بسم الله الرحمن الرحيم: ''يا أيها الذين أمنوا، إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين'' صدق الله العظيم (الآية 6 من سورة الحجرات).

كان لابد وأن تكون البداية مع هذه الآية الكريمة، التى صار عدم الإيمان بها يحكم الساحة المصرية كلها تقريباً الآن؛ إذ صارت عقول فئة كبيرة من المصريين مستقرة فى آذانهم، وليس فى رءوسهم؛ فيكفى ان يطلق مأجور ما شائعة، مستغلاً حالة الاندفاع الانفعالى على الساحة، حتى تسرى سياسة القطيع، وتنطلق كل الانفعالات، التى اختزنها الشعب المصرى لما يقرب من ستة عقود من الزمن، وتؤتى الشائعة المغرضة ثمارها، ويشتعل الشارع، فى وقت لم تعد (مصر) تحتمل فيه أية اشتعالات، باقتصادها الذى يوشك على الانهيار، ومستقبلها الذى يوشك على الضياع.
وما يحدث حالياً على الساحة المصرية، هو ما يطلق عليه، عبر التاريخ كله، مصطلح (الثورة المضادة)، التى تسعى، أول ما تسعى، إلى إحداث فوضى عارمة فى البلاد، وحالة من الانفلات على كل المستويات، مستغلة فى ذلك طاقة الثورة نفسها، مع إعادة توجيهها ، عبر شائعات مدروسة، إلى الاتجاه المضاد.
ودعونا هنا نطرح مجموعة من الاسئلة ، وعليكم أنتم البحث عن الأجوبة المنطقية لها ، وربما .... أقول ربما ، يوصلكم هذا إلى الحقيقة ...
خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير ، والتى تعد أم الثورات، فى التاريخ الحديث كله ، باعتبارها شبابية ، رقمية ، سلمية ، شاملة ، وناجحة ، ظلت كنائس (مصر) كلها بلا حراسة أو حماية، وخرج المسيحيون مع المسلمين، يتظاهرون مطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية ، عبر إسقاط نظام جائر، لم يرحم شعبه يوماً، بل تركه نهباً للأمن وتعنتاته وتجاوزاته، وعلى الرغم من هذا، لم يلق حجر واحد ، على كنيسة واحدة .
حتى بعد انهيار الأمن ، وغيابه عن الساحة ، وحالة الانفلات الأمنى الرهيبة ، التى عانى منها كل مصرى ومصرية ، بغض النظر عن ديانته وعقيدته وانتمائه ، ظلت الكنائس آمنة سالمة ، لم تمس.
ثم بدأت عملية محاسبة الفساد ، وتعقب الفاسدين ، وسقطت رءوس كبيرة، كانت تتصوَّر نفسها آلهة، لن تخضع لحساب الدنيا أو الآخرة ، ورأينا رموزاً احتلت الساحة طويلاً ، وهى تحتل مكاناً فى زنازين السجون.
والفساد لا يأتى من الرءوس الكبيرة وحدها ، فكل رأس جسد وذنب ، ومادام الرأس قد سقط ، فسرعان ما تسقط الأذناب جميعها ، فى سلة العقاب.
لذا ، فقد بدأت تلك الأذناب ما يعرف باسم (الثورة المضادة) .. وكما تبدأ كل الثورات ، المضادة فى التاريخ ، بدأت الثورة المضادة فى (مصر) بجناحين فى آن واحد .. استثارات فئوية ، عبر إقناعها بان الوقت هو المناسب ؛ لالتهام كل ما يمكنك من تورتة (مصر) ، وأن من لا يحصل على ما يريد الآن ، لن يحصل عليه غداً .
وإطلاق الشائعات ، التى تساعد على التهاب الشارع واحتقان الساحة ، عبر توزيع منشورات ، تحوى معلومات يصعب التيقن منها ، ومواقع الانترنت ، التى صارت أسهل وسيلة للترويج ، سلباً وإيجاباً .
والمؤسف أن جناحى الثورة المضادة قد وجدا آذاناً مصغية ، من فئات كثيرة من الشعب ، وعلى رأسها شباب متحمس ، غاب عنه المشهد السياسى ، وغلب عليه المشهد الاندفاعى الانفعالى.
وغابت (مصر) عن أذهان الجميع.
