ربما لم يسبق لهذا العصر مثيل في تاريخ الإنسانية من حـيث القـوة القـاهرة لسلطان التضليل وتشويه الحقائق وإلباس الحق ثوب الباطل والبـاطل ثوب الحق. إن تكنولوجيا الإعلام، وتصريحات السياسيين، وكتابات المثقفين قد خلقت فتنة تشبه إلى حد يدعو إلى الدهشة ما تصف به النصـوص الدجال الذي يأتي آخر الزمان.
وهذا الوضع يقتضي الإسـتجابة للحاجة الماسة إلى مقاومة الفتنة، والتصدي للدجل، ونصر الحـقيقة، وأن تبذل في هذا السبيل أقصى الجهود على كل المستويات.
على أثر الهجوم الفظيع على برجي التجارة في نيويورك في 11سبتمبر 2001م قُدِّم تفسير واحد لهذا الحدث المروع، وقد بني هذا التفسير على أدلة هشة، وعلى معلومات متضاربة المصدر، وعلى معلومات تظهر خروقها فترقّع بمعلومات أخرى كما تستر الكذبة بالكذبة، وبالرغم من أن كل هذه الأمور تصلح أدلة للنفي أكثر من صلاحيتها أدلة للإثبات فقد فرض على العالم قبول هذا التفسير ورتبت عليه تداعيات خطيرة كان من بينها ما كان التخطيط له معلومًا قبل الحادث، وكان من بين هذه التداعيات الغارة بالقول والفعل على المؤسسات الخيرية الإسلامية، واتهامها بالإرهاب.
قبل ظهور كتابة هنتجتون (صراع الحضارات) والجدل الذي أثارته هذه الكتابة، كان الرئيس الأمريكي نيكسون بعد تركه كرسي الحكم زار الاتحاد السوفيتي حين كانت الشيوعية لا تزال في عنفوانها، وظهر من تصريحاته محاولة إقناع أقطاب الشيوعية بأنه يمكن التعايش بين نظامي الحضارة الغربية الشيوعية والرأسمالية، وأنه يمكن تجاوز ظروف العداء بينهما بناء على حقيقة أن النظامين نتاج حضارة واحدة وثقافة واحدة، وأن العداء الحقيقي بين الحضارة الغربية والإسلام، وعلى إثر تفكك الاتحاد السوفيتي وانتصار العالم الغربي الحر، وعى الناس جـميعًا تصـريح الأمين العام لحلف الأطلسي بأنه بعد انهيار الشيوعية أصـبح العدو الظاهر للغرب الإسلام.
وكشفت تصريحات لمسئولين في قسم الاستخبارات في حلف الأطلسي أن افتراض عداوة الإسلام كانت دائمًا عنصرًا غير غائب في استراتيجية الحلف.
وقبل سنوات عني أحد الباحثين بوضع فرضية أدخلها في حاسوبه الشخصي، وظل يرصد الأحداث وتصريحـات السـياسيين التي لها صلة بهذه الفرضية، وكان يدهش كيف أن الوقائع ظـلت تؤيد فرضيته؛ لقـد بنى هذه الفرضية في شكل هرم كُتب على ثلثه الأعلى الجـهاد، وعلى ثلثه الأوسـط المؤسـسات الخيرية والمؤسـسات المالية، وعلى قاعدته القـيم والمـبادئ، وقد افترض أن الغـارة على الإسلام -في صــراع الحـضارات- سـوف يكون هدفها الأول الجـهاد وهـدفها الأخيـر القـيم والمبادئ مرورًا بالمؤسـسات الخـيرية والمالية.
قبل تاريخ 11سبتمبر 2001م كانت حركات العنف في سنكيانج وكشمير والشيشان تظهر في تصريحات السياسيين، وفي لغة وسائل الإعلام، على أنها حركات مقاومة، أو على أسوأ التعبيرات حركات انفصال، أو على الأسوأ من ذلك حركات تمرد، وفجأة تغيرت لدى وسائل الإعلام وتصريحات السياسيين في الغرب حقيقتها فصارت تسمى حركات إرهاب، وصارت المؤسسات الخيرية النشطة في مجال العمل الإنساني للتخفيف عن معاناة ضحايا هذه الحركات تتهم بمساعدة الإرهاب، وتلاحق بهذه التهمة.
فجأة أصبحت حقيقة الحركة العسكرية في شمال القارة الهندية (كشمير) تختلف عن حقيقة الحركة العسكرية في جنوب القارة الهندية (نمور التاميل). أصبحت في الشرعية الدولية الحركة العسكرية في الشمال (الشيشان) تختلف عن الحركة العسكرية في الجنوب (السـودان).
