سلسلة اصنع نجاحك 4 .. سيد الخلق وقدوة الناجحين



(لقد اخترت محمدًا "صلى الله عليه وسلم" في أول هذه القائمة، ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا "صلى الله عليه وسلم" هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي).
مايكل هارت مؤلف كتاب المائة الأوائل
ترددت كثيرًا في الاستشهاد بصور النجاح في حياة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن البعض يرى فيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نبيًا يأتيه الوحي من السماء، ويؤيده الله بالنصر الذي وعده، وهذه الصورة لمحمد "النبي" تجعل من الصعب على البعض أن يراه مثالًا للنجاح في الأمور الدنيوية؛ لأنه لا يرى فيها صورة محمد (الإنسان)، الذي يأخذ بأسباب النجاح في الوصول إلى أهدافه.
والحقيقة أنني شعرت أنه من العار أن نتحدث عن صناعة النجاح، ثم لا يأتي ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم رجل عرفه التاريخ، وهو الذي أحدث أكبر تغيير عرفته البشرية على وجه الأرض؛ ولأنه صلوات ربي وسلامه عليه يتمتع بمواصفات عالية في سلم البشرية، فقد اختاره الله تعالى لحمل الرسالة و(الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام: 124].
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنسان الذي تبتل إلى الله وانقطع عن الدنيا؛ لأن قلبه تعلق بالله، الإنسان الذي لم ينتقم لذات نفسه من أحد قط، بل كان يدعو لعدوه بالخير، لكنه في ذات الوقت لا يتهاون فيمن يفرط في حقوق الله.
تراه زاهدًا في الدنيا، عابدًا يقوم الليل، في الوقت الذي تراه جنديًا باسلًا يقاتل مع أصحابه بسيفه مع أنه النبي المعصوم.
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنسان الذي فتح البلدان وظفر بالأمم وحكم الدنيا من حوله، لكنه يضطجع على حصير من الخوص، ويتكيء على وسادة محشوة بالليف.
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي تجلت إنسانيته في أدوار الزوج والأب والوالي والعسكري والتاجر والعبقري في كل ممارساته، مع ذلك فهو لا يميز نفسه عن أصحابه في مكان، بل يجلس حيث ينتهي به المجلس.
لكل ذلك؛ كان لزامًا أن يأتي هذا الرسول، الرجل العظيم، صلى الله عليه وسلم في مقدمة الناجحين نبراسًا لهم، وأسوة لنا جميعًا، كما أمرنا ربنا في قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا) [الأحزاب: 21]، ولن أقدم في ذلك سيرة ولا تاريخًا، لكنني سأستشهد بمواقف متفرقة هنا وهناك من حياة هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.
الهدف العظيم:
(العالم بأسره يفسح الطريق للشخص الذي يعرف وجهته)
رالف والدو إميرسون
لقد كان هدفه صلى الله عليه وسلم إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد، فلم يكن ليحيد عن هذا الهدف أو يقبل فيه بأي مفاوضات، فعندما جاء كفار قريش إلى عمه أبي طالب، وقالوا له: (إن ابن أخيك هذا سفه أحلامنا وشتم آباءنا وسب آلهتنا ...، إما أن تكفه عنا وإما أن نقاطعك وإياه)، ما تجاوز صلى الله عليه وسلم أن قال: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أبدًا حتى يظهره الله أو أهلك دونه ...).
وفي غزوة حنين، عندما وقع المسلمون رغم كثرتهم وقوّتهم في كمين الكفار، بقيادة مالك بن عوف، فروا وتفرقوا، بينما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هدفه نشر الدعوة والانتصار لله، لم يغب عن ناظريه؛ لذلك ركز بغلته تجاه جيش العدو وهو يقول: (أنا النبي لا كذب ...أنا ابن عبد المطلب)، حتى التف حوله أصحابه، ودارت الدائرة لله ورسوله.
وفي هذا يقول الله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) [التوبة: 25-26].
طريق النجاح لا يعرف اليأس:
(المداومة والمثابرة والإصرار على الرغم من كل العقبات والإحباطات والمستحيلات، هي العوامل التي تميز صاحب الروح القوية، عن صاحب الروح الضعيفة في كل الأمور)
توماس كارليل
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة سرًا ثلاث سنوات، ثم جهر بها بين عشيرته الأقربين، ثم بين قريش في مكة، ثم لم يكتف بذلك، بل وسع دائرة الدعوة إلى خارج مكة، فذهب إلى الطائف، وكان كلما مر بقبيلة في الطريق دعاها للإسلام، فلما آذوه ورموه بالحجارة، عاد إلى مكة مستجيرًا بالمطعم بن عدي، حتى يدخل مكة ويكمل مشوار الدعوة الخالدة.
وهنا كانت الخطة الجديدة، وهي أن يستغل صلى الله عليه وسلم الموسم؛ حيث كانت الناس تأتي إلى الحج من أقطار الدنيا، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إليه بعد أن انتشر ذكره صلى الله عليه وسلم في العرب، رغم معارضة قريش له واتهامه بالسحر، إلا أنه نجح في إقناع بعض الأفراد بالدخول في الإسلام، مثل سويد بن صامت من يثرب، وأبو ذر الغفاري، وطفيل بن عمرو الدوسي، وضماد الأزدي.
