التأثير اللامنظور
هناك... على هامش الفعاليات العضوية الصامتة, التي تنظم البدن ووظائف الأعضاء والحركات العصبية والدموية والتنفسية, تقوم حياة داخلية أخرى هي الحياة النفسية التي يحيا بها الكائن الإنساني.
هذه الحياة معقدة, متشابكة, ولكن تتمثل في مظهرين قويين: 1ـ الحساسية, أو الميول والنزعات, والأهواء, والكراهيات والعواطف, وما شابه ذلك.
2ـ الوعي, أو التمييز, والفكر المدروس الموضوعي, والمنطق, والعقل.
وللحياة النفسية أصداؤها أو تأثيراتها المباشرة السريعة, ليس على أنفسنا فحسب, وإنما هي ترسل أو تبث "إشعاعاً" خاصاً, ينتشر في الفضاء ويمتد مع الزمن, ويحظى بنفوذ معين على ألئك الأشخاص الذين يهمنا أمرهم, ويهمهم أمرنا, كما أن له تأثيره في العوامل العديدة التي تتجمع وتتفاعل وتولد الأحداث القريبة والبعيدة التي تنسج منها خيوط صيرورتنا المجهولة آنيّاً لدنيا, والتي تتضح بعد وقوعها.
ذلك هو التأثير اللامنظور.

النشاط النفسي
نشاطك النفسي يثير ـ أية كانت حدته ـ مغناطيسيات وكراهيات, ويخلق ممكنات ومستحيلات, ومجموع هذه الأشياء يؤلف ما نسميه "المغناطيس الشخصي".
وهكذا, نجد أن كل كائن إنساني قد وهب خاصية "إشعاعية" تختلف سطوعاً وخموداً حسب درجة نشاطه النفسي, كما تختلف نتائجها وأصداؤها حسب دقة توجيهها. فاعتبار المغناطيس الشخصي "امتيازاً" يناله المحظوظون, أو العباقرة الموهوبون, أو بعض ذوي السطوة والسلطان, أمر مخالف للحقيقة, ينأى عنها وينحرف انحرافا تاماً...
ثم لابد من الإشارة إلى أن مغناطيس الشخصية لا يحصل بمطالعة الكتب, ولا بالدرس النفسي, فالكتب إنما وضعت بعد ملاحظات وتحليلات للقوانين والقواعد التي تهيمن على الظواهر النفسية.
قلت, ألح, ولا أزال أقول: إن أي شخص يستطيع أن يحقق تأثيراً لا منظوراً, ذا قوة هائلة, مهما كان زرياً, خاملاً, بعيداً عن الأوساط النافذة, والمقامات العالية.
فإذا رافق الحياة الداخلية الحارة, الشديدة, صفاء الذهن, ووضوح في التميز, ومضاء في العزم, أصبح صاحب هذه الحياة جذاباً, مؤثراً, مهما عورض في مجتمعه, وعوسر في بلوغ أهدافه. فهو لابد واجد من يتكئ عليه, أو يستند إليه, ويحرز معونته.ولنضف إلى ذلك, إن انتصاراته الشخصية تمسي أهم وأكثر من انتصارات ذوي المظهر الرائع, لأن حرارة حياتهم النفسية الضئيلة, خافتة.