لم يعد هناك من يدرك خطورة ما يمر به الوطن ، ولا فداحة ما يمكن أن يصيبه ، لو لم تهدأ الساحة ، وتعود عجلة الانتاج إلى الدوران ...لم يعد هناك من يرى ذلك الخطر المحدق بحدوده ، من الشرق والغرب والجنوب.
لم يعد أحد يدرك خطورة اتفاقيات دول حوض النيل ، ولا يمكن أن تعانيه (مصر) ، من جفاف ينقص زرعها ، وضرعها ، وحتى مياه شرب أهلها ..لم يعد أحد يفكر ، بشكل عام .. فالاحتجاجات الفئوية ، التى لا تريد أن تهدأ أبداً ، تنخر فى كيان اقتصاد البلد ، وتخفض من عائده القومى ... ومن قيمة الجنيه المصرى بالتالى، مما يعنى أنه حتى لو حصل كل المحتجين على زيادة قدرها خمسين فى المائة من دخولهم الحالية ، سيصعب عليهم جداً ، أن يتمتعوا بنفس الحياة ، التى كانوا يتمتعون بها قبل الزيادة ؛ لأن القيمة الشرائية للجنيه نفسه ستنخفض ، من انهيار الاقتصاد ، فتتضاعف الأسعار خمس أو ست مرات على الأقل.
أما التظاهرات والاعتصامات المتوالية ، فما سينتج عنها هو مشهد سياسى عالمى ، يوحى بأن (مصر) لم تعد آمنة ، فينهار قطاع السياحة بالتالى ، ونفقد ما يقرب من ثلث مواردنا ، فتنخفض قيمة الجنيه أكثر ، وترتفع الأسعار على نحو جنونى.
والحديث عن أن الاعتصامات والتظاهرات ، سواء مليونية أو فئوية ، غير مسئولة عن ذلك ، هو فى حد ذاته حديث غير مسئول ، فهى إما مؤثرة ، وهذا سيشمل التأثيرين ، السلبى والإيجابى ، وإما غير مؤثرة ، فلا داع لها إذن !!.
نأتى هنا إلى الفتنة الطائفية ، التى اشتعلت فجأة ، فى أنحاء البلاد ..ألم ينتبه أحد ، إلى أن تلك الفتنة لم تندلع ، إلا بعد اقتحام مقار أمن الدولة ، وانتشار طرح وثائقها ، على شبكة الانترنت ؟!.
ألم يدرك أحد ، أن هذه لعبة أمن الدولة ، منذ سنوات عديدة ، كلما جد جديد ، يستدعى وقفة شعبية ، اندلعت فتنة طائفية فى مكان ما ، وابعدت الانظار عن القضية الرئيسية الحقيقية ؟!
الواقع أنه هناك من لا يعنيهم ان تشتعل (مصر) ، بل ويفيدهم هذا كثيراً ؛ لأنه سيبعد الانظار والمشهد الإعلامى عنهم حتماً ، وهذا ما بدا واضحاً على الساحة ؛ إذ فور اندلاع الفتنة ، لم يعد الإعلام مشغولاً بوثائق أمن الدولة ، بقدر ما هو منشغل بالفتنة ، ومحاولة القضاء عليها.
ولعبة وثائق أمن الدولة هذه ، تعد أحد أخطر وأذكى الألعاب ، التى لعبها أمن الدولة فى تاريخه ، فساذج هو من يتصوَّر أن تلك الوثائق قد تركت بالمصادفة، وإنما تم حرق وإعدام الوثائق الرئيسية والخطيرة ، منذ الحادى عشر من فبراير ، بعد تنازل الرئيس السابقق عن الحكم ، وانهيار نظامه المستبد ، وتم ترك الوثائق ، التى يفيد انتشارها حالة الفوضى ، التى تسعى إليها الثورة المضادة.
ولقد شاهدنا وطالعنا ، عبر شبكة الانترنت ، وثائق هزلية ، تم صنعها بوساطة برنامج (فوتو شوب) ، تحمل شعار امن الدولة ، مع محتوى فكاهى ، يسخر فيها بعض الشباب ، من أمور شتى ، مما يعنى أن تزويد تلك الوثائق أمر ممكن تقنياً.
فماذا لو لم يكن التزوير هزلياً ؟!..
ماذا لو ان انتشار تلك الوثائق ، على شبكة الانترنت ، يسمح بنشر أخرى ، مزوَّرة باتقان ، عبر الشبكة نفسها ؛ لإثارة بعض البلبلة ، أو التشكيك فى بعض الشخصيات ، من الوزراء الحاليين أو السابقين ؟!.ماذا ؟!..