والحقيقة أن أولى بذرات النجاح تحققت في بيعة العقبة الأولى في السنة الثانية عشرة من النبوة، عندما بايعه صلى الله عليه وسلم نفر من أهل يثرب، ودخلوا في الإسلام فبعث فيهم صلوات الله وسلامه عليه أول سفير في الإسلام مصعب بن عمير؛ ليعلمهم شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ولم تأت السنة التالية، حتى لم يبق في يثرب بيت لم يدخله الإسلام.
أما في بيعة العقبة الثانية، فقد نجح الإسلام في تأسيس وطن جديد له، بعد أن قطعت الخزرج على نفسها عهدًا بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته، وهم يعلمون خطورة ما هم مقدمون عليه، ومن هنا بدأت هجرة المسلمين إلى هناك سرًا وجهارًا، حتى لحق بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر سنة 14 من النبوة.
وكم تصدى النبي صلى الله عليه وسلم للناس، حتى أثر ذلك على عبادته في أخر حياته، فتقول عائشة: (كان أكثر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل في آخر حياته وهو جالس بعد أن حطمه الناس)، حطمه الناس بقضائه لحاجاتهم وخدمته لهم.
التخطيط أساس النجاح:
أما التخطيط في أجمل صوره وأبهاها، فقد ظهر في صلح الحديبية، الذي اتفق فيه صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش بمكة، على أن يرجع المسلمون عن العمرة عامهم ذاك، وأن يدخل الطرفان في هدنة لمدة عشر سنوات، وأن يترك من أراد أن يدخل في عقد أي من الفريقين وعهده أن يفعل، وأن يُردَّ إلى المشركين من أتى محمدًا صلى الله عليه وسلم هاربًا من وليِّه، ولكنه مع ذلك يستطيع الفرار بدينه إلى أي مكان آخر في أرض الله الواسعة، أما من جاء إلى المشركين فارًا من محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أمر مستبعد الحدوث فلا يُرَدُّ.
رغم أن هذا الصلح في ظاهره مجحفٌ بالمسلمين، إلا أنه اعترافٌ لم يسبق له مثيل من قريش بوجود المسلمين وهيبتهم، ثم إنه نصرٌ للإسلام والمسلمين؛ حيث رضيت قريش التي تخلت عن صدارتها الدينية في مكة أن تترك الناس يدخلون في دين الإسلام، فبينما كان عدد المسلمين قبل الصلح لا يتجاوز ثلاثة آلاف، صار جيشهم عند فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف مقاتل، ذلك كله مقابل أن تكسب قريشًا صد المسلمين عن البيت الحرام عامًا واحدًا.
الاهتمام بعامل الوقت:
فانظر إلى التعامل مع الوقت بكل دقة، عندما علم صلى الله عليه وسلم بقيام هرقل ملك الروم، بتجهيز جيش أربعون ألف مقاتل لسحق المسلمين في المدينة، رغم شدة الحرِّ وقلة العُدَّة والعتاد، فقد عرف صلى الله عليه وسلم، أنه لو انتظر إلى حين وصول الرومان إلى المدينة مع من معهم من قبائل العرب المتنصرة والمنافقين، الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، لتلقَّى الإسلام ضربة قاصمة، بعد أن أصبحت الجاهلية على وشك أن تلفظ نفسها الأخير بعد غزوة حنين.
لذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إليهم، وأعلن ذلك صراحة دون تورية، واستنفر القبائل، وتحرك إلى تبوك في جيش يبلغ ثلاثين ألف مقاتل، وهو رقم لم يبلغه جيش للمسلمين من قبل؛ لذلك لم يكن كامل التجهيز، ولقلة المركب فقد كان 18 رجلًا يتعاقبون على البعير الواحد، وكانوا يأكلون أوراق الشجر حتى تورمت شفاهم؛ لذلك سمي هذا الجيش (جيش العسرة).
ومع ذلك فقد هابته صلى الله عليه وسلم القبائل التي مر بها وصالحوه، ودفعوا له الجزية، وأيقنت كل القبائل التي تعمل لحساب الرومان، أنه لم يعد بإمكانها الاعتماد عليهم فانقلبت لصالح المسلمين، وتوسعت دولة الإسلام، حتى حدود الرومان مباشرة، دون قتال ولا خسائر في الأرواح.
والآن، ماذا بعد الكلام؟
لكي تسير في طريق النجاح، لابد أولًا أن يكون لك قدوة؛ لذا أدعوك أن تبدأ في قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتطبق ما تعلمته من سيرته.
وأخيرًا:
تذكر ما قاله بريان تراسي: (إن لديك مخزونًا من القدرات الهائلة التي لم تستغل بعد داخلك، ومهمتك أن تحررها)، وسوف نكمل في المرة القادمة ـ إن شاء الله ـ الجزء الخامس من سلسلة اصنع نجاحك.
أهم المراجع:
1. صناعة النجاح، عبد الله بن سلطان السبيعي.
2. المائة الأوائل، مايكل هارت.
3. قوة الأهداف، كاترين كاريفلاس.
4. الإنجاز الشخصي، بريان تراسي.
5. أفضل ما في النجاح، كاترين كاريفلاس.