كل الديانات (إيسكاتولوجية) Eschatology بشكل أو بآخر، أي أنها تحمل في تعاليمها سيناريو ما لنهاية العالم. وفي الغالب أن هذا السيناريو لا يخلو من أفكار أساسية مشتركة مثل: فساد الأرض، وتهتك الأخلاق، والكوارث الطبيعية، وظهور المخلِّص، واندلاع الحرب الكبرى بين الأخيار والأشرار.
ولا تختلف في ذلك الأديان السماوية عن غير السماوية. بل إنه حتى الأديان التي نشأت بعيداً عن العالم القديم، وفي معزل تام عن التأثر بالأديان السماوية تحمل أفكاراً مشابهة. وفي ديانة (هوبي) التي يعتنقها الهنود الحمر قبل اكتشاف أمريكا تصورات لنهاية العالم لا تكاد تختلف عن الإسلام أوالمسيحية أوالهندوسية إلا في الأسماء فقط. الإنسان بطبيعته ميّال للإيمان بفكرة (الفساد التدريجي) ثم (الخلاص النهائي).

من الصعوبة فعلاً أن تجد ديناً حياً ليست الإيسكاتولوجية جزء من بنائه الثيولوجي، وإن اختلفت في تفاصيلها وليس في أصلها، فكل المؤمنين بدين ما يشتركون في يقينيّات متشائمة عندما يتعلق الأمر بنهاية العالم، وكلهم ينتظر مخلصاً ما يأتي في آخر الزمان، سواءً كان مسيحاً، أو مهدياً، أو ميتريا، أو كالكي آفاتار، أو ماسايا، أو باهانا، وقائمة طويلة من المخلِّصين المنتظرين.
هذه اليقين المتشابه لا يعني أبداً تسفيه الإيسكاتولوجية، فلا يوجد حكمة في معاكسة يقينيّات البشر، ولا طائل من محاولة تشكيكهم في عقائدهم. على العكس تماماً، الاتفاق البشري على يقينيّات مشتركة يبثّ الشعور بالراحة على هذا التشابه المدهش، التشابه الذي يحاول أرباب الآيديولوجيا نفيه حتى يسهل عليهم تسعير الحروب، وتبرير الكراهية، وتربية التعصب. المشكلة أن البعض ليسوا مؤمنين بالإيسكاتولوجية فقط، بل إنهم مهووسون بها إلى الحد الذي يسعون معه إلى استخدام نفوذهم السياسي والفكري والاجتماعي لخلق الظروف التي تعجّل بنهاية العالم، حتى يشهدوه بأنفسهم، ويسهموا في صناعة الحدث. وأهم أداة من أدوات تعجيل هذه النهاية هي تأجيج الصراع بين الأديان، وإقناع الأتباع بحتميّته، وأنه لا مناص منه، ولا يمكن تفاديه!
جورج بوش، والمحافظون الجدد عموماً، من أكثر المتهمين عالمياً بمحاولة (خلق ظروف نهاية العالم) بغزوهم العراق. كما أن السياسات الإيرانية المستفزة للعالم نووياً متهمة أيضاً بذلك عندما لا يبدو وراءها أي حكمة سياسية تبرر هذا العناد إلا قناعة القادة الدينيين بأن ثمة ممارسات سياسية قد تعجّل خروج المهدي المنتظر. والحركة الصهيونية برمّتها ليست إلا حركة طائفية يهودية قائمة على منطلقات ايسكاتولوجية بحتة، فالعودة إلى أرض الميعاد هي أهم إشارات نهاية العالم في المعتقد اليهودي. هاهي ثلاثة أمثلة (مسيحية، إسلامية، يهودية) حيّة وقائمة للسياسات ذات المنطلق الإيسكاتولوجي تكاد تنجح في تخريب العالم فعلاً. من المخيف أن الكثيرين جداً من أتباع الأديان المختلفة تراودهم (شهوة الخراب) هذه من أجل إرضاء معتقدهم الديني!
فلنلق نظرة على نموذجنا الإيسكوتولوجي المحلي. قبل أيام طالعنا الشيخ السعودي سلمان العودة بمقال في جريدة عكاظ أسماه (الحرب البابوية) أشار فيه إلى أن قيام البابا شخصياً بتعميد الصحفي المصري/الإيطالي مجدي علام يدلّ على حرب مسيحية ضد الإسلام. ورغم ضعف الأدلة التي ساقها إلا أن المقال يظل مخيفاً في بعده وتأثيره، لأنه موجّه لجمهور (يريد أن يسمع مثل هذا الكلام)، ومستعدٌ لكراهية المسيحية والبابا والأديان الأخرى بكل حواسه، ولا يحتاج إلى أكثر من (تحريض) بسيط، في مقال غير موضوعي، ذي روابط دلالية ضعيفة. وبالتالي فهو (الجمهور) لا يبذل أي جهد لبحث الأمر، ومساءلته منطقياً، ما دام المقال يحقق شرطين أساسين: أن كاتبه من الأسماء المزكّاة، وأن محتوى المقال (يطربهم) آيديولوجياً.
