الاستثمار في اللغة والعرف استخدام الأموال في الإنتاج، إما مباشرة، بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر، كشراء الأسهم والسندات [1]، والمراد به هنا تنمية المال وتكثيره بكل الطرق المتاحة لذلك، سواء عن طريق التجارة أو الزراعة أو الصناعة، أو غير ذلك مما قد يستجد من وسائل التنمية.
الدول الأجنبية:
الدولة في اللغة والاصطلاح هي مجموع كبير من الأفراد يقطن بصفة دائمة إقليما معينا ويتمتع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي. [2]
والأجنبي في اللغة والعرف هو من لا يتمتع بجنسية الدولة، وجمعه أجانب. [3]
وعلى ذلك فالدولة الأجنبية هي الدولة التي لا يحمل الإنسان جنسيتها، وعليه فيكون الأمر نسبيا، فالدولة التي يحمل الإنسان جنسيتها تدعى في حقه دولة غير أجنبية، وفي حق غيره دولة أجنبية.
وليس المراد به هنا هذا المعنى، وإنما المعنى المقصود بالدول الأجنبية في بحثنا الدول غير الإسلامية، وهذا يقتضينا أن نعرِّف الدولة الإسلامية، والدولة غير الإسلامية (الأجنبية)، لنمايز بينهما ، ونفارق بينها وبينها.
فالدولة الإسلامية هي الدولة التي تعيش في دار الإسلام، والدولة غير الإسلامية هي الدولة التي تعيش في غير دار الإسلام، وهو ما يطلق عليه من قبل الفقهاء المسلمين دار الحرب، أو دار الكفر، وهذا يقتضينا أن نعرف دار الإسلام ودار الحرب.
فأما دار الإسلام، وتسمى دار العدل، فقد اختلف الفقهاء في تحديدها على آراء، أوضحها وأصحها في نظري هو قولهم: دار الإسلام هي كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام، ونفذت فيه أحكامه، وأقيمت فيه شعائره، من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، سواء كان سكانه كلهم من المسلمين، أو فيهم المسلمون وغير المسلمين.
ودار الحرب هي الدار التي لا تطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية، سواء كان فيها سكان مسلمون أو لم يكن فيها أحد من المسلمين، وتسمى عند البعض دار الشرك.
وعلى ذلك فالمعيار في التفريق بين دار الإسلام ودار الحرب هو السلطة، وليس السكان، فإن كانت السلطة فيها للمسلمين، فهي دار إسلام، ولو كان فيها بعض من غير المسلمين، وإن كنت السلطة فيها لغير المسلمين فهي دار حرب، وإن كان فيها سكان مسلمون، وليس المراد بالسلطة دين القائد الأعلى فقط، بل المراد به الحرية في ممارسة الشعائر الدينية والأحكام القضائية.
قال محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة رحمهم الله تعالى: (المعتبر في حكم الدار هو السلطان والمنعة في ظهور الحكم) [4] .
وقال أبو حنيفة: (لا تصير دار الإسلام دار حرب إلا بشروط ثلاثة:
- ظهور أحكام الكفر ونفاذه فيها.
- أن تكون متاخمة لدار الكفر.
- ألا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بأمان المسلمين الذي كان يتمتع به). [5]
وبناء على ذلك، فقد اصطلح قادة ورؤساء الدول في العالم المعاصر، على تمييز الدول الإسلامية عن الدول غير الإسلامية، في تجمعات وتكتلات ومعاهدات مختلفة، منها منظمة العالم الإسلامي، التي يتبعها مجمع الفقه الإسلامي في جدة.
الضوابط:
الضابط في اللغة والعرف: حكم كلي ينطبق على جزئياته، ويجمع على ضوابط [6].
المخاطر:
الخطر في اللغة والعرف: الإشراف على الهلاك، والمخاطر هي الأمور التي تورِث أو تستجمع الخطر أو تحتوي عليه [7].

وسائل الاستثمار الإسلامية
الأصل في استثمار الأموال في الشريعة الإسلامية الإباحة، للقاعدة الفقهية: (الأصل في الأشياء الإباحة)، ولأن الشارع الإسلامي أباح التجارة والصناعة والزراعة بنصوص كثيرة في القرآن والسنة.
