لايمكن بحال استثناء البعد الاجتماعي من التفكير الاقتصادي مطلقاً وانعكاسات السياسات الاقتصادية على استقرار المجتمعات. ولم يكن التوسع في استخدام التقنية الحديثة من مظاهر الاستثمار التي رفعت معدلات الإنتاجية وأحسنت إدارة الوقت فحسب، بل نتج عن ذلك من ناحية أخرى، ضغط على الموارد البشرية من حيث كونها أحد عناصر الإنتاج فقد أخذت وسائل التقنية الحديثة تحاصر دورهم وتقلل في حالات كثيرة من الاعتماد على العنصر البشري. ولقد ولّد هذا بدوره على رغم الإنتاجية العالية كلفة اجتماعية أضافت إلى أسباب البطالة والتأزم سبباً آخر. يمكننا القول أن القرن القادم سيوسع الفجوة الحاصلة بين التقدم التقني والكفاءات التقنية الناتجة عنه، وبين السياسات الاقتصادية التي تسعى للوصول إلى كفاءة الأداء الاقتصادي في المجتمعات الحضارية. فالعالم شهد مرحلة ثورية في مجالات التقنية الحديثة والتي كانت أداة حتمية لما يشهده العالم من عولمة لأدائه الاقتصادي المترابط الأثر والحدوث والنتائج وما تولد عنه من سعي لتداول الخدمات التي استلزم استخدامها وجود بنية تحتية تقنية متطورة، والتي انعكست جميعها على طبيعة أداء الاقتصاديات العاملة فيه. فأصبح توجه القطاعات الاقتصادية المختلفة نحو التقنية هو الأداة الأولى، غالباً لتمتلئ بها مكونات أي قطاع لتحسين كفاءته المحورية التي تمنحه ميزته النسبية بين قرنائه، وتجعل أدوات منافسته أقوى في أسواق محتدمة باتت لا تسعى وراء احتياجات العملاء needs بل متطلباتهم التي غالباً ما باتت تسبق توقعاتهم وإحساسهم بها. والجانب الآخر من عملية التقدم التقني والتوسع في تبنيه من قبل القطاعات الاقتصادية هو ما انعكس أثره على مدخل عملية الإنتاج المتغيرة - العامل البشري - حيث إن نتائج هذا التوسع تلاحظ بصورة مباشرة في جانبين يمكننا توضيحهما فيما يلي: أولاً: جانب العمالة وسوق العمل Labor & Labor Market لعل الأثر الواضح للتوسع في استخدام التقنية ينبع من كون العمالة مدخل تغير في الدالة الإنتاجية، فدالة الإنتاج هي اقتران للعمالة ورأس المال. حيث تستطيع المنشأة تغيير كمية الأيدي العاملة بها وإحلالها بالتقنية الحديثة بصورة سريعة دون تحمل كلفة إحلالية غير تلك المتأتية من الاستثمار في هذه التقنية. ولعل السبب في تبني السياسيات الإحلالية يأتي لعدم خضوعهـا لمبدأ انخفاض الميل الحدي للإنتاج Diminishing of Marginal Production بمعنى أن متوسط مساهمة الآلة في إنتاج السلعة ثابت ومتحكم فيه عن طريق تعديل الاستفادة من سعتها الإنتاجية، وكذلك فإن مبدأ انخفاض الغلة Law of Diminishing Returns لا ينطبق عليها على النقيض من الأيدي العاملة، حيث إن ازدياد عددها يؤدي إلى انخفاض مساهمة الفرد الواحد في إنتاجية المنشأة والعائد المتأتي. وهذا عامل هام جعل القطاعات الاقتصادية تتوجه نحو الصناعة ذات الكثافة الرأسمالية - التقنية - Capital- lntensive lndustry بدلاً من الصناعة ذات الكثافة العمالية Labor- lntensive industry وكان لذلك أثره على سوق العمل حيث إن التوازن - النظري المفترض - ما بين عرض العمال والطلب على العمالة أخل به بصورة كبيرة، وكذلك خلق نوعاً من الطلب التخصصي وهـــو طلب مشتق من الطلب الكلي في سوق العمل علـــى شريحـة محددة، حيث تحوـلت المنشأة تدريجيـاً نحــو طلب موظفــي النمـط الإداري الأول Top- Line Management والذي يمثل عادة العدد الأقل في أي منشأة. لكن ما هي المؤثرات السلبية لهذه العملية؟ - نبدأ بالأثر الكلي وهو ارتفاع معدل البطالة عن الحد الطبيعي وما لذلك من أثر سلبي على انسجام أداء عوامل الاقتصاد الكلي مجتمعة في السياسة المالية والنقدية المتبناة من قبل النظام الاقتصادي السائد. - قد تؤدي عملية تبني القطاعات الاقتصادية للتقنيات الحديثة للإنتاج لأن تتجه المنشآت في سياساتها التناسبية إلى تبني سياسات إغراقية لمخرجاتها الإنتاجية مما يؤدي بدوره إلى وصول الأسواق إلى حالة ما فوق الإشباع، الأمر الذي ينتج عنه انتكاسة اقتصادية وتراجع في النمو الاقتصادي للدولة. - ارتفاع في معدل التضخم، إذ غالباً ما تدفع عملية تطوير تقنية الإنتاج إلى تحميل المستهلك النهائي تكلفة الإحلال هذه بصورة ارتفاع في أسعار السلع المنتجة، لكن هذه الحالة قد تحدث إذا انفرد قطاع ما بتبني تقنية إنتاجية حديثة بانعدام منافسة قوية موجهة نحوه. وهذا الأثر يلمس على المدى القصير وقد لا يمتد إلى المدى الطويل. إن التقدم التقني الواسع وانخفاض كلفة الوحدة الإنتاجية جراء تبني المنشآت سياسات إنتاجية كثيفة يؤديان بدوريهما إلى احتدام المنافسة السعرية والسوقية بين الشركات متعددة الجنسيات ما يدفع بدوره إلى حروب تنافسية تسعى بها لإخراج الأضعف من الأسواق العالمية، وغالباً ما ينتج عن ذلك تأثر أداء الاقتصاد العالمي كمنظومة واحدة وصولاً في أسوأ الاحتمالات إلى حالة من الركود العالمي. ثانياً: جانب المستهلكين - الأثر المباشر هو انخفاض القدرة الشرائية لجمهور المستهلكين جراء تحميلهم الجزء الأكبر من التكلفة الإحلالية في سعر المنتج. - انحسار ظاهرة البيع الشخصي، وهو غالباً ما يفضله جمهور المستهلكين من حيث الاتصال الشخصي المباشر بينهم وبين البائعين. إذ إن التقدم التقني أنشأ قنوات بيع جديدة يخلو معظمها من الاتصال المباشر خلال عملية البيع. - من نتائج انحسار ظاهرة البيع التشجيعي ضعف القدرة التفاوضية للمشترين. إن الجانبين السابقين ينعكس عليهما الأثر المباشر لعملية الأتمتة التي تمر بها اقتصاديات الدول، ولا يجوز لنا هنا أن نغفل عن جوانب أخرى لا تقل أهمية عن البعد الاقتصادي وهي الجوانب الاجتماعية. الجوانب الاجتماعية: ترتبط الجوانب الاجتماعية بعملية الأتمتة لما ينتج من أثر العوامل الاقتصادية السابقة وخصوصاً ذات الأثر الواضح في جانب العمالة وسوق العمل من حيث ارتفاع معدلات البطالة في شريحة عريضة من القوى العاملة - المسرحة-. ولعل أهم ما يعنى بدراسته علماء الاقتصاد الاجتماعي الارتباط القوي بين ارتفاع معدل البطالة وشيوع عدم الاستقرار الاجتماعي من حيث ارتفاع معدلات الجريمة. فقد أظهرت دراسات عدة أن الارتباط بين هذين العاملين قوي جداً. وهذا يحتم على الدولة في المقابل زيادة الإنفاق الحكومي الموجه نحو الغايات الاجتماعية للعاطلين عن العمل والطبقة المعدمة التي سيوجدها واقع اقتصادي كهذا، ما يسبب عبئا آخر على ميزانيتها. ولعل أكثر البرامج نجاحاً لمعالجة هذه المعضلة هو ما تقوم به بعض الحكومات من برامج موجهة لإعادة تأهيل القوى العاملة المسرحة وتدريبها بمساعدة مؤسسات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة للتطوير والتنمية UNDP ليتسنى لهذه القوى المسرحة اكتساب المهارات التي تؤهلها للدخول في حلقة الإنتاج. إن قوى التغيير التي تطرأ يوماً بعد يوم، والتي تمثل مخرجاتها تحديات كبيرة أمام واضعي السياسات وأصحاب القرار، تضع مسلمات واضحة تدل على أن القرن القادم سيكون بعيداً كل البعد عن طرق الإنتاج الميكانيكية التقليدية التي لم تكن لتتطلب كثيراً من المهارات المكتسبة وبرامج التدريب والإنفاق عليها. ولمواجهة تحديات هذا القرن لابد أن تلزم الحكومات المنشآت الاقتصادية - من خلال عمليات التطوير الكبيرة التي تطرأ على أساليب إنتاجها - بالتنبه إلى العامل البشري وعدم استثنائه عن دالة إنتاجها. فدالة الإنتاج ثابتة لا تتغير وإن تغير الوزن الكمي لشقيها.