من أنت؟
أنت الآن, في وضعك الراهن ـ وبما هو جوهري على الأقل ـ نتيجة أو "محصلة" تعاونت على إيجادها حقائق نشاطك النفسي السابق. ووضعك المقبل, القريب والبعيد على سواء, أمر داخل في حدود ما تحتم, وما تريد, وما تعمل. وانك لبالغ ما تهفو إليه, في حدود ما تبذل من مجهود في سبيل صحتك, وكرامتك, وانتظامك العملي, وزيادة معرفتك, وتوسيع دوائر إنتاجك.
إن أقل فكرة عابرة تخطر لك, تعين على إيجاد جاذبيات وأحداث. فاشرع من الآن, في توجيه حياتك النفسية, تصل بذلك إلى التأثير الواعي على الآخرين, وعلى اثر الظروف نفسها في كيانك الشخصي والعام.
العامل الكوني
هناك عامل كوني ينقل الأفكار والآراء والعواطف والخواطر, أو يبثها على المدى الأوسع الذي لا يعرف أحد سعته, ولا يملك أن يقيسها.
أما كيف نفهم هذا العامل, وكيف يصح تأكيده, وكيف نقنع من لا يقتنع بوجوده, فهذا ما لا سبيل إليه إلا عن طريق التشبيه.
وقف منذ أكثر من نصف قرن, بعض العلماء يقرون أن في الإمكان الاتصال دون سلك بأبعد الناس. وكان فيهم من يدعي أنه يعرف أسرار البرقيات اللاسلكية, فما أن تناقلت الصحف خبر هذا الاختراع حتى لوى "الواقعيون" برؤوسهم, وسخروا قائلين: "كيف يمكن نقل رسالة في الوقت الذي لا يصل بين المرسل واللاقط أي سلك؟".
ثم كانت التجربة التي أيدت ماركوني, واديسون وغيرهما من العلماء فيما ذهبوا إليه.
الأكيد هو أن "نظرية العالم المغلق" القديمة, التي يرقى بها القدم إلى آلاف السنين, كانت ترى أن هناك عاملاً كونياً دقيقاً, في منتهى الدقة, ينفذ خلال المادة مهما بلغت من الصلابة, لينقل أي إشعاع كان. وهذا العامل هو ما يسمونه "الأثير" في علم الطبيعة.
والأثير هو الذي ينقل لنا الموجات التلغرافية والموجات الإذاعية في جميع محطات العالم, والتلفزيون أدهش من التلغراف والراديو معاً لأنه ينقل الصورة خلال الأثير, بالإضافة إلى الصوت والصورة والإشارات والحركات.
الواقع أننا نسبح جميعاً في أثير واسع, وهذا ينقل إلينا تأثيرات تفعل فعلها في كياننا, على غير وعي منا, وتتسرب داخل العناصر الغامضة التي تتولد من تجمعها وتفاعلها مع أفكارنا, من جهة, وتنتعش ـ أي التأثيرات ـ باهتزازات تبثها استعداداتنا النفسية, إشعاعيا.ً
نحن إذن على صلة دائمة, بجميع الكائنات, وبالأفراد والأشخاص الذين نعرفهم ولا نعرفهم, خاصة, ممن يتعلق بهم تحقيق ما نتمنى. وهذه الصلة هي ذلك العامل الكوني, الكامن في طبيعة الأشياء, الخفي عن الأعين خفاء كلياً, مطلقاً, تاماً.

ينابيع القوة النفسية
قلنا أن قوة الحياة النفسية, وشدة حرارتها هما اللتان تحددان مباشرة, درجة الضغط الداخلي, لإخراج المغناطيس الشخصي. فمن كانت حياته النفسية ضعيفة باردة, كان تأثيره الشخصي باهتاً, سقيماً. ومن كان قوياً في داخله, شديداً في تحقيق عواطفه السامية وأفكاره الواضحة، كان نفوذه فائقاً، غريباً، فمن رفع درجة نشاطه الداخلي، وقوة حياته النفسية ازدادت فيه خاصة الإشعاع، وحين يكون النشاط الداخلي_النفسي ضعيفاً، يضعف معه إشعاع الشخصية.
لا تخضع إذن لشيء، ولا تهن أمام عقبة كائنة ما كانت، ولا تذعن إلى صعوبة.
لا تخضع لما تستشعر أحيانا من عجز صحي، أو ضعف مادي. لا تخضع لظروفك.
تمردـ في ذهنك ـ على كل مالا يرضيك، وحافظ على ثورتك الداخلة، وقرر أن تزيد في قواك، أن تدرك المستوى الثقافي الذي يستهويك، أن تنال المنصب الاجتماعي الذي ينسجم مع ميولك ونزعاتك.
اغلق أذنيك دون الفضوليين، والقدريين والمخذلين المثبطين من كل جنس ولون. وامض إلى الأمام، بسكوت هادئ مستغرق، وأنت في صمتك البليغ هذا، مستمر في سيرك إلى الأمام، دوماً إلى الأمام، ثم لا تلبث بعد ذاك أن تجد انك قادر. فكل من عزم قادر، حين يعي ما عزم عليه.