كما مارس الصحابة الكرام هذه الوسائل الاستثمارية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ويرى ذلك منهم، فلم ينكر ذلك عليهم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم مارس التجارة فعلا قبل البعثة النبوية الشريفة، عندما عمل في تجارة خديجة بنت خويلد، ثم تزوج منها بعد ذلك رضي الله عنه.
من ذلــــك:
- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29) والتجارة من أهم وسائل الاستثمار للمال.
- وقوله سبحانه: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا)(البقرة: من الآية282).
- وقال صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي.

التزام الشركات الإسلامية بالقوانين التجارية
في الدول غير الإسلامية:
للاستثمار في التشريع الإسلامي ضوابط متعددة، تضمن العدالة والرضا ومصالح المجتمع العامة لكل أطراف الاستثمار، سواء كان ذلك بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غير ذلك، وهذه الضوابط عامة، تشمل كل أنواع الاستثمار، وأهمها الرضا، وتحقق العدالة، بين جميع أطراف الاستثمار على سواء، ولا يفرَّق هنا بين مسلم وغير مسلم، ولا بين من يسكن دار الإسلام ومن يسكن دار الحرب، إلا في بعض الأحكام الإجرائية التي تضمن مصلحة جميع الأطراف، استثناء من القواعد العامة لمعان أو مصالح خاصة.
ولا يمكن الحكم على أي من أنواع الاستثمار بالصحة إلا أن يكون الاستثمار موافقا للطرق والضوابط الإسلامية كلها، التي تضمن العدالة وحرية الرضا للجميع، سواء كان أطراف الاستثمار كلهم من المسلمين، أو بعضهم من المسلمين والبعض الآخر من غير المسلمين، ذميين كانوا أو مستأمنين، وسواء كان الاستثمار جاريا في بلاد المسلمين أو في بلاد غير المسلمين، فإذا كان أطراف الاستثمار كلهم من غير المسلمين، لم نلزمهم بتطبيق الشروط الإسلامية، بل نتركهم وما يدينون، لقول علي رضي الله عنه: (أمرنا أن تركهم وما يدينون) [8] إلا أن يمس تصرفهم النظام العام، فيمنعون منه عند ذلك في دار الإسلام، حماية للنظام العام (حق الله تعالى)، كبيعهم الخمرة أو الخنزير في الأسواق العامة، فإنهم يمنعون منه، ويسمح لهم به في أسواقهم الخاصة بهم، وهذا خاص في دار الإسلام، أما دار الحرب، فلا نتدخل فيها بين غير المسلمين، فإذا كان أطراف الاستثمار من المسلمين كلهم، أو بعضهم من المسلمين وبعضهم من غير المسلمين، وجب تطبيق الشروط الشرعية عليهم جميعا، لأن المسلم لا يعفى من الانضباط بالشروط الإسلامية في جميع تصرفاته، أينما كان مقامه، ومهما كانت الأطراف الأخرى التي يتعامل معها.
وعليه، فلا يجوز لمسلم أن يبيع الخمرة ولا أن يشتريها، سواء كان ذلك في بلاد المسلمين أو في بلاد غير المسلمين، وسواء كان الطرف الآخر مسلما أو غير مسلم، ومثل ذلك بيع الخنزير، والمحرمات الأخرى.
