكنت الأولى من إنجاز برنامج Jaws وتطوير عدة نسخ منه خلال الأعوام اللاحقة كبرنامج قارئ الشاشة يتوافق مع نظام تشغيل الكمبيوتر Windows على نحو عالي الكفاءة. كما تمكنت Dolphin من إنتاج برامج مشابهة مثل Hall وSupernova وبانتشار هذه البرامج على نطاق واسع في العالم المتقدم وإنشاء مراكز تدريبية متخصصة تعقد البرامج والورش التدريبية على تطبيقات هذه البرامج استطاع الآلاف من ذوي التحديات البصرية الاستفادة من هذه الإمكانات في تحقيق استقلالهم الذاتي وراء شاشة الكمبيوتر ليؤدوا أعمالهم بكفاءة واقتدار.
بيد أن الجهود المبذولة على المستوى العربي ما تزال في بداياتها تواجه الكثير من المعيقات والعثرات ، فعلى الرغم من إنتاج عدد من البرامج المماثلة من قارئات الشاشة باللغة العربية والتي يذكر منها -على سبيل المثال- برنامج الناطق وإبصار وJaws بنسخته العربية إلا أن شيوع هذه البرامج واعتمادها وتبنيها لا يزال محدود النطاق لأسباب تنطلق أساساً من تدني مستوى الاهتمام الرسمي بدعم هذه الشرائح من المجتمع وضعف القناعة بالدور الإنتاجي الذي يمكن أن تقدمه في المجتمع ناهيك عن المستوى المعيشي المتواضع لهذه الشرائح نظراً لما تعانيه من مشكلات مركبة من الفقر والبطالة تحول دون تمكينها من توفير متطلبات التكنولوجيا والبرمجيات الموائمة خصوصاً مع ارتفاع تكلفة هذه البرمجيات ويضاف إلى ذلك غياب المراكز التدريبية المتخصصة التي يمكن أن تقدم وتنسق البرامج التدريبية الملائمة لهذه الشريحة وذلك بسبب تدني العائد المادي المتوقع من وراء هذه الجهود المستثمرة على مستوى القطاع الخاص.
وحيث أن فئة المكفوفين في مجتمعاتنا العربية يقتصر استيعاب نسبة ضئيلة منهم فقط في وظائف القطاع العام ضمن ما يسمى بالحالات الإنسانية فإن إصراراً غير مبرر على إبقائهم
" حالات إنسانية " دون النظر لإمكاناتهم وقدراتهم التي ينقصها فقط الأدوات والتدريب المناسبين ليتم تفعيلها وإطلاقها بما يعود على المؤسسة بالنفع.هذا الإصرار النابع من ثقافة مجتمعية لا زالت حديثة عهد بأهمية دور التدريب من جهة وبكفاية التكنولوجيا الموائمة من جهة أخرى يحوّل الموظف الكفيف إلى عبء على المؤسسة عدا عن معاناته اليومية الناجمة عن إحساسه بقيود يمكن أن ينفلت منها فيما لو تأتت له الأدوات والتدريب اللازمين.
وانطلاقا ًمن تعريف التدريب على أنه "الجهد المنظم والمخطط له لتزويد القوى البشرية في المنظمة بمعارف معينة وتحسين وتطوير مهاراتها وقدراتها، وتغيير سلوكها واتجاهاتها بشكل إيجابي بناء" فإن حرمان هذه الشريحة من التدريب ومن الموازنة المخصصة لتطوير القوى البشرية في المؤسسة يتنافى مع الجوهر الشامل للتنمية البشرية.
إن الحل المطروح لمشكلة ذوي التحديات البصرية باعتماد وسائل التكنولوجيا وبرامجها الموائمة يمكنه أن يؤدي إلى إشراك المكفوفين بمختلف فئاتهم و شرائحهم في عملية التنمية الاجتماعية الشاملة وتفعيل دورهم الإنتاجي وتأهيلهم في مواقع عملهم ووظائفهم للقيام بواجباتهم بصورة طبيعية من خلال تدريبهم على تطبيقات الحاسوب وتمكينهم من الحصول على الرخصة الدولية لقيادة الحاسوب (ICDL) باستخدام برنامج قارئ الشاشة الذي يحقق هذه الإمكانيات بكفاءة عالية.
لقد جاءت فكرة هذه الورقة نِتاجاً للبحث الجدّي عن حلّ يلبي الحاجة الموضوعيّة أساساً لفئة المكفوفين الموظفين والعاملين في كلا القطاعين العام والخاص لتحدّي إعاقتهم البصرية ؛ والتي كانت - في الغالب - سبباً يحصر وظائفهم وأعمالهم - في أحسن الأحوال - ضمن نطاق محدد جداً ، ويحول دون تمكّنهم من ممارسة مختلف الوظائف الإدارية والفنية وإطلاق طاقاتهم الإبداعية الكامنة .
إن الفئة المستهدفة هنا شريحة واسعة من المكفوفين والمصابين بإعاقات بصرية تحول دون تمكنهم من استخدام الحاسوب بمفردهم وهذه الفئة تصل نسبتها في الأردن (حسب النتائج الأوليّة لمسح أوضاع الأسرة الذي أجرته دائرة الإحصاءات العامة في الأردن عام 2004) إلى 9,6% من ذوي الاحتياجات الخاصة من إجمالي السكّان.

