تبدو مصر الآن بلدا علي صفيح ساخن، قلق في كل اتجاه، آراء متعارضة، مخاوف، هواجس، ريب، فوضي أمنية، بلطجة شارع، وبلطجة أجهزة، بينما المجلس العسكري ـ صاحب السلطة الفعلية ـ يتحرك بتلكؤ ظاهر، وتوحي تصرفاته بتباطؤ يشي بالتواطؤ.
وأشد ما نخشاه أن تتداعي الحوادث إلي ما نكره، فالمجلس العسكري يسحب من حساب ثقة مفتوح بالجيش المصري، وتغيب الشفافية رغم تدافع البيانات، ويضرب الناس أخماسا في أسداس، وهو ما قد يتبدد معه رصيد الثقة بالنوايا، وتنزلق الحوادث إلي صدام في الظلام، وبعواقب وخيمة لايريدها وطني مخلص لوجه البلد المسكين.
تأخر محاكمة الرئيس المخلوع إلي الآن لغز كبير، فالرجل كما لو كان في أجازة للاستجمام، يلهو بأوقاته في شرم الشيخ، بينما الهواجس في القاهرة تتزاحم، والتحقيقات كلها تنتهي لإدانته، رغمها لايطلبه أحد، ولا يظهر الضوء الأخضر لبدء التحقيق معه ومحاكمته، ويحبس المجلس العسكري قراره في الأدراج، ويتصل بدواعي الحماية لرجال مبارك المقربين، وإن كانت ساعة التحقيق ـ فالمحاكمة ـ قد دنت من ذوي القربي، واقتربت من نقطة صفر تأخرت كثيراً عن زكريا عزمي وصفوت الشريف وفتحي سرور، بينما ساعة مبارك معلقة، لم تنضبط مواقيتها بعد، وتبدو إجراءات التحضير غاية في البطء، وبصورة قد توحي بإمكانية التراجع في أي وقت، وكأنه يتم الإعداد لمعركة حربية، وليس لمجرد محاكمة مجرم زالت عنه الحصانات الدستورية، وشبه الدستورية، وإن كان يحتمي بحصانات الخواطر، أو بحصانات الأصدقاء عبر الحدود، أو في ركام الكواليس، ومباحثات الوفود الغادية والرائحة.
نعم، ثقتنا بالجيش المصري عظيمة، ولا أحد يتنكر لحقيقة الجيش كبيت للوطنية المصرية، وقد تصرف الجيش بما يمليه الضمير الوطني، وثبت في لحظة الخطر، وخلع عن الرئيس المعزول حمايته، وأعلن انحيازه لشرعية الثورة وآمال الشعب، وأبلغ قراره بالتليفون لمبارك، وطوي صفحة حكمه المباشر. لم يكن القرار ـ بالطبع ـ سهلا ليناً، ولا كانت الطرق ممهدة، ولا كانت عثرات الداخل وحدها هي المشكلة، بل كانت الضغوط متكاثرة ناهشة في «صندوق أسود» بتعبير الأستاذ هيكل في حوار تليفزيوني أخير، كانت أمريكا وإسرائيل علي الخط، تحاولان إنقاذ مبارك إلي آخر لحظة، وكسب الوقت لإجراء ترتيبات مريحة، تضمن دوام المصالح واتصال السياسات، فمبارك لم يكن رجلا ويمضي من زاوية نظر واشنطن، ومبارك كان «أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل» بتعبير الجنرال الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر، كانت واشنطن تتخوف من شبح الهزيمة في مصر، وأبدت حالة من التخبط في التصريحات العلنية، بينما راحت الوفود في الكواليس تجادل وتهدد، فيما بدت رؤوس الإسرائيليين ساخنة أكثر، وعلي استعداد للذهاب إلي آخر الشوط، وخاضت تل أبيب حرب ضغوط شرسة في الدنيا كلها، وفي واشنطن بالذات، وبدا أنها علي استعداد للتصرف بسرعة ولو جري اللجوء إلي حد السلاح، وصل التأزم إلي نقطة الحرج، وهنا ـ بالضبط ـ تصرفت قيادة الجيش المصري، وأقالت مبارك بطريقة مباغتة، ودون تشاور معه، والاكتفاء بإبلاغه الأمر بالتليفون، كانت قطع الأسطول الأمريكي تتحرك باتجاه قناة السويس، وكانت النذر تقترب، والاستعدادات ظاهرة علي الجانب الشرقي للحدود، وبحسب مصادر مطلعة رفيعة المستوي، فلم تكن القصة كلها تهديداًَ وتهويشا، ولا تحركا يضغط علي مجري حوادث الداخل المصري، بل كنا بصدد خطة غزو جاهزة وشيكة التنفيذ، خطة غزو أمريكي ـ إسرائيلي لمصر، وبطريقة تشبه خطة العدوان الثلاثي سنة 1956، تغلق فيها أمريكا قناة السويس، وتتحرك القوات الإسرائيلية لاجتياح سيناء، وبدعوي الخوف علي مصير ما يسمي «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية»، واستناداً إلي مذكرة أمريكية ـ إسرائيلية قديمة موقعة بتاريخ 25 مارس 1979، وجري إبلاغها للرئيس السابق أنور السادات الذي قبلها، وعشية توقيع المعاهدة في 26 مارس 1979، وتنص المذكرة السارية علي «حق الولايات المتحدة في اتخاذ ما تراه ملائما من إجراءات في حالة حدوث انتهاك لمعاهدة السلام، أو تهديد بالانتهاك، بما في ذلك الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية»، وتنص المذكرة أيضا علي أن «تقدم الولايات المتحدة ما تراه لازما من مساندة لما تقوم به إسرائيل من أعمال لمواجهة هذه الانتهاكات، خاصة إذا ما رئي أن الانتهاك يهدد أمن إسرائيل».