أصبحت المؤسسـات الإنسـانية التي تنشط للتعامل مع مآسي ضحايا الحرب الشيشانية في الشمال موضوع شبهة واتهام، في حين ظلت المؤسسات الأخرى التي تدعم المحاربين في قوة (جارنج) في جنوب السودان بعيدة عن أي شبهة أو اتهام.

ولكن لماذا يتخذ الغرب الإسلام عدوًا له ؟
لا أحد يمكن أن يقول إن العالم الإسلامي - الذي وصفه وزير الخارجية الهندي بأنه لا حول له ولا قوة - يمكن أن يشكل في الحاضر أو المستقبل أي تهديد للغرب.
أما في الماضي: فخلال المائة سنة الماضية كان العالم الإسلامي في مواجهة الغرب هو المغزو لا الغازي؛ فلمْ يكن المغرب هو الذي غزا أسبانيا، ولم يكن المغرب أو تونس أو الجزائر أو سوريا أو لبنان أو مالي أو السنغال هي التي غزت فرنسا، ولم تكن ليبيا أو الصومال هي التي غزت إيطاليا، ولم تكن مصر أو السودان أو فلسطين أو العراق أو اليمن أو الأمارات الإسلامية الهندية هي التي غزت بريطانيا، كما لم تكن إندونيسيا هي التي غزت هولندا، ولا يمكن اعتبار المصالح الاقتصادية أو السيطرة على النفط هي العامل الوحيد في التهديد الحربي الذي يوجهه الغرب الآن لبلدان إسلامية؛
وإلا فلماذا اهتمت النرويج أو إيطاليا بإرسال أبنائها للقتال في أفغانستان؟. إن العامل الأهم في هذه العداوة عامل ثقافي؛ وهذا يفسر سرعة تقبل الرأي العام في الغرب لفكرة ربط الإسلام بالعنف والعدوانية والإرهاب،
ويفسر كيف أن بلدًا مثل السويد استحقت بأن تَعُدَّها تقارير U.E.M.C الصادرة بعد ثمانية أشهر من حادث 11 سبتمبر ضمن أربع دول أوربية كانت الأبرز دورًا في موجة العنف التي تعرضت لها الأقليات الإسلامية، مع أن السويد تصنف عادة بأنها أكثر بلدان الغرب تقدمًا فيما يتعلق بحقوق الإنسان واحترام الحريات العامة، وأكثرها تسامحًا تجاه الأقليات والأجانب.
كما أن هذا يؤيد الملاحظة التي لاحظها عدد من المستشرقين، من أن الغرب ينظر بتسامح كبير إلى ديانات مثل البوذية والهندوكية، ولكن في حالة الإسلام فإن رد فعل الغرب تجاهه لا يكون عادة عقلانيًا، وإنما يكون دائمًا عاطفة سلبية عارمة.
لا شك أن للموروثات الثقافية( Culture ) أثرًا في تكوين هذا الاتجاه لدى الغرب ضد الإسلام، ولكن شعور الغرب بندية الإسلام وقوته الروحية( وهو يختلف عن شعوره تجاه الديانات الأخرى التي يراها بدائية، ولا ترقى لتكون ندًا لدياناته أو ثقافته)؛ هذا الشعور هو الذي له أثره الغالب في تكوين اتجاه الغرب العدائي ضد الإسلام.
يزيد هذا الشعور حدة عدم ثقة الغرب بأنه يملك أسباب النصر في معركته الثقافية ضد الإسلام، وتجاربه التاريخية لا تشجعه على مثل هذه الثقة: { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } إبراهيم: 46.
في 12 سبتمبر 2001م قال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في خطابه الموجه للصحافة: " سيكون الصراع بين الخير والشر صراعًا تاريخيًا لكن سيسود الخير في النهاية ".
وعبر الفيلسوف الكاثوليكي جاك ماريتان عن هذا المعنى تعبيرًا أدبيًا جميلاً حيث قال: " في أسعد فترات التاريخ كان الشر يعمل في خفية لتحقيق أهدافه، وكذلك فإنه في أحلك العصور ظلمة يظل الخير على أهبة دائمة يعمل باستمرار على تحقيق انتصارات غير متوقعة وغير ظاهرة ".
إن المسلم يؤمن - بمقتضى إسلامه - بأن كلمة الله هي العليا، وأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن النصر في النهاية للخير على الشر، والعزة لله ورسوله وللمؤمنين. { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {9/32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 32، 33]، { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } يوسف 21.
وما على مسلم اليوم إلا أن يستيقن بأن الهزيمة الحقيقية ليست الهزيمة المادية وإنما هزيمة الروح، وهزيمة الروح أو انتصارها بيد الإنسان لا بيد عدوه الخارجي.

الشيخ . صالح بن عبد الرحمن الحُصيِّن