أسهب الشيخ (الذي استبشرنا باعتداله مؤخراً) في التنظير لهذه الحرب الكبرى على الإسلام في مقاله الذي، وإن جاء في السياق السلفي الكلاسيكي المعتاد، إلا أنه لا يختلف في منطلقاته ودوافعه عن الأمثلة الإيسكاتولوجية المذكورة أعلاه. فكلهم يستحثّ نهاية العالم هذه، ويسعى لتقريب موعدها بحماسة واندفاع. أولاً: بإثبات أن صراع الأديان قدرٌ بشري، ومصيرٌ لا بد أن الأرض منتهية إليه، وثانياً: بالدعوة للاستعداد (أو البدء!) في هذه الحروب، ورفع مستويات الكراهية إلى حدودها القصوى، وتقسيم العالم إلى ثنائية (معي) و(ضدي) الممجوجة.
من غير المعقول أن يكون تعميد الفاتيكان لمسلم إعلاناً لحرب على الإسلام، وإلا كان مركز دعوة الجاليات في السعودية يعلن الحرب على المسيحية آلاف المرات في السنة الواحدة، وهذا يستحيل أن يحدث في البلد التي أعلن مليكها قبل أيام عن مشروع (الحوار بين الأديان). ومن غير المعقول أن يكون انتقال البشر بين الأديان (بمحض اختيارهم) هي مؤشرات حرب، ودلائل مؤامرة، ونذر (مبشرة) بنهاية العالم. أعتقد أن الشيخ سلمان العودة، مدفوعاً بالسلوك السلفي التقليدي وراء البحث عن إثباتات لنظرية الحرب بين الأديان، لم يحسن (لي عنق) الممارسة البابوية وتحويلها إلى (طبل حرب دينية)، وبالغ في تحميل الأفعال البابوية إشارات غير واقعية.
جلسة التعميد تلك التي ذكرها الشيخ في مقاله اشترك فيها سبعة أشخاص دخلوا في المسيحية من أديان وبلدان مختلفة (إيطاليا والكاميرون والصين وأمريكا والبيرو)، ليس فيهم إلا مسلم واحد، فكيف صارت جلسة حرب على الإسلام فقط، وليس على بقية الأديان الأخرى؟ ثم إن تعميد البابا (للكبار) عادة كنسيّة سنوية كل (عشية عيد القيامة)، بينما ذكر العودة في مقاله أن التعميد للصغار فقط، وبالتالي (ظنّ) الشيخ أن تعميد الكبار هذه المرة كان كيداً للإسلام. كما أن (عشية عيد القيامة) هذه السنة قد وافقت يوم الجمعة، فظنّ الشيخ أن اختيار يوم الجمعة لتعميد سبعة بينهم مسلم كان مقصوداً، فهل توقّع الشيخ أن يغيّر بابا الفاتيكان (عيد القيامة) الذي يحتفل به أكثر من ملياري إنسان في العالم حتى يتجنب الجمعة؟
ختم الشيخ سلمان العودة مقاله ((إن هذا التعميد المتعمّد عمل مدروس، وهو رسالة مفخخة مشفرة؛ يلتقطها الأتباع ليسيروا في إستراتيجية جديدة، تستهدف مواجهة الإسلام، وتحاول أن تستمسك بما تبقى من آثار سلبية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأن تدشّن مرحلة جديدة من محاربة هذا الدين وأهله.
إن هذا الدين عزيز ومنصور، ولو كره الأفّاكون والمشركون، وقد مضى الوعد الإلهي بأن يظهره الله على الدين كله)). لاحظوا معي نوعية الألفاظ التي اختارها ليختم المقال ((متعمد، مدروس، محاربة، المشركون، الأفاكون))، ثم في النهاية تأتي الكلمة الإيسكاتولوجية المعتادة ((الوعد الإلهي!)).

من حق الشيخ سلمان العودة أن يؤمن بما يشاء، وأن يفسّر ممارسات البابا بالطريقة التي يراها منطقية، وتخدم مشروعه الفكري والدعوي. ولكن من الضروري جداً، في سياق هذه الحرية، أن ننتبه إلى الهاوية الإنسانية التي يقودنا إليها مثل هذا المشروع، والمشاكل التي يطرحها في طريق الإنسانية. فتعمّد ترويج نظرية الحروب الحتمية بين الأديان يعطّل مشاريع الحوار بينها، ويجهض جهود دعاة السلام والتآخي الديني والعالمي، كما أنه يتضمن تطفيفاً بيّناً في الكيل بين الميزانين الإسلامي والمسيحي عندما يذكر العودة في مقاله أن الملايين في أوروبا يدخلون في الإسلام، ولا يرى في ذلك حرباً على المسيحية، وعندما يعمّد البابا مسلماً واحداً (فهذه حرب على الإسلام!)