إن الشريحة التي يتم الحديث عنها من هذه الفئة تشمل ما يلي:
1- موظفي القطاع العام(العاملين في الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات العامة).
2- موظفي القطاع الخاص (العاملين في الشركات والمؤسسات الخاصة والمصانع...إلخ).
3- العاطلين عن العمل من حمَلَة الشهادات الأكاديمية ومن غير المؤهلين.
4- طلبة الجامعات والمعاهد وكلّيات المجتمع.
5- طلبة المدارس في المرحلتين الأساسية والثانوية.

4. تجربة ودلالات

تختزل التجربة الكفاحية الخاصة للباحث معاناة شريحة واسعة من المجتمع وتكشف عن قدر كبير من المعيقات والمثبطات التي تعترض المبادرات الإيجابية لمحاولة كسر طوق التهميش الذي يحيط ذوي التحديات البصرية، والسعي للعب دور فاعل في الحياة العامة، ولعل أهمية إيراد هذه التجربة ضمن ورقة العمل هي في الدلالات والعبر التي يمكن استنتاجها والتي تدعم الفرضية الأساسية لهذا البحث وتعزز أهمية التوصيات التي يخلص إليها.
فعلى الرغم من التفوق الأكاديمي الذي حققه الباحث على مستوى الجامعة في مجال اختصاصه في العلاقات العامة فقد اضطر للانتظار عشر سنوات للحصول على وظيفة عامة ومن خلال ما يسمى بالتعيين على بند الحالات الإنسانية بسبب الإعاقة البصرية، وكان قد عمل في القطاع الخاص كباحث بدوام جزئي وأنجز العديد من الأبحاث المنشورة والتي صودر حقه في ملكيته الفكرية لبعضها، و لدى مطالبته بالتثبيت للحصول على حق الضمان الاجتماعي تم الاستغناء عن خدماته .
إن المعاناة سابقة الذكر قبل الانضمام في سلك الوظيفة العامة تشير إلى درجة الانتهاك الحقوقي التي تحدث غالباً وبأشكال متفاوتة الحدة والعمق لمعظم ذوي التحديات البصرية بل وذوي الاحتياجات الخاصة عموماً بدءاً من الحرمان من فرص العمل لفترات طويلة ومرورا بعدم الاعتراف بالقدرات والإمكانات التي قد تتوفر لهم وحرمانهم من مزايا وحقوق من مثل التثبيت في العمل والضمان الاجتماعي وحد الأجور الأدنى حسب قانون العمل والأجر المتكافئ وغيره، وليس انتهاء بالتعدي على نتاجاتهم الفكرية والإبداعية حيث كان ذلك متاحاً.
أما المسيرة في وظيفة القطاع العام فأهم ما ميزها إنكار حقه في التدريب وفي الحصول على البرمجيات الموائمة بعد أن تمكن ،وبصعوبة بالغة، الحصول على مكتب وتجهيزه بحاسوب أسوة بزملائه من الموظفين.
وعلى الرغم من الصعوبات الجمة التي اعترضت و تعترض الباحث إلا أنه تمكن على صعيده الشخصي أن ينشر عددا من المجموعات الشعرية والأعمال الأدبية الأخرى.
إن التجارب الأخرى للكثيرين والتي رصدها الباحث تشير إلى أنواع مختلفة من التحديات والمشكلات لكنها في المجمل تؤكد على ما يلي:
*التجاهل والتهميش وعدم الاعتراف.
*انتهاك الحقوق والاستغلال وعدم تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.
*النظرة الدونية المتخلفة.
*الحرمان من فرص التدريب وإغفال جهود التنمية البشرية الموجهة لها من قبل المعنيين .
لقد سبق للباحث أن قدّم صياغة لمشروع وطني مقترح لتأهيل المكفوفين وتدريبهم على استخدام تطبيقات الحاسوب في سياق مسابقة مبادرات شبابية التي طرحت العام الماضي من قبل مؤسسة" إنقاذ الطفل"، ولم يصار إلى الأخذ به لاعتبارات تنطوي على بعض الدلالات المشار إليها أعلاه.
إن التجربة الخاصة للباحث والتجارب الكثيرة التي اطلع عليها لدى العديد من المكفوفين وذوي التحديات البصرية دفعته إلى إعداد هذه الورقة بما تتضمنه من أفكار وتوصيات يمكن أن تسهم في جهود التنمية البشرية على المستويين المحلي والعربي.