وربما جرى الاختلاف بين الفقهاء في التصرفات الربوية، فهي محرمة بين المسلمين، سواء كانوا في دار الحرب أو في دار الإسلام، باتفاق الفقهاء، وكذلك مع غير المسلمين في دار الإسلام، أو في دار الحرب، على سواء عند جماهير الفقهاء، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن تلميذه: لا بأس بأن يأخذ المسلم من الحربي الربا في دار الحرب، ببيع أو غيره، وكذلك من المسلم في دار الحرب خاصة، أما دفعه الربا فلا يجوز مطلقا، سواء كان الآخذ له مسلما أو ذميا أو حربيا، وسواء كان ذلك في دار الإسلام أو في دار غير المسلمين على سواء، جاء في بدائع الصنائع ما يلي:
(وَلا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) (وَلا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) هَذَا قَوْلُهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لأَنَّهُ مَعْنًى مَحْذُورٌ فِي دَارِ الإِسْلامِ فَكَانَ مَحْذُورًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمَانٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَالِ الْحَرْبِيِّ بِغَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا أَخَذَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَإِذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ فِي الأَصْلِ إلا مَا حَظَرَهُ الأَمَانُ، وَقَدْ حَظَرَ عَلَيْهِ الأَمَانُ أَنْ لا يَأْخُذَ مَالَهُ إلا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ مَالَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ فَبَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، جَازَ الرِّبَا مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لا يَجُوزُ؛ لأَنَّهُمَا مُسْلِمَانِ، فَلا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا الرِّبَا، كَمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِنَا، وَلأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَالٍ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مَالِهِمْ، أَلا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَأَمَّا إذَا هَاجَرَ إلَيْنَا، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ الرِّبَا مَعَهُ، لأَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ مَالَهُ بِدَارِنَا فَصَارَ كَأَهْلِ دَارِ الإِسْلامِ) [9]، ففهم من ذلك بعض الناس أن أبا حنيفة ومحمدا يبيحان الترابي في دار الحرب مع غير المسلمين، ويبيحه أبو حنيفة مع المسلمين فيها، وهو مغاير للحقيقة، ولو كان الأمر كذلك لأجاز الإمامان الجليلان للمسلم إعطاء الربا لغير المسلمين في دار الحرب، كما أجازا له أخذه فيها، وهو ما لم يقولا به، فدل ذلك على أنهما يقصدان بإباحتهما للمسلم أكل الربا من غير المسلم في دار الحرب معنى آخر، وهو أن الربا محرم فقط في الأموال المصونة، وأموال غير المسلمين في غير بلاد المسلمين غير مصونة باتفاق الفقهاء، فجاز أخذ الربا فيها من غير المسلم لذلك، وهذا مشروط فيه أن لا يكون فيه مصلحة لغير المسلمين قطعا، وإلا حَرُمَ، ويقوي هذا المعنى أن الإمامين مع عامة الفقهاء في منع الترابي مطلقا بين المسلم وغير المسلم في دار الإسلام، كمنعه بين المسلمين بعضهم مع بعض مطلقا، لأن مال غير المسلم في دار الإسلام مصون باتفاق الفقهاء، سواء كان ذميا أو مستأمنا، ولو كان الترابي بين المسلمين وغير المسلمين مباحا لاستوى أن يكون في دار الحرب أو دار الإسلام.
وعليه أيضا فلا يجوز للمسلم إذا دخل دار الحرب بأمان منهم (تأشيرة دخول) أن يخالف قوانين دار الحرب في أمور التجارة أو غيرها، ما دامت لا تناقض نصا صريحا في القرآن أو السنة، لأن ذلك غدر وخيانة منه، وهما محرمان على المسلم أينما كان، لعموم النصوص الشرعية القاطعة في ذلك، ومنه قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34) وقوله تعالى: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4).
جاء في كتاب بدائع الصنائع ما نصه: (وَإِذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ فِي الأَصْلِ إلا مَا حَظَرَهُ الأَمَانُ، وَقَدْ حَظَرَ عَلَيْهِ الأَمَانُ أَنْ لا يَأْخُذَ مَالَهُ إلا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ) [10]
ولكن إذا كانت قوانينهم أو بعضها تخالف الأحكام الإسلامية القاطعة، فإن كانت اختيارية لم يجز للمسلم اختيارها، كما في كثير من الرخص التي يبيحون له التمتع بها، مما فيه مخالفة لحكم الله تعالى، كشرب الخمرة، والدخول إلى البارات والمراقص ودور اللهو، وغير ذلك، لحرمة ذلك في الإسلام.
وإن كانت إلزامية، كأن يلزموا المسلم الداخل إليهم بدفع الربا، أو ببيع الخنزير، أو بالبيوع الفاسدة، أو ممارسة الفاحشة، أو ... فلا يجوز له الموافقة على ذلك، ولكن إن أعفي منها من قبلهم فبها، وإلا وجب عليه الخروج من دارهم، توقيا للوقوع في الحرام في التزامها، ولا يجوز له البقاء في دارهم والامتناع عن تنفيذها خفية عنهم، لما في ذلك من الغدر بهم، وهو محرم على السلم في حق كل الناس، ، كما لا يجوز له تنفيذها للوصول إلى بعض مصالح مالية أو غيرها، لما في ذلك من التورط في الحرام.

