القراءات الاقتصادية الحالية توضح مدى الفرق الشاسع الذي يفصل دخل الفرد والدخل القومي بين الدول المتقدمة عنه في الدول النامية، ليعكس وبجلاء مستوى الاستثمار العالي للموارد البشرية والمادية في الدول المتقدمة في مقابل تدني مستوى استثمارها في الدول النامية.




تعدو الخطوة الاولى للدول النامية السائرة صوب التقدم الى تطوير مواردها البشرية،الذي ينعكس ايجابيا على تطور مواردها المادية، وينتج عنه ارتفاع مستوى دخلها القومي، مما يخلق ارتفاعا ملحوظا لمعدل دخول افرادها، سيرا نحو التقدم والاصطفاف في مسار الدول المتقدمة.
يعد الانسان حجر الزاوية في اية عملية تنموية منشودة، فهو الذي يدفع بنمو عمله نحو تحقيق الهدف التنموي على المستوى البشري، والذي ينعكس بوضوح على العملية التنموية الشاملة التي يسعى اليها القائمون على تنفيذ الخطة التنموية في شتى المجالات، فهو رأس المال المضمون والعنصر الاساسي الذي يستند عليه لتحقيق التنمية المستهدفة، وتصب تنمية الموارد البشرية في بودقة رفع مستوى المعرفة والمهارة وقدرات القوى العاملة في جميع المجالات، مما يحقق ارتفاعا في مستوى الكفاءة الانتاجية لاقصى حدودها الممكنة، والتنمية هي مشروع مجتمعي يهدف الى تحقيق التطور الحضاري الشامل على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحديث هنا عن تنمية دائمية لا آنية او مرحلية، تهدف الى توليد النمو المرحلي فحسب، بل هي تسعى الى توزيع عائداتها بشكل عادل، فهي توسع خيارات القوى العاملة (كمواطنين لهم حق العيش برفاهية) للمشاركة في صنع القرارات المؤثرة في حياتهم، فهي تصب في صالح ذوي الدخل المتدني والمحدود، من خلال توفيرها لفرص العمل، مما يزيد من امكانية تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة، وتعد تنمية الموارد البشرية عملية تغيير حضاري بالغ الصعوبة والتعقيد، فهي تستدعي تبديلا اجتماعيا للواقع السابق للمجتمع، وذلك بأستبدال اساليب الانتاج الاقتصادي، وانماط السلوك الاجتماعي، واعادة ترتيب منظومة التجمعات الفكرية والقيمية التي تعوق التحديث والتقدم.
يستند منهج تنمية الموارد البشرية الى اساسين تنمويين هما، الاساس النظري (الايديولوجي) والذي يقوم على اساس اعداد المواطن اعدادا ايديولوجيا يتناسب ونظم البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية والدينية، لان كفاءة الايدي العاملة ومهاراتها وتثقيفها اساس التنمية والتقدم ويرتكز هذا الاساس على عنصر التعليم بدءا من التعليم في مرحلة ما قبل الدراسة الالزامية (رياض الاطفال) وصولا الى التعليم الوسيط في المعاهد المهنية المتخصصة او التعليم الاكاديمي بمرحلتيه الاولية والعليا، فالمهارة والكفاءة في جميع الاختصاصات تستند الى حجم المستوى التعليمي، والمهاراتي الذي اكتسبه المواطن في مراحله الدراسية المختلفة، وخاصة النهائية منها، مما يتطلب اعتماد مناهج تعليمية متطورة وعلمية رفيعة المستوى، بدءا باللغة واستخدام احدث المكتسبات التقنية في الدراسة، والتهيؤ للمراحل اللاحقة، وصولا الى مناهج التعليم التي يتطلب تطويرها واعادة تأهيلها مرحليا بما يتناسب وتطور العلم بمختلف اصنافه، مما يساعد على خلق جيل متعلم، وواع وكفوء، ولو بنسبة 75% منه قادر على اداء الخدمة العملية العالية الجودة والاتقان في كافة المجالات مما يسهل المهمة في المرحلة الثانية من التدريب لخلق ايد عاملة كفوءة ومنتجة، ترقى بمستوى ادائها المهني الى مصاف اداء الايدي العاملة في الدول المتقدمة.
الاساس الثاني (التدريب العملي)، يهدف الى تزويد المتدربين بالمعلومات والمهارات واعادة تأهيلهم وتهيئتهم لرفع كفاءة انتاجهم في كافة اختصاصاتهم العملية، وينقسم التدريب الى نوعين مهمين واساسيين هما، التدريب اثناء العمل، ويقوم على اساس فكرة (التلمذة المهنية) والتي تعني تلقي الايدي العاملة الجديدة للتعليمات والتوجيهات الخاصة بالعمل من خلال توارث سياسة مرؤوسيهم المباشرين، والذين يتولون تعليمهم وتدريبهم على اساسيات العمل خلال مرحلة التدريب لتوأمة الايدي العاملة الجديدة مع متطلبات العمل الادائي والسلوكي، تتبعها مرحلة تنمية الكفاءات المتوارثة من مرؤوسيهم وتطوير قدراتهم ومهاراتهم بالاعتماد على درجة الاستعداد لاتقان العمل، ويتضمن هذا النوع من التدريب انواعا منها:ـ
1. مرحلة التجربة او الاختبار، ويتم خلالها اختبار قدرات المتدرب في العمل من خلال الاداء المباشر، وتكون التجربة المباشرة، مقياس الكفاءة والقدرة وبالتالي التطور المستقبلي.