مع الآخرين
أجمع الباحثون المحدثون على أن فعاليتنا النفسية وإشعاعها, أمران يسيران حسب قانون طبيعي دقيق يمكن وضع صيغته كما يلي:
" الأفكار والأعمال التي هي من طبيعة واحدة تتجاذب, وتخلق أو تزيد الاعتبار والتعاطف, والثقة, والحب بين الأفراد. والأفكار والأعمال التي هي من طبيعة متعارضة تتدافع, وتفتح الباب أمام الكراهية, والحذر, وسوء الظن بين الأفراد."
لا غنى عن إعادة النظر في هذا القانون النفسي, بغية شرحه وإيضاحه, فعندما تقرر مثلاً " أن الخوف يجذب الخوف" وأن "الكآبة تجذب الكآبة" فأنت تعني بذلك الخوف والكآبة اللذين يلقي إليهما المرء بنفسه دون أن يعمل شيئاً, ففي اللحظة التي يوجد بها الخوف حالة التنبه والحذر, والتفكير باتخاذ الاحتياط والعزم الصريح على تجنب أسبابه, تأخذ النتائج التي يقضي عليها الخوف, ويشجبها كل عاقل, سبيلها إلى الانخذال والانحلال.
وإذا كان العكس, أي وقف المنخذل ـ والانخذال بداية الكآبة ـ متمرداً على شعوره, وانبثقت في نفسه النية الصارمة الصادقة على عمل شيء ما للخلاص من حالته النفسية, فإن انتقال كراهية هذه إلى الشروع بعمل إيجابي, يوازي القدرة على استغلال حالة الكآبة في استخراج الطاقة اللازمة, ليجاد الصحو والطمأنينة, إن لم يكن الفرح أو السرور!
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة ... ضياء
يقول هكتور دورفيل: "إن من يحب أشباهه ولا يعاملهم إلا بما يرضون هم أن يعاملهم به, يملك بلا ريب نفوذاً شخصياً, على درجة ما, قد تكون عالية, وقد تكون وسطاً: هذا يوفر الخير إلى لغيره, ولا يمكن أن يناله أذى. وكلما كان المرء طيباً, بصورة عامة, وينفق من طيبته هذه, بحيث يكون إنفاقه منها دون استنزال فائدة, أو رغبة طامعة, تلقى طيبة الآخرين, وكوفئ, وأرتفع في نظرهم إليه!"
كن إذن دوماً صافي السريرة, طيب القلب, خير الاتجاه, منصفاً في أحكامك, مع أقرب الناس إليك خاصة, تصل إلى حالة صحو داخلي عميق, وتضعف أعداءك مهما كانوا أقوياء...

تطبيقات
إذا كانت درجة القوة الجاذبية والمسيطرة التي يبلغها مغناطيس الشخصية, تقوم على قوة الحياة النفسية من جهة, وكان المراد إحداث التأثير الذي يلي ما نريد, من جهة ثانية, منوطاً أن يكون التأثير المشار إليه, موجهاً بوعي كامل وحزم وإنصاف, يصبح من الضروري:
1ـ أن يعمل المرء بكل قوة على حكم حياته النفسية, وعبارتها الكبرى: الفكر.
2ـ أن ينظم نشاطه النفسي المتكاثف الشديد, الحاد, تنظيماً دقيقاً.
هذا يقتضي جهوداً عظيمة.... وفي نهايتها إذا وفق إليها, ترتفع درجة التأثير اللامنظور.