التحايل غير القانوني بعدم دفع الضريبة
في الدول غير الإسلامية
ومن الأمور المهمة التي يجب بحثها في مجال التجارة مع غير المسلمين في بلادهم، مشكلة التحايل والتملص من دفع الضرائب للدول غير الإسلامية ببعض أنواع الحيل، المخالفة لقوانينهم وأنظمتهم، فقد شاع بين البعض جواز ذلك بأي طريق كان، ولو احتاج المسلم فيه إلى الرشوة أو الغش أو الكذب، بدعوى أن في ذلك الحفاظ على مال المسلم من أن يخرج عنه لغير المسلمين، وهو مصلحة معتبرة في ذهن من يقول بذلك، وهو ما أذرى في كثير من الأحيان بكثير من التجار المسلمين، بل كثير من المسلمين العاديين المقيمين في دار غير المسلمين للعمل أو الدراسة أو غير ذلك، ودعا السلطات المسؤولة في تلك البلدان إلى طردهم أو سجنهم أو تغريمهم أو غير ذلك من العقوبات، وهو ما ألحق بالمسلمين عامة تهمة الهمجية والخروج عن الآداب الاجتماعية.
والإسلام براء من ذلك كله، فالإسلام يأمر بالأمانة والصدق وعدم الغش وعدم التدليس مع كل الناس، مسلمين وغير مسلمين، سواء كانوا في بلاد المسلمين أو بلاد غير المسلمين قال صلى الله عليه وسلم: (من غش فليس منا) رواه الترمذي، فقد جاء النهي النبوي مطلقا، فيعم المسلمين وغير المسلمين، في أي البلاد كانوا، على سواء، ثم إن فيه تعريض المسلم للعقوبة والإهانة وهو محرم شرعا، لأن الله تعالى خلق الإنسان مكرما، فلا يجوز له أن يذري بهذه الكرامة التي كرمه الله تعالى بها، قال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70) ، ويؤيد ذلك ما جاء في بدائع الصنائع قبل قليل، وهو ما يلي: (وَإِذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ فِي الأَصْلِ إلا مَا حَظَرَهُ الأَمَانُ، وَقَدْ حَظَرَ عَلَيْهِ الأَمَانُ أَنْ لا يَأْخُذَ مَالَهُ إلا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ)
التحايل القانوني بعدم دفع الضريبة
في الدول غير الإسلامية
وربما يذهب بعض المسلمين إلى التحايل على عدم دفع الضريبة باستغلال طرق قانونية تؤدي إلى ذلك، وذلك بالرجوع إلى مختصين قانونيين من أهل تلك البلاد، لإطلاعهم على الطرق والنصوص القانونية التي تمكنهم من عدم دفع بعض الضرائب التي كلفوا بها في بلاد غير المسلمين، هذا الأمر في الحقيقة يختلف تماما عما قبله، لأن المسلم في الأصل غير مكلف بأي ضريبة للدولة في دار الإسلام، سواء كان تاجرا أو غير تاجر، إلا إذا قضت مصلحة المسلمين ذلك، حيث يجوز في هذه الحال لولي أمر المسلمين أن يفرض من الضرائب على القادرين عليها من المسلمين بما يلبي المصلحة العامة دون زيادة، وعليه في هذه الحال أن يصرفها في المصالح التي جمعت من أجلها، فإذا أعفى ولي الأمر بعض الناس من الضرائب لمعان موضوعية خاصة، لم يلزمهم دفعها، وكذلك غير المسلمين إذا أعفوا المسلمين في بلاد غير المسلمين من الضرائب بنصوص قانونية، فإنه يجوز لهم التمتع بهذا الإعفاء، على خلاف التهرب من دفع الضرائب بطرق غير قانونية.