2. تنوع الوظائف، وتقوم على اساس التنقل بالمتدرب بين عدة وظائف، لاطلاعه على اكبر قدر ممكن من المعلومات والمهارات والكفاءات واختيار الوظيفة الاكثر ملاءمة وامكاناته التعليمية، والفكرية، والجسدية، مع الاخذ بالاعتبار ما تفوق فيه بين الوظائف التي تنقل فيها.
3. العمل المتجاور، وفيها يتجاور المتدرب مكانيا مع الايدي العاملة الخبيرة في العمل بهدف اكتساب الخبرة عن طريق التدريب المباشر وملاحظة اداء ذوي الخبرة السلوكي والمهني، ومن ثم تسند له بعض الاعمال، ويتم زيادتها تدريجيا تحت اشراف الخبراء في هذا المضمار، وصولا الى مرحلة الاستقلالية في انجاز الاعمال المناطة به.
4. سد الشواغر، بتكليف المتدرب باداء عمل زملائه او رؤسائه او مدربيه اثناء غيابهم بهدف وضعه في موقع المواجهة مع صعوبات العمل وازماته، وخلق القدرة لديه على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات.
5. النظام الامتحاني، ويتم فيه طرح الاسئلة على المتدرب من قبل مدربيه بين الحين والاخر عن الاجراء او القرار الانسب في حالات معينة.
6. العمل اللجاني، بعرض خبرات وآراء العاملين الكفوئين في مجال عملهم على المتدرب، بهدف رفع كفائته في القدرة على عرض وجهة نظره بأسلوب منطقي مقنع يعرض فيه كل ابعادها وجوانبها.
7. الوثائق والنشرات، توزع تعليمات وتوجيهات بأفضل الاساليب لاداء العمل والواجبات والمسؤوليات والسلوكيات الوظيفية على المتدربين بشكل نشرات دورية تهدف الى تحسين ادائهم لواجباتهم.
يجري الاسلوب الثاني من التدريب (التدريب خارج العمل)، في جهات تابعة للعمل المؤسساتي او في جهات متخصصة بالتدريب المهني والعملي مثل معاهد التدريب المهني او مراكز التدريب الاكاديمي او التدريب الخاصة ويعتمد هذا النوع من التدريب على (المحاضرات، الحلقات الدراسية، المؤتمرات، المناقشات الاكاديمية، الحوار المفتوح، دراسة الحالة، تمثيل الادوار، المباريات الادارية، والزيارات الميدانية)، والمفاضلة بين اسلوب التدريب وآخر استنادا الى درجة ملاءمة الاسلوب التدريبي والمادة التدريبية للمتدربين وطبيعة المتدربين واتجاهاتهم ومستوياتهم العلمية والتنظيمية ويقسم التدريب خارج العمل الى اربع مراحل متتابعة وهي:
1. تحديد الاحتياطات التدريبية، وتعني تحديد نوع المهارات المطلوب تنميتها.
2. تصميم برامج التدريب وذلك بترجمة اهداف الخطة التدريبية الى موضوعات تدريبية، ويتم فيها كذلك تحديد الوسائل التعليمية والتدريبية التي يتم استخدامها اثناء التدريب وتحديد المدربين في البرنامج وميزانية التدريب.
3. تنفيذ برامج التدريب، وذلك بتحديد الجدول الزمني للبرنامج التدريبي ومكان التدريب مع المتابعة اليومية لاجراءات تنفيذ برنامج التدريب المعتمد.
4. تقييم برامج التدريب، من خلال تقييم المتدربين في موقع التدريب واثنائه او تقييم رأيهم بشأن اجراءات البرنامج التدريبي.
من غير المقبول الاكتفاء بالاساسين التنمويين النظري والعملي اساسا لتنمية الموارد البشرية، فتنمية الموارد البشرية لا تتوقف عند الاتجاه العلمي فحسب، بل تتعداه الى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حياة الفرد والمجتمع، وهنا يكمن دور الدولة في تنفيذ الواجب المناط بها من الخطة التنموية الشاملة للموارد البشرية من خلال:ـ
1. تزويد المواطن بكل ما يعينه على التكيف مع المتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على المجتمع لمسايرة ركب التقدم الحضاري.
2. رفع مستوى تكيف المواطن مع التطور التقني عن طريق الخدمات الثقافية والاعلامية، وتفادي عوامل التخلف الثقافي التي تعوق البرامج التنموية.
3. المساعدة في تخليص المواطن من الشوائب الفكرية البالية والعادات والتقاليد الخاطئة المتوارثة التي قد تكون عامل اعاقة للخطط التنموية التي تبتغي رفع كفاءاته.
4. صقل شخصية المواطن في اطار فكري وقيمي وديني ومجتمعي سليم.
5. توفير الامن والعدالة لتحقيق الاستقرار الحياتي والطمأنينة المستقبلية والعدالة الاجتماعية للمواطنين.
6. زيادة المتوسط الحقيقي لدخول المواطنين مع توفير فرص العمل المثمر لهم.
7. تبني سياسة سكانية مناسبة، متناسقة ومعدلات نمو الدخل القومي.
8. الاهتمام بتركيبة المجتمع وتنظيماته المدنية المختلفة بما يضمن تنمية جهازه الاجتماعي بالكامل.