أتعشم أن تكونوا قد استوعبتم الفكرة ..والخطة ..واللعبة ، التى تدرَّب عليها أمن الدولة ، ومارسها طويلاً وكثيراً ..لعبة البلبلة ...والفوضى ...
والمطالبون بإلغاء جهاز أمن الدولة تنطبق عليهم تماماً مقولة غياب المشهد السياسى ، وحضور المشهد الانفعالى ..هذا لأن جهاز أمن الدولة جهاز هام وضرورى للغاية، لما يمثله من حماية للأمن الداخلى للدولة، ومكافحته للإرهاب والتجسس المضاد، وإذا كان قد انحرف عن واجبه الأصلى ، وتجاوز مهام وظيفتة ، فهذا يعنى السعى لتقويم أسلوبه ، وتصحيح مساره ، وليس إلغاءه بصفة عامة ، وإلا لفقدنا وسيلة هامة للغاية ، لحماية الأمن الداخلى من الاستهدافات الخارجية ، وهى اكثر مما يمكن أن تتصوَّروه ...لقد حدث انحراف فى مجلس الوزراء ، فى ظل النظام السابق ، فهل نلغى مجلس الوزراء ؟!...
وحدثت انحرافات فى كثير من أجهزة الدولة ، فهل نلغى أجهزة الدولة ؟!..وماذا عن الانحرافات فى مؤسسة الرياسة ؟!..هل نلغى أيضاً مؤسسة الرياسة ؟!..والفساد شاع فى الدولة كلها ، مع سياسة القمع وتقريب المنافقين ، فى النظام السابق ، فهل نلغى الدولة ؟!.الإلغاء ليس هو الحل ، بل التقويم ..
الإلغاء يشبه نفس السياسة، التى كان يتبعها النظام السابق ؛ ليريح عقله من كل مشكلة تواجهه.و(مصر) بعد الثورة ، ليست نسخة مكرَّرة من النظام السابق ..المفترض أن تكون (مصر) حرة.. ديمقراطية..عادلة.
والحرية والعدالة والديمقراطية ، كلها تتطلب العقل والحكمة .... والصبر ..حتى المناداة بسرعة عقاب الفاسدين ، أمر يتعارض مع أبسط قواعد الديمقراطية ، التى خرج الشعب كله ينادى بها ، وأسقط لغيابها النظام السابق ..
والديمقراطية العادلة ، لا تستوجب الإسراع والانفعال ، بل الصبر وسيادة القانون ، الذى ينبغى أن يخضع له كل مواطن ، على أرض (مصر)، مهما كان موقفه ..حتى السفاحين ، تحتم الديمقراطية حصولهم على محاكمات عادلة ..
الديمقراطية الحقة تستلزم تحقيقات دقيقة ، وأدلة ، ومستندات ، وقرائن ، ثم محاكمات ...
وعدالة المحاكمة ، تحتم وجود دفاع ، حتى عن أحقر وأشرس السفاحين ، قبل صدور الاحكام وتطبيقها ....
ربما يستغرق هذا بعض الوقت ... ولكنها الديمقراطية ...
هذه الكلمات يصعب أن ترضى ساحة محتقنة ، يحتل فيها الانفعال محل العقل والتروى والتفكير ، ولكنها ترسم صورة (مصر)، التى نسعى إليها ...صورة إما ديمقراطية ..أو انفعالية ..
والحكمة العالمية تقول : " من عاش بالسيف مات بالسيف "
فلو قبلنا بالديمقراطية، سنحيا جميعاً فى ظلها أبداً، ولو رضينا بالانفعال والفوضى، سنعانى منهما فى المستقبل، كما حدث فى الثورة الفرنسية، عندما غلب عليها الانفعال، وأعدمت الآلاف بلا محاكمات عادلة، ثم انتهت إلى أن من قاموا بها قد تم إعدامهم، وأيضاً بلا محاكمات عادلة.
اقرأوا التاريخ وتعلموا منه، حتى تنجح الثورة، وتحقق الأهداف التى قامت من أجلها، وانتصرت بها..اقرأوا التاريخ، واعلموا من اجل المستقبل..مستقبل (مصر).. ومستقبلكم.

بقلم د. نبيل فاروق