التغيير في بيانات الميزانية لتضليل الضريبة
في الدول غير الإسلامية
كما لا يجوز للمسلمين في بلاد غير المسلمين التهرب من دفع الضرائب، بالتملص من القوانين المطبقة في بلادهم، لما فيه من الغش والكذب والغدر، وكل ذلك من المحرمات شرعا مطلقا، فكذلك تضليل الضريبة، بإخفاء الحسابات والدفاتر الحقيقية، وإظهار حسابات ودفاتر مزورة، توصل إلى الإعفاء أو التخفيف من الضرائب المفروضة قانونا، لأن ذلك من المحرمات شرعا بين المسلمين وغير المسلمين، في دار الإسلام أو في غير دار الإسلام على سواء، ولأن الضرائب التي تفرضها القوانين الأجنبية في بلادها يجب على المسلمين المقيمين في تلك البلاد دفعها كاملة برضا نفس، خُلُقاً ودِينا، لأنها مشروطة عليهم حكما عند دخولهم تلك البلاد بإذن خاص من القائمين عليها، ومخالفة ذلك غدر وخيانة وكذب وغش وتدليس وتزوير، وكل ذلك من المحرمات المنافية لأخلاق المسلمين، وشريعة المسلمين، كما أنه يلحق بالمسلمين شينا، الإسلام براء منه، وما دخل الإسلام إلى كثير من بلدان الشرق سابقا، ويدخل لاحقا، إلا عن طريق صدق التجار المسلمين الذي ذهبوا إلى تلك البلاد، وتعاملوا فيها مع أهلها، بصدق وأمانة، فيكون في تغيير هذه الصفات الإسلامية العالية تفويت الفرصة على سكان تلك البلاد من التعرف على الإسلام، وذوق حلاوته عن طريق سلوك المسلمين، وذلك ظلم كبير لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من أجله، فهو رحمة للعالمين، قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) .

تعقيــب:
ما تقدم هو الحكم الإسلامي في الاستثمار خارج الدول الإسلامية، من الناحية الموضوعية، وفق الأحكام الأساسية للشريعة الإسلامية.
إلا أن هنالك أحكاما أخرى لهذا الاستثمار، مصلحيَّة، متعلقة بمدى جدواه ومنافعه، أو سلبياته ومضاره، على المجتمع الإسلامي عامة، فقد يلحق هذا الاستثمار بالمجتمع الإسلامي العام أضرارا أو سلبيات، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو.... ، وقد يعود عليه بمنافع وإيجابيات، في كل ما تقدم أو بعضه، فيكون ممنوعا شرعا في الحالات الأولى، ومشروعا في الحالات الثانية، وفق ما يحققه من مصالح، أو يجرُّه من مضار، على المجتمع الإسلامي العام، وهذا حكم يقدره علماء الأمة وقادتها وأمراؤها، الصادقون المخلصون، وهو أمر متغير من زمان إلى زمان، ومكان إلى مكان، بحسب مقتضيات الحال، ولا يكون حكما دائما لا يتغير.
فربما قوى هذا الاستثمار للأموال الإسلامية في الدول الأخرى هذه الدول، فاستعانت به على عداوتها للإسلام، أو عداوتها لبعض الدول الإسلامية، وربما قوت به هذه الدول أعداء المسلمين، بالسلاح أو غيره.
وربما كان هذا الاستثمار في الدول غير الإسلامية ضروريا لحياة المسلمين في بلادهم، أو ضروريا لتنمية اقتصادهم، أو تأمين الضروريات لهم، كل ذلك وارد وممكن، وهو محل تقرير مشروعية هذا الاستثمار، أو عدم مشروعيته.

خلاصة البحث:
يتبين ممن تقدم أن المسلمين تجارا وغير تجار، ملتزمون بالأخلاق الإسلامية، والشرائع والأحكام الإسلامية، في كل تعاملاتهم، في أي البلاد كانوا، وأنهم منفتحون على التعامل مع كل الناس، على اختلاف مللهم ودياناتهم وأعراقهم ولغاتهم، بصدق وأمانة واستقامة، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم. وذلك قمة الحضارة والتقدم والرقي، وهي صفات المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا.
والله تعالى أجل وأعلم.


بحث أعده
أ.د. أحمد الحجي الكردي