يبدو أن الشعب المصري مكتوب عليه ان يعيش الغم والهم ، حتى وهو يتخلص من حكامه الظالمين، فبعد أن شاهدنا ثورة شعبية – ولا أقول شبابية – عارمة استطاعت في بضعة ايام ان تنهي حكم ثلاثين عاما، اذاقنا فيها النظام السابق المُر أشكالا وألوان، وتحقق حلما لم يكن أي فرد في هذا الوطن صغر شأنه أو كبر يتوقع حدوثه وهو محاكمة رموز هذا النظام، وظهورهم خلف القضبان، في مشهد لو سعى أشجع وأكثر المخرجين السينمائيين خيالا لتجسيده لفشل حتما ولكنا اتهمناه بالإفراط في الخيال بما يخل بمصداقية العمل الفني، ولكن العمل لم يكن فنيا بل كان جماعيا واقعيا ملموسا، شاهدناه بأم أعيننا وعايشنا رموزا تسقط ورؤسا تنحني ونظاما ينهار وحياة تبدأ من جديد.
نعم هناك سلبيات لا أنكر وجودها ولكن هي موجودة بالتوازي مع ما يتحقق من ايجابيات، ولكن أليست هذه هي الحياة؟، أليس من المنطقي في اي اصلاح سواء سياسي او اقتصادي او اجتماعي ان تحدث بعض السلبيات، تلك هي سنة الحياة والتي يجب ان يعيها الناس جيدا، نعم لتذكير القائمين على البلاد بأن الشعب يراقب عن كثب خطواتهم حتى لا يتكاسلوا او يتباطؤا في تحقيق اهداف هذه الثورة الشريفة، ولكن لا وألف لا اذا كان هذا التذكير يتم بشكل يخل أو بالأحرى يكاد يهدم عملية الإصلاح نفسها.
لقد طالبت اثناء الثورة مرارا وتكرارا وكان الرئيس السابق "مبارك" لا يزال على رأس هرم السلطة أن يعي الشعب تماما وجيدا أن اذا كان للحرية ثمن فلابد ألا نجعل هذا الثمن هو مصر نفسها، لقد حمى الله مصر وقت الثورة وحافظ لنا على الشعرة التي تفصل الثورة عن الفوضى، لكن ما يحدث الآن هو جرس انذار خطير، وما حدث ليلة أمس من مواجهة بين المعتصمين في ميدان التحرير وبين الجيش يدق ناقوس الخطر، فلابد ان يدرك الشعب كله ان الجيش في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها الوطن هو خط أحمر بكل المقاييس فإذا ما فقدنا ثقتنا فيه ففيمن سنثق بعدها.
ها قد عدنا الى نقطة الصفر من جديد، وعاد القلق والخوف والرعب وانعدام الرؤية يخيم علينا من جديد، واذا كنا قد تقدمنا خطوتين الى الأمام ناحية الاستقرار الذي يؤدي الى دفع عجلة الانتاج وهي بالمناسبة الضمانة الوحيدة لبقاء الوطن، فإننا اليوم وبعد تلك الأحداث المؤسفة قد عدنا عشرة خطوات أخرى الى الوراء. الغريب ان الاحداث تبدو متلاحقة ومرتبة أكثر مما ينبغي فبين احداث استاد القاهرة والتي نقلت رسالة الى العالم مفادها ان مصر ليست بلدا آمنة، و الاستثمار فيها الآن يعد مجازفة لأي مستثمر أجنبي، بالإضافة لكونها ليست جاهزة بعد لعودة السائحين وانعاش الحركة السياحية من جديد، وحتى أحداث التحرير والتي نقلت هذه المرة رسالة الى المصريين أنفسهم أن مصر بعد 25 يناير لم تعد مصر التي نعرفها، لم تعد البلد الآمنة التي كنا نطمئن فيها على أنفسنا في اي وقت من النهار او من الليل، لقد اصبحت المظاهرات والاعتصامات عنصرا حياتيا في الحياة المصرية، واصبح توقف الحياة شيئا اعتياديا، واصبحت النشرات الأخبارية وصفحات الحوادث وجبة يومية على المائدة المصرية.
أنا لا ألوم الثورة ولا أحملها المسئولية، ولكني أصبحت أحمل خوفا مفرطا على وطني، وأرى غيوما كثيفة تحجب عني رؤية الغد، وتمنعني من رؤية الحاضر والمستقبل، لا أعرف الى اين نسير وقد تبعثرت أولوياتنا، واصبحنا ندفع ثمن الحرية من قوتنا ومن غدنا، ولكن الى متى سنصبر ونتحمل هذا العبء الثقيل، وكيف نرى الوطن في ظل هذا التهييج المستمر، وعدم القدرة على سماع صوت الحق حينما يعلو، ماذا نفعل حينما تتداخل الاصوات في عقولنا؟، هل يستطيع احد ان يتصور ماذا سيكون الحال لو دخل الشعب في مواجهة مع الجيش .. كارثة لا يمكن لأمهر الساسة والمثقفين توقع نتائجها، لكن الأكيد أن الأصابع في الداخل والخارج تلعب وتتحرك في كل الاتجاهات، وهي تشحذ لهذا كل طاقاتها لمحاولة ايقاف مد الإصلاح، ومحاولة دفن مصر في وحل الفتن بين ابناء الشعب المصري.
إن المؤامرة تبدو واضحة وضوح الشمس، ورغم ذلك لا تزال هناك عقولا مغيبة يحركها الصوت العالي، وهي لا تعطي لنفسها الفرصة لتفكر فيما تفعل قبل ان تفعل، ويبدو أن نعمة حماس الشباب التي انتصرت للشعب وأوقعت النظام السابق، هي نفسها وقد تحولت الى نقمة الآن بالإفراط في المطالبات وانتظار النتائج .. أفيقوا يا شباب مصر وأعيدوا ترتيب اولوياتكم، حكموا صوت عقولكم ولا تدعوا أزلام النظام السابق ينتصروا عليكم، انهم يريدونها حربا طاحنة تأخذ الأخضر واليابس، فهذا هو طوق نجاتهم فلا تلقوه لهم واتركوهم يغرقون وحدهم بأفكارهم الهدامة وخططهم الشيطانية.
اللهم بلغت .. اللهم فأشهد