انتهي النص، ولم تنته المحنة، والمحصلة ظاهرة، وهي أن خرائط مصر الآن ملتبسة، فيها الظاهر، وفيها المخفي، فيها ما يعلمه الناس وفيها مالا يقال للناس، فيها مجلس عسكري ومعارضات وتيار إسلامي يتغول، فيها محاكمات فساد، ومحاكمات جنرالات، وارتباك اقتصاد، وتفريغ أمني، فيها انقباض صدور، وآبار غضب تغلي، وفيها ما يخفي، ويقيم الحواجز، ويغلق الطرق، ويغلق الأفواه، وفي الغرف المغلقة يحدث مالا تعلمون، ومالا نعلمه بنصه وحرفه، وإن كانت الإشارات ناطقة، فالسيدة كلينتون لا تأتي لكي تشم الهواء في القاهرة، ولا السيد جون كيري، ولا السيد روبرت جيتس وزير البنتاجون، لا يأتي هؤلاء ـ وغيرهم ـ إلي مصر في جولة سياحة، ولا للفرجة علي ميدان التحرير، وبعد أن تعذر عليهم - بدواعي البروتوكول - الذهاب لشرم الشيخ، وحيث يقيم رجلهم المخلوع، وفي المنطقة منزوعة السلاح العسكري بالكامل، وفي ظلال الحراب المشرعة من الأصدقاء الإسرائيليين.
الصورة ـ إذن ـ معقدة، وتتطلب قراراً وطنياً خالصا، يحتمي بالناس ولايتنكب طريقهم، وتلك مسئولية المجلس العسكري، ومسئولية المشير محمد حسين طنطاوي، فقد قادته الأقدار إلي موقف قرار، والشعب ينتظر القرار، الشعب يريد مكاشفة صريحة حاسمة، فهو صاحب الحق الأصيل في الثورة، والمجلس العسكري في مقام الوكيل، ومن حق الأصيل أن يراقب الوكيل، وأن ينتقد ويلح، وأن يقلق علي الثورة المهددة بالسرقة، وأن يري خيطا من نور، وإجراءات حسم تليق بثورة كاملة الأوصاف، وإنهاء التباطؤ الموحي بالتواطؤ، وإنهاء التستر علي حقيقة الضغوط الأمريكية ـــ الإسرائيلية، ويملك المجلس العسكري أن يصارح الناس، ويملك المجلس العسكري أن يفعلها بجرة قلم، يملك الأمر بالبدء في محاكمة مبارك وعائلته الفاسدة، وفي الحال قبل الاستقبال، ويملك الأمر بمحاكمة وإنهاء خدمة ضباط الداخلية الممتنعين عن الانتظام في العمل، وقمع تمرد الضباط وأمناء الشرطة، ووقف الحرائق الغامضة، وبناء وزارة داخلية جديدة، وعلي أسس تحفظ الأمن العام، وتنهي الفوضي الأمنية، ويملك المجلس العسكري الأمر بحل محليات الفساد وحزب الرئيس المخلوع واستعادة مقراته للدولة، ويملك المجلس العسكري الأمر كنس النظام القديم، والبدء في مرحلة انتقال مباشرة تعيد بناء البلد، وبصورة لاتجعله خصماً لحريات الناس علي طريقة قرار تجريم الإضرابات والاعتصامات العمالية والفئوية.
ياجنرالات المجلس العسكري، الناس تريد أن تري علامة علي زوال فعلي لنظام مبارك الفاسد بالجملة، الناس خائفون علي مصير الثورة، ولهم ألف حق، فالمحافظون الذين عينهم مبارك في أماكنهم لايزالون، ورؤساء التحرير، والعمداء ورؤساء الجامعات، وقطاع من الوزراء، وجهاز أمن الدولة المنحل يعاد ترتيب صفوفه، وإن تغير اسمه علي سبيل التضليل، ومبارك يستجم في شرم الشيخ، والفاسدون يغيرون الأقنعة، ولا تقولوا لنا إن النائب العام يؤدي عمله، فالعمل عملكم، والصمت صمتكم، والتراخي مسئوليتكم، والثورة لم تلد فجرها بعد، وطلق البلد حام، والسخط يتزايد، والثقة تتبدد، ونخشي أننا قد نذهب مجدداً إلي حريق.