الســلطة (بفتح السين)

من السهل في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية وانهيار الأسواق أن نخلط بين السُـلطة والسَـلطة؛ فعندما تعم الفوضى، ويتوجس الناس خيفة من البطالة والفقر والفاقة، تصبح "الفتحة" أهم من "الضمة."

كان "توماس كارلايل" أول من استخدم تعبير "السلطة الرابعة" لوصف النفوذ الذي كانت تتمتع به الصحافة في القرن التاسع عشر، حين كانت السياسة أقوى من الاقتصاد، والفلسفة أهم من "البيزنس." أما اليوم، فقد أزاحت سلطة الاقتصاد الإعلام عن عرشه، فتحول من رقيب على المصلحة العامة إلى سجين تكبله الأغلال، أو متهم في أحسن الأحوال!

لقد كان واضحا مثلا أن صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية تعاطت مع أزمات العالم الاقتصادية بمهنية أكثر من منافستها "وول ستريت جورنال" الأمريكية التي تعاني من ضغوط هائلة تعمي نظرتها وتشل حركتها؛ فهي تأتمر أولا بأوامر "روبرت مردوخ" مالكها الجديد الذي حولها إلى منبر سياسي يحفل بالانتخابات الأمريكية أكثر من المشكلات الاقتصادية، وتأتمر ثانيا بأوامر دهاقنة المال والأعمال في نيويورك، حيث لا تستطيع تجاهل مصالح الشركات الكبرى التي تستطيع أن تصيبها في مقتل بمجرد تقليص حصتها من ميزانيات الإعلان وهبات الإعلام.
تعيش الصحافة المطبوعة - وحتى المرئية - اليوم في دوامة يصعب الخروج منها. فقد أدى تحالفها مع الشركات وبيوت التمويل الكبرى إلى انصراف القراء عنها، فتراجعت أرقام التوزيع، وبدأت الصحافة الإلكترونية والمدونات تسحب ما تبقى لها في الأسواق، حتى ليبدو أنه لا توجد مبررات منطقية أو أسباب عملية تدعو الصحافة المطبوعة إلى محاولة إنقاذ نفسها. وعندما اضطرت الصحف والقنوات الفضائية إلى بث محتواها عبر الإنترنت، فإنها كانت تعترف بأن زمنها قد ولى. وأمام ضغوط الحاجة للتمويل، وقعت الصحافة السياسية في قبضة السلطة التنفيذية، وسقطت صحافة "البيزنس" تحديدا في شباك المؤسسات المالية والشركات العقارية التي تدفع مقابل كل خبر وتحقيق وإعلان يبرز إنجازاتها ويستر عوراتها.

وكما "يرقص الشيطان في الجيوب الفارغة" كما يقول المثل الألماني، فإنه يرقص أكثر في الجيوب المنتفخة! لقد كان تحالف السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية ضد السلطة الرابعة "الإعلام" حتمية اقتصادية. أي إن سلطة أو سطوة خامسة قد تشكلت على إيقاعات الشيطان، وهي سلطة رأس المال. ومع تراجع دور الإعلام كرقيب على السلطات، بدأت السلطة السادسة وهي سلطة الإنترنت تبرز من خلال المدونات وحلقات التشبيك الاجتماعي، لكن سلطة رأس المال طالتها أيضا؛ حتى لم يعد أمام عالمنا المأزوم سوى إعادة توزيع السلطات.

خيارنا الوحيد اليوم هو: إما أن نُجلس "سلطة الأخلاق" على العرش ونقلد الضمير تاج "السلطة الأولى،" وإما أن نترك الشيطان يرقص في كل الجيوب ويخرب كل القلوب.


